طلال سلمان

العرب تحت الحصار نموذج لبنان: بقليل من الديموقراطية والمقاومة تنقل المشكلة الى المعسكر الاخر

في القمة التاسعة عشرة لمجلس التعاون الخليجي التي انعقدت في أبو ظبي (7 9 ك1/1998)، أي عشية الضربة الاميركية »الجديدة« للعراق، كان قادة تلك الدول الست المخضعة لابتزاز اميركي مفتوح يعيشون حالة ضيق معلنة: كانوا يشعرون بأنهم محاصرون، وبأنهم يستنزفون يوميا وبشكل منهجي آلياً وسياسياً، وأنه ممنوع عليهم ان يحاولوا فك الحصار…
وهكذا، وبعد »معركة« داخلية مؤلمة، اضطر رئيس دولة الإمارات الشيخ زايد بن سلطان الى »الاعتذار« عن دعوته ذات الطابع العاطفي (حتى لا نقول »القومي«) الى »مصالحة عربية«، والى طلب السماح من إخوته عن هذا »التطرف« الذي يكاد يخرق »المحظور«.
وكان ان شطب من »إعلان أبو ظبي« كل ما يتصل بالدعوة الى كسر الحصار بالتوجه نحو »المصالحة العربية«!
قبل ذلك بأيام قليلة، كان وزراء خارجية هؤلاء القادة أنفسهم، ومعهم وزيرا خارجية كل من مصر وسوريا، قد تلاقوا في ظل الراية الممزقة ل»إعلان دمشق«، ليكتشفوا ان طوق الحصار قابل للتوسع باستمرار، وأن »السيد الاميركي«، وهو من يحاصرهم، قادر على ادعاء النطق باسمهم، وإصدار بيانهم المشترك من قبل ان يكتبوه!
ليس العراق وحده تحت الحصار.
كل الارض العربية، كل الارادة العربية، كل الحكومات العربية، كل المؤسسات العربية، تحت الحصار.
وليس لبنان خارج الطوق، وإن كان مما يخفف عنه شعوره بالحصار أنه يشكل مع سوريا نموذجا فريدا في الدنيا العربية… ذلك ان بيروت ودمشق تواجهان معاً، حالة الطوارئ القائمة، بقرار موحد.
لكنهما معاً، وفي ظل تضامنهما الكلي، تحت الحصار أيضا.
ولعل الحصار عليهما أثقل بسبب الاحتلال الاسرائيلي الضاغط مباشرة في ظل رعاية اميركية مفتوحة، وجهها الآخر إكمال طوق الحصار من حول هذا »الشعب الواحد في دولتين«.
ولأن فلسطين هي مصدر الخطر فإن حصارها هو الأثقل وهو الأشمل: فهو مفروض في الداخل وعلى الداخل، ثم في داخل الداخل، وقائم في الخارج ومن خارج الخارج.
إنها محاصرة، بداية، بسلطتها المدجنة والخاضعة للاحتلال الاسرائيلي.
ثم إنها خاضعة للاحتلال الاسرائيلي بأغلاله الثقيلة التي تطال مختلف جوانب الحياة، أمنياً واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا، بطبيعة الحال..
وخاضعة، أيضا وأيضا، للرعاية الاميركية سياسيا، وللضبط الامني المباشر بواسطة المخابرات المركزية الاميركية، التي تستعين بها سلطة عرفات على الموساد والشين بيت وسائر أجهزة الامن الاسرائيلية.
مع ذلك، فإن لبنان يظل للفلسطينيين نموذجا يحتذى، بسبب النجاح الملحوظ، سياسيا بالأصل، ثم عسكريا وأمنيا، الذي حققته مقاومته الوطنية الاسلامية الباسلة.
إن حقيقة ان لبنان تحت الحصار لم تلغِ، بل لعلها أبرزت، الحقيقة الاخرى، وهي ان لبنان قد نجح بمقاومته في ان ينقل الشعور بالضيق بل بالأزمة الى معسكر عدوه: أي الاحتلال الاسرائيلي.
ولعل المجزرة الاسرائيلية الاخيرة (حتى كتابة هذه السطور!) والتي أودت بحياة أم وأبنائها الستة في خراج جنتا البقاعية، على التخوم مع سوريا، ثم الرد القوي عليها من طرف المقاومة، قد أكد هذه الحقيقة البسيطة، وهي أنك لا تستطيع الانتصار على الحصار والمحاصرين إلا بمقاومتهم.
وقد لا تسقط المقاومة الحصار تماماً، لكنها تجعله مشكلة لمن يفرضه على المستضعفين، وبهذا يصبح ممكناً »مناقشة« الأمر بقدر من »التكافؤ«.
