طلال سلمان

الصين على طريق العالمية

قرأت عن فيلم أنتجته الصين مؤخرا يحكي عن بطولات مقاتلين صينيين وتضحياتهم دفاعا عن مبادئ بلدهم ومعتقداتها ومكانتها في العالم. الشخصية المحورية في الفيلم، وربما في سلسلة هذا النوع من الأفلام، ينهض بها مقاتل من نوع الشخصيات التي مثلت أدوار رامبو. بطل شجاع أقسم يمين الولاء لبلده وتدرب على جميع أشكال القتال ومختلف الأسلحة الحديثة ومستعد تماما للعمل في أقسى الأجواء والمواقع. يؤمن كلية بأهداف بلاده الإنسانية وبحقها الكامل في حماية مصالحها المشروعة ضد عصابات الجريمة وتجارة المخدرات وتهريب الأسلحة.

***

أفهم أن هذا النوع من الأفلام التي أنتجته هوليوود تستهدف به الرأي العام الأمريكي بصفة أساسية والرأى العام العالمي أيضا. كان ضروريا في مرحلة هامة من مراحل فرض الهيمنة الأمريكية أن تكسب أمريكا رضاء الرأي العام الأمريكي عن سياسات التوسع والتدخل في شؤون مختلف دول العالم. كانت التكلفة ـ تكلفة الهيمنة أقصد ـ باهظة ولا تزال. احتاج تمويلها إلى دعم دافع الضرائب الأمريكي. بدون هذا الدعم ما كان يمكن للولايات المتحدة الاشتراك في الحرب العالمية الثانية، وبدونه ما كان يمكن حشد المجهود الحربي الهائل الذي غيرت به مجرى الحرب لصالح الحلفاء. أذكر أننا كأطفال كنا نخرج من دور السينما فخورين بجيوش أمريكا التي حققت انتصارات وكشفت لنا نحن الأجانب عن بطولات وإنجازات، في وقت عجز فيه إعلام النازي عن تقديم صورة مماثلة أو حتى مناسبة. عشنا بعد الحرب العالمية مرحلة غسيل مخ سيطرت خلالها حملة إعلامية لعبت الدور الأهم في صياغة الاستراتيجية الغربية في مواجهة استراتيجيات الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة.

على الصعيدين الداخلي والخارجي أمكن خلق رأي عام أمريكي مستعد للتضحية من أجل دعم دولة تسعى لتنفرد بقيادة العالم، دولة أغني وأقوي وقادرة على توفير فرص كبيرة وعديدة للاستثمار والعمل للأمريكيين. أمكن أيضا خلق رأي عام عالمي منبهر بضخامة القوة الأمريكية، مستسلم لها أو أكثر استعدادا للتعاون أو التحالف معها، داعم لمواقف وعقائد يدافع عنها المقاتلون الأمريكيون المنتشرون في جميع أنحاء العالم، أو هكذا نجح الإعلام الأمريكي في نشرها وتعميقها إلى أن جاءت مرحلة الانحدار في المكانة العالمية لأمريكا. جربت هوليوود ومؤسسات الإعلام وقفها ولم تفلح. كانت معظم الجهود الإعلامية والسياسية، ولا تزال، متواضعة في مواجهة رأي عام أمريكي ودولي غير راض عن ضخامة تكلفة قيادة أمريكا للنظام الدولي وتواضع إنجازاتها وضخامة خسائر حروبها وتدخلاتها الخارجية خلال سنوات ما بعد نهاية الحرب الباردة، سنوات الانحدار الأمريكي.

***

جيل محظوظ هذا الذي أنتمي إليه. شهدنا مراحل صعود دول إلى مصاف الدول العظمى، وشهدنا مراحل انحدار دول عظمى. وفي الحالتين كنا شهودا على ما رافق الصعود والهبوط من أحداث وأحيانا زوابع وعواصف خربت ودمرت مدائن وحضارات ومزقت خرائط وبعثرت شعوبا وقبائل. شهدنا القوة الأمريكية مكتملة على امتداد نصف قرن. لم نشهد لحسن الحظ الظلم والعنف اللذين كانا من أهم سمات مرحلة بناء الأمة القوية والغنية والموحدة. لم نشهد حروب وصفقات التوسع الاستعماري والاستيطاني. أمريكا مثل دول استعمارية أخرى اختارت قارة تكون بمثابة نقطة ارتكاز لإمبراطوريتها. بريطانيا اختارت آسيا وبخاصة الهند. فرنسا اختارت أفريقيا وبخاصة الجزائر. الأتراك اختاروا أوروبا وبخاصة بلاد البلقان وكذلك الشرق الأوسط فأقاموا إمبراطوريتهم العثمانية. إسبانيا اختارت الأمريكتين ثم اكتفت بواحدة منهما إلى أن طردتها منها الولايات المتحدة، القوة الإقليمية الصاعدة في نصف الكرة الغربي في القرن التاسع عشر. هولندا والبرتغال بدأتا رحلتيهما الاستعمارية مثل بريطانيا في آسيا. هولندا استقرت في جزر الهند الشرقية، إندونيسيا فيما بعد، والبرتغال اختارت جيوبا في الإمبراطورية البريطانية منها جزيرة ماكو في الصين وجوا على الشاطئ الغربي للهند. أما الولايات المتحدة فاختارت القارة الأمريكية بأسرها قاعدة ارتكاز تطلق منها لتهيمن وتستعمر وتفرض الحماية وتسحبها. لعلها الدولة العظمى الوحيدة، وربما الإمبراطورية الغربية الوحيدة منذ العصور القديمة، التي تكلفت الكثير جدا في وقت قصير جدا.

***

شهدنا أيضا انحدارا ثم سقوط دول عظمى. كنا في سن الشباب عندما أسقطت بريطانيا لقب العظمى ومعلنة انسحابها من شرق السويس، أي من آسيا. لم نشهد بداية الانحدار في سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى، ولكننا نذكر ثورات الهنود لانتزاع الاستقلال ونجاحهم في تحقيق ذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. نذكر أيضا جهود الشعوب