غزة ـ حلمي موسى
يوم جديد، والأمل دوما يحدونا بزوال الاحتلال، واقتراب تحقيق النصر.
لا يبدو أن هناك أي جديد في الافق. فالقصف الإسرائيلي يتصاعد في غزة وشماليها بالرغم من الحديث عن “إنجازات” للاحتلال، وعن أنه أنهى مهمات عملياتية في كل من الشجاعية وجباليا وبات تركيزه حاليا على حييّ الدرج والتفاح.
ويبدو مما يعلنه الجيش الإسرائيلي أنه صار يبحث عن صور تبرد قلوب الإسرائيليين، مثل صور القتل والتدمير والتباهي بعدد الغارات. وهكذا، ينشر جيش الاحتلال أو يسمح بنشر صور عن تدمير وتفجير عشرات المساكن والعمارات في أحياء مدينة غزة، شرقيها وغربيها.
وكما عمد سابقا الى “تسطيح” أحياء مثل الرمال والزهراء والكرامة عبر غارات جوية، فإنه يسعى اليوم، بوجوده على الأرض، لتفجير المباني والعمارات وتسويتها بالأرض في الشجاعية وجباليا بعدما سوّى بيت حانون بالأرض.
ومن البديهي أنه ليس في تفجير المباني أيّ اغراض عملياتية، ولكنها محاولة لفرض واقع نفسي جديد: فهو يريد معاقبة سكان القطاع كلّهم بدماء أبنائهم وبممتلكاتهم التي بنوها بعرق الجبين طوال سنوات، كما أنه يريد أن يظهر للإسرائيليين أنه حصّل حسابا طويلا يسمح بعودتهم مطمئنين إلى مستوطنات غلاف غزة.
بالإضافة إلى ذلك، وكما كانت “نظرية الضاحية” في حرب 2006 في لبنان تقضي بتدمير مبان في الضاحية مقابل كل إصابة لبيت في مستوطنات الشمال، تأتي نظرية تدمير غزة لتفرض نموذجا أشدّ وحشية لإرهاب العرب جميعا. فقد كرر العدو تهديداته للبنان بأن مصير لبنان في حال تورطه في الحرب، سيكون كمصير غزة.
وبالتالي، يحاول العدو خلق نموذج واقع على الأرض يريده أن يبقى قائما لسنوات طويلة، يعيد من خلاله مناطق فلسطينية الى عقود خلت، بطريقة تجسد تهديداته بإعادتها الى العصر الحجري.
ولا يقف ذلك النهج عند حدود شمالي غزة، بل هو قائم فعلا في كل مكان في القطاع. صحيح أن الاسرائيلي يوحي بأن تركيزه ينصبّ حاليا على خانيونس، لكنه يمارس إجرامه في كل مخيمات المنطقة الوسطى، في النصيرات والبريج والمغازي ودير البلح. ويبدو بأنه لم يشبع حتى الآن لا من دماء الفلسطينيين ولا من تدمير مدنهم وقراهم ومخيماتهم.
ويلمح العدو إلى أن تعميق العملية الحربية في خانيونس هي مقدمة للتوجه نحو رفح، مما يؤشّر إلى أن رغبته الشديدة في إعادة احتلال محور فيلادلفيا لفصل القطاع تماما عن مصر.
وطبعا، وإذا حدث ذلك، يكون الاحتلال قد فرض وضعا جديدا أساسه التحكم التام بقطاع غزة، برا وبحرا وجوا. والفارق بين وضع من هذا النوع وبين ما كان قائما، هو أن الاحتلال سيعود ليشرف على حياة الفلسطينيين في غزة بشكل مباشر، وليس من وراء حجاب.
إلّا أنّ تحقيق ذلك لا يتم من دون تحطيم المقاومة أولا، وكسر مقومات الصمود الشعبي ثانيا، ومن دون صمت دولي يتقبل الجريمة ولا يعارضها.
لكن المقاومة الفلسطينية تستبسل في كل المجالات تقريبا. وقد أغاظت العدو قبل يومين عندما رشقت من الشمال تل ابيب وجوارها بصلية صواريخ كبيرة. كما أنها تواصل تكبيد العدو خسائر واضحة في الأرواح والمعدات، تجعل كلفة الحرب عنده باهظة، وربما حتّى غير محتملة.
فاستمرار الحرب من دون نصر واضح لإسرائيل يربك المجتمع الصهيوني ويظهر أن ما كان في الماضي مختلف عمّا سيكون في المستقبل، وأن رد الفعل الفلسطيني المستقبلي على ما جرى لن يكون أقل مما كان عليه في السابع من أكتوبر.
في المقابل، يتصاعد السجال داخل الكيان حول الإنجازات، إذ يبدو أن ما تم “إنجازه” من دمار في غزة ليس كافيا لإقناع الاسرائيليين بالاطمئنان الى مستقبلهم.
لقد فرضت غزة، بصمودها وبسالتها، وضعا جديدا كان يصعب تخيله قبل 7 اكتوبر. ومعضلة غزة خصوصا، وفلسطين عموما، هي أنها تفتقر إلى حاضنة عربية أو دولية قادرة على مواجهة حاضنة اسرائيل.
وما يجري في الأمم المتحدة من “تعهير” للقوانين الدولية، ومن انبطاح أمام الفيتو الأميركي، ومن تساهل في تقويم الدم الفلسطيني بعد أكثر من عشرين ألف شهيد وأكثر من خمسين ألف مصاب، ما هي إلا شهادة فقر حال. صحيح أن تغييرات كبيرة طرأت على الرأي العام العالمي تعاطفا مع فلسطين وغزة، ولكن ذلك يحتاج إلى الوقت للتأثير على أصحاب القرار في العالم. وهو وقت يدفع ثمنه الفلسطيني، وسيظل يدفع ثمنه طالما بقي، وبقيت فلسطين.