طلال سلمان

الطبقة السياسية وإعادة بناء الدولة: حسن الجحش بدلاً من حسين الجحش!

نظام مكانك راوح، مقال نشر في “السفير” بتاريخ 11 كانون الثاني 2010


أسهل المهمات على «الطبقة السياسية» في لبنان هي: إعادة بناء الدولة!
ربما لهذا السبب لا تجد هذه «الطبقة السياسية» كبير عناء، ولا هي تستشعر أي قدر من الحرج وهي… تهدم الدولة!
وهكذا تجد الرعية في لبنان مشكلة في علاقتها مع «الدولة»، لأنها لا تعرف على وجه التحديد أي «الدول» هي المرشحة للهدم، وأيها قيد البناء! على أنها تجد نفسها دائماً بلا «دولة»، أو بتحديد أدق خارج «الدول» جميعاً، المهدّمة بالفساد والمحسوبية والمحاصصة الطائفية، أو المجدّدة بالمحاصصة الطائفية والمحسوبية والفساد… وواضح أن الفرق بين «الدولتين» عظيم!
ما جاء «عهد جديد» إلى السلطة العتيقة في لبنان إلا ورفع هذا الشعار السحري… حتى لو كان الرئيس الجديد في موقع «ولي العهد» للرئيس الخارج من القصر بعد إنجاز خطته الفذة في «إعادة بناء الدولة» التي سيكتشف العهد الجديد ضرورة «إعادة بنائها» على قواعد من الكفاءة والعلم والخبرة وقوة الشخصية!! ومتانة الانتماء الطائفي، حتى لا يتعرض تعيينه للطعن أو يتهم بنقص الولاء لمرجعيات طائفته التي تشكّل ركيزة عظيمة للدولة العصرية الآخذة بأرقى أساليب الإدارة الحديثة…
فالدين، في لبنان على وجه التحديد، بين ركائز الدولة المدنية، أما المشكوك في تديّنهم فهم هدّامون بدليل أنهم لا يسلّمون بشرعية القيادات المؤمنة التي تضخها «الطبقة السياسية» في الإدارات والمؤسسات العامة ومجالس الإدارة لإعادة بناء ما بني ألف مرة من قبل من دون أن ينجز البناء!
بل ما تشكلت حكومة جديدة ـ ولو برئاسة رئيس سابقتها ـ إلا وعاهد اللبنانيين على الإسراع في إنجاز تعهّده بـ«إعادة بناء الدولة» التي كان منهمكاً في مشروعها، لولا أن عطّل قراراته بعض «الوزراء المشاغبين»، وقد غدا الآن مطلق اليدين، متخففاً من المعوقات والإشكالات التي منعت حكومته الأولى من إنجاز المهمة المقدسة، في الشهور القليلة الماضية… ولأن غداً يوم آخر، وحكومة أخرى، فلسوف يستطيع تحقيق المستحيل، أي إعادة بناء الدولة مجدداً، وهذه المرة على أسس لا تهزّها الزلازل!
ولشدة ما اتهم الحكم الجديد، أي حكم جديد، «الدول» السابقة على وصوله إلى السدة بالفساد والانحلال واستشراء الرشوة واستغلال النفوذ، لم يعد لهذه «الجرائم» في بلاد الغير أي معنى لدى الرعية في لبنان: اللاحق يتهم السابق… لكن الطرفين سرعان ما يشتركان (ولو بعد حروب صغيرة!!) في حكومة اتحاد وطني!! ويتعهدان بمكافحة، بل ربما باستئصال أسباب التردي واجتثاث مبررات الانحلال والمحسوبية وتخلّف الإدارة وعجزها عن تلبية مطالب الشعب… وثمة من تورّط فتعهّد بالتطهير واستئصال الفاسدين والمفسدين، وإخضاع التوظيف لمعايير صارمة فانتهى الأمر باستبدال حسن الجحش بحسين الجحش أو جورج التيس بمارون التيس…
يمكن لأي «مراقب» أن يصنّف، وبسهولة فائقة، مجموع موظفي الفئة الأولى في الإدارة، وذلك بتقسيمهم بحسب قيادات «الطبقة السياسية» التي نادراً ما تبدلت رموزها، فإذا ما حصل «انقلاب كوني» وذهبت انعكاساته ببعضها جاء الوريث من الطينة ذاتها، مع تبدلات محدودة في الخطاب السياسي، وشهية أعظم إلى التهام المواقع باسم «إرادة التغيير»… من دون أن نتغاضى عن براعة غيلان الإدارة في نقل البندقية من كتف إلى أخرى، والذهاب إلى الزعماء الجدد بولائهم مشفوعاً بالأيمان الغليظة بأنهم «طالما انتظروا هذا اليوم الأغر»!
القاعدة واضحة: الفساد في القمة… فهل سيختار أهل القمة المصلحين وحملة أفكار التنوير والأكفاء الآتين يحملون أعلى الشهادات من أحسن الجامعات في العالم، والذين قد يأبون هدر كراماتهم على أبواب زعماء الطوائف والمذاهب، خصوصاً أن عروضاً مغرية للعمل في مراكز مهمة في دول النفط أو في شركات أجنبية كبرى تصلهم عشية التخرّج.
وقديماً كان بعض أركان الطبقة السياسية يباهون بأنهم يستوردون عمالة رخيصة، من الخارج، و«يصدّرون» أصحاب الكفاءات إلى بلاد النفط، «وهكذا نحقق وفراً اقتصادياً ممتازاً»…
وعلى الدوام يباهي كل ركن من أركان الطبقة السياسية بأن من اختارهم من جماعته يماثلون من اختارهم أنداده، «فإن رفعوا المستوى رفعته وإن خفضوه خفضته… عندي من الحيتان وحتى السمك البزري»!
وبالطبع، فليس من مصلحة أي منهم رفع المستوى، فالأتباع يتعبهم علو النفس، ثم لماذا التعب؟! ما دام «المدير العام» موظفا يدخل الإدارة لتمثيل الزعامة في طائفته، وهذه مهمة لا تتطلب إلا تنفيذ الأوامر، فما قيمة الشهادات والكفاءة والخبرة؟! سيأتيه الأمر فينفذه وكفى الله المؤمنين القتال!
ربما لهذا «تكتشف» الطبقة السياسية، بين الحين والآخر، أن الإدارة فاسدة، ومحشوة بالمعاقين والمتخلفين وغير الأكفاء، فتقوم بتطهيرها ـ بالتواطؤ ـ ثم تعود فتبنيها ـ بالتواطؤ ـ بجيل جديد، أعظم ولاءً والتزاماً وطاعة، من المعاقين والمتخلفين وغير الأكفاء… أليس أهل الطبقة السياسية من يضع المعايير والمقاييس؟! من هو الغبي بين أقطاب الطبقة السياسية الذي يخاطر بأن يأتي إلى الإدارة الأكفاء والأصحاء أصحاب الأفكار والآراء العلمية، المستعدون لأن يقولوا «لا»، ولأن يواجهوا الخطأ ويفضحوا الخاطئين والمقصّرين، بغض النظر عن طوائفهم؟!
الطائفية تهدم الدول ولا تبنيها… فكيف نطالب الطائفيين بإلغاء أنفسهم.. ودولتهم؟!
المواقع من قمة الهرم إلى أدناه موزعة حسب خريطة دقيقة جداً، طائفياً ومذهبياً، فلا يدخل ملكوت الإدارة (بل الدولة عموماً) إلا الطائفي ابن الطائفي، والمذهبي حفيد المذهبي من رئيس الدولة إلى آخر مدير عام، بل إلى آخر حاجب (بعد مسلسل الحروب الأهلية)… فكيف تريدون الإدارة للأكفاء والمتميزين في نجاحهم العلمي وخبراتهم العملية.
الرؤساء بحسب طوائفهم. قانون الانتخابات مذهبي. الحكومة تقاسم بين الطوائف والمذاهب على قواعد لا تتبدّل ولو شاب الغراب… فمن يحلم بإدارة حديثة، تشكّل جزيرة من الطهارة والنظافة والكفاءة بين غيلان الطوائف والمذاهب الذين لهم حق الإمرة من قبل ومن بعد؟!
هل نقول إن هذه دولة لا تعيش إلا بالحرب الأهلية وعليها؟!
… فكيف تريدون ألا تكون الإدارة من قلب هذا المناخ، ومن أسباب دوامه، لتبقى الطبقة السياسية هي قائدة هذا القطيع من الطائفيين والمذهبيين بالأمر… وإلا فليبحثوا عن وطن آخر له دولة تستحق هذه التسمية!

Exit mobile version