وإذا تأمّلنا في »النموذج اللبناني« لأمكننا استخلاص الدروس التالية:
} على مدار الساعة تتوالى تهديدات قادة التطرف الاسرائيلي بتدمير بنيته التحتية بالغارات الجوية والقصف المدفعي وعمليات الوحدات الخاصة، او بخلخلة بنائه السياسي والعسكري بالإقدام على انسحاب مباغت وجزئي من شأنه ان يحدث اضطرابا في العلاقات بين الحكم والمقاومة او بين المقاومة وبحرها، أي الناس.
ليس الحصار جديدا على لبنان، لكن من ضرب الحصار باحتلاله يستهول الثمن الذي يدفعه لإدامته، ومن هنا تفكيره بصيغة جديدة ومتفجرة تنقل المشكلة من »داخله« الى الداخل اللبناني، والى الداخل السوري استطرادا.
} ان قدرة لبنان على تحدي الحصار، وتعاظم دور المقاومة في كسر الطوق الناري، وصمود الحكم أمام المناورات الاسرائيلية المتوالية »لتدويل« الاحتلال وتزوير طبيعته بحيث يغدو عملا دفاعيا مشروعا… كل ذلك يتحول الى قدوة داخل فلسطين، والى تدريب عملي ناجح للفلسطينيين في مقاومتهم للاحتلال وتصدّيهم اليومي للواجهة المحلية التي تتولى قمعهم نيابة عنه ولحسابه.
} ومع التغيير الذي أتى الى قمة الحكم بسلطة منسجمة وموحدة الأهداف، فإن قدرة لبنان على مقاومة الحصار الاسرائيلي قد تعززت الآن، خصوصا ان هذا التغيير لم يأتِ من خارج المؤسسات الدستورية بل ولد من رحمها مع حرص على عدم تجاوز المبادئ الديموقراطية المعتمدة في اللعبة السياسية.
} وإذا كان التغيير ذو المظهر الديموقراطي قد عزز الصمود الوطني في لبنان، فإنه كشف عن مدى الترابط بين مبررات الحصار الخارجي للعرب وبين ممارسات القائمين بالامر في الداخل… فهذا يبرر ذاك، والعكس صحيح.
} إن الحصار من الخارج يستخدم في جملة الذرائع لتبرير عدوانه على هذا الشعب العربي او ذاك (ليبيا، السودان، والعراق دائما) انه انما يقاتل نظاما دكتاتوريا، يفرض إرهابه على مواطنيه كما على الدول المجاورة ويهدد الامن والاستقرار في العالم.
} ومع ان الشعوب ترفض هذه الذرائع التي تكثر من استخدامها السياسات الاميركية والاسرائيلية، الا انها تستشعر حاجة حقيقية الى التغيير والتحرر من قياداتها التي لا تهرم ولا تموت ولا تترك سبيلا لتقدم مجتمعها نحو العصر الا وتغلقه بالدبابات او بالدنانير!
* * *
من المحيط الى الخليج يعيش العرب، أفرادا وجماعات، شعوبا وحكومات، في أقفاص من حديد.
إنهم محاصرون من الداخل، ومحاصرون من الخارج.
والحصار كامل شامل: نفسي ومعنوي، سياسي واقتصادي، ثقافي وديني..
والفقراء يزدادون في ظل الحصار فقراً،
والأثرياء يخسرون تحت ضغط الحصار ثرواتهم،
ثم إن الأثرياء يدفعون كلفة الحصار مرتين: مرة لمن يساعدهم او يحميهم بمحاصرة »غيرهم« ممن يشكل، في نظرهم، مصدر خطر عليهم، ومرة اخرى على أسلحة لن يستخدموها وقواعد عسكرية ضخمة لا يعرفون كيف يشغلونها، وعلى جيوش يخافون منها على أنفسهم اكثر مما يخيفون بها »عدوهم« او محاصريهم بذريعة حمايتهم.
لا أمل بالتغيير، ولا قدرة على استيلاد الاحتمال، أقله في المدى المنظور: فأصحاب المصلحة فيه أضعف من ان يحدثوه، والمتضررون منه أقوى من ان يتخلوا بالخوف عما بين أيديهم.
ليس في الخارج من له مصلحة في تغيير »القائم بالأمر« في اي دولة عربية.
و»القائم بالامر« يطارد اصحاب المصلحة بالتغيير في الداخل فيفرقهم ايدي سبأ، من باع نفسه اشتراه، ومن عصا فله العصا، ومن أغلق على نفسه باب بيته واعتصم بالصمت ولو على مضض كتبت له السلامة!
فأما محاولات »الخارج«، فإنها اضافة الى بشاعتها وتنافرها مع طموحات أصحاب المصلحة في التغيير، من أهل الداخل تنتهي، في الغالب الأعم، بتثبيت »القائم بالامر«، بل وهي قد تضفي عليه »شرعية« لم تكن له، وملامح بطولة لا يستحقها، فيصبح من ثم أقوى على شعبه وأكثر تشبثا بنهجه المغلوط!
الفرد محاصر بالخوف في داخله، وبخوف السلطان منه، وهو ما يزيد من شراسته وتوجسه فيضيّق عليه أكثر فأكثر ويحبسه دائما عند حافة الاختناق!
والمجموع محاصر بحالة الطوارئ التي تمنع عنه الهواء والشمس والأفكار والحركة والنزول الى الشارع ولو بإقفال الشارع، والتحدث همساً او رفع الصوت بالصراخ..
والأمل معتقل في زنزانة انفرادية، وتحت حصار يشارك فيه حاكم الداخل والطامع او المهيمن او المحتل من الخارج، وخوف الناس من خيبة جديدة او هزيمة جديدة، تذهب بما تبقى من امكاناتهم المادية المتناقصة ومعنوياتهم المتهالكة او ما تبقى منها.
* * *
العرب تحت الحصار، في المشرق كما في المغرب، وفي الوسط كما على الأطراف.
البعض محاصر بالاحتلال المباشر، والبعض بالخوف من الاحتلال.
البعض محاصر بالطغيان، والبعض بالخوف من سقوط الطغيان.
البعض محاصر بالفقر، والبعض محاصر بالغنى الذي يستدرج الاحتلال، ثم ان ثمة بين العرب من هو محاصَر ومحاصِر في الوقت نفسه كما الحال بين اليمن والسعودية، مثلا.
… وبينهم من يبدو وكأنه يطوّق الآخرين بينما هو الأسير، كالعراق مثلا، ويحاكم وهو بضعفه الراهن على قوته التي أساء استخدامها ذات يوم فضيّعها..
نُبش الماضي وأعاد »القوي« استحضاره ليحاسَب عليه »خصومه« السابقون بمفعول رجعي، فصار الحصار المفروض عقوبة مستلحقة عن خطيئة ارتكبها أولئك الذين كانوا مصنفين من أهل الثورة او من أهل الاشتراكية او من دعاة التحرير والتحرر والذين بات عليهم الآن ان يتنصلوا من تاريخهم او يحاكموا كإرهابيين.
لا تنفع التوبة الا اذا باتت استسلاما غير مشروط.
والاستسلام خضوع لموجبات الحصار وليس بابا للخروج منه.
وكما تحاسب اسرائيل الفلسطينيين الذين ما زالوا يقولون بالكفاح المسلح ويرفعون رايات »تحرير الارض« واستعادة الحقوق جميعا، وأولها وأخطرها حق العودة، على انهم مجرد »إرهابيين« وتطالب »سلطتهم« بأن تقتص منهم فتحاسبهم على ما تقدم من ذنوبهم ثم تُسقط عنهم فلسطينيتهم حتى يصيروا غير ذوي صفة للمطالبة ولا يتمتعون بحق الرفض او الفيتو لأنهم »خارجيون« و»خوارج«..
… كذلك تحاسب الولايات المتحدة الاميركية من تظاهر فهتف ضدها او أحرق ذات يوم، ولو قبل عقود، علمها المخطط والمزين بالنجوم، فتحاكمه وتحكمه (غيابيا إذا تعذر جلبه) وتنفذ حكمها ضد شعبه (كما في ليبيا والسودان).
وغالبا ما تلتقي واشنطن وتل أبيب فتنشئان محكمة مشتركة وتتبادلان أدوار القاضي والجلاد..
واستباقا للعقوبات، فإن أحلافا جديدة تنشأ تحت الرعاية الاميركية المباشرة لإكمال طوق الحصار حول المشرق العربي تحديدا، وعزله عن سائر الأمة: يقوم الحلف الاسرائيلي التركي مجتذبا الأردن، ليطوق سوريا من جهة، وليمنع عودة العراق الى ذاته والى موقعه الطبيعي ولو كاحتمال.
وتحت ضغط الذكريات السوداء لغزوة صدام حسين، وبإغراء الانفراد بالثورة والابتعاد بها عن »الاخوة الفقراء«، تفصل دول الجزيرة والخليج تماما عن المشرق، خلف العازل العراقي، ويفرغ إعلان دمشق من مضمونه، ثم يسخر لتبرير الحرب الجديدة ضد العراق بما يظهر مصر وسوريا متواطئتين، في حين ان دول مجلس التعاون هاربة من مجرد اللقاء مع »دولتي الحماية«، على اي مستوى.
انها خطوة اخرى في اتجاه إكمال الحصار على سوريا، و»نفي« مصر عن مشرقها.
وهي خطوة ستستكمل لاحقا بإسقاط »الحضانة« المصرية لسلطة عرفات في غزة، فيأتي كلينتون الى اسرائيل و»يزور« السلطة في غزة، بغير ان يتوقف في القاهرة، لا في القدوم ولا في العودة، ويبعث بوزيرته مادلين أولبرايت للقاء القيادة الاردنية من دون ان يتكرم على »صديقه« الرئيس المصري بلفتة او باتصال يشرح له فيه ما تم من خلف ظهره في »واي بلانتيشن« ثم خلال زيارة الحماية لإنجازه الشخصي هذا مع طرفيه المنفردين.
ان حصار مصر لا يقل قسوة عن حصار سوريا، مع اختلاف الظروف وطبيعة العلاقة مع كل من واشنطن وتل أبيب.
ولكي تكتمل حلقات الحصار فلا بد من شيء من الحرب الاهلية يشغل بعض العرب بأنفسهم، فلا يبقى ثمة من هو قادر على اعادة تجميع العرب ناهيك بمساءلة المتفرد منهم، او المهرول نحو »العدو« على جسد أخيه وعلى حساب مستقبل الأمة جميعا.
* * *
ان عدو العرب، الاسرائيلي، يغير جلده، رأسه، سياساته، حكوماته، بين حين وآخر، مستجيبا لقواعد الصراع بين القوى المختلفة الطروحات والرؤى والبرامج داخل »مجتمعه«.
.. ولأنه يأخذ بمبدأ التغيير فهو يتجدد باستمرار، وتتعزز قدراته، ويصبح أقوى على »أعدائه« الذين أنهكهم العمر والمرض والخوف من الغد، والذين يقاولون الطبيعة ويحاولون تجميد الحياة متجاهلين كل ما طرأ على العالم من تحولات وزلازل بدلت فيه جذريا بحيث لم يعد فيه ما يذكر بالماضي إلا هؤلاء الثابتون الدائمون من سلاطين العرب الميامين..
لقد ذهبت قوة العرب بمعظمها (لنتذكر ما يجري في الجزائر، في السودان، في ليبيا، قبل العراق)..
ولقد ذهبت قضيتهم الجامعة ورباطهم المقدس: فلسطين.
وذهبت ثروتهم التي كانت هائلة، والتي نادرا ما استخدمت كسلاح قومي، ونادرا ما كانت قوة في خدمة قضايا تحررهم.
وهكذا سقطوا جميعا تحت الحصار: معزول واحدهم عن الآخرين، مشغول بنفسه، ومَسُوق بإغراء ان حل مشكلته خارج »عروبته« لا داخلها، وعلى حساب التزامه القومي لا من ضمنه.
وفي ظل الحصار تبلورت ذريعة جديدة لعدم التغيير: ان اي تحرك في الداخل لا يخدم إلا العدو المتربص في الخارج.
شلل في الداخل، حصار من الخارج يستنزف الثروات والقدرات ويلغي المكانة والدور.
لا قضية جامعة ولا مؤسسة جامعة، حتى لكأن العرب يحاصر بعضهم بعضاً، قبل ان يحاصرهم أعداؤهم والطامعون او المستفيدون من فرقتهم ومن ضعفهم.
حتى »الحرب« عليهم لا تجمعهم، بل هي تزيد من فرقتهم وتمزقهم وتسهل بالتالي حصار »العصاة« منهم.
مع ذلك فإن بضعة من الفتية في جنوب لبنان يشهرون دمهم، فإذا هم قادرون على ضرب الحصار وإسقاط بعض قلاعه الحصينة.
كذلك فإن قدرا قليلا من الديموقراطية في لبنان قد وفر مناخاً سلميا وسليما لقدر من التغيير المؤهل لتعزيز إمكانات الصمود.
ولعل درس لبنان، الذي يحظى بحماية سورية معلنة، أن يكون شمعة في قلب هذا الظلام العربي الدامس.
فلا يفك عنك طوق الحصار الا إصرارك على فكه ولو بدمك.
والإرادة تفتح طريق التغيير… والتغيير شرط لإسقاط الحصار.

Exit mobile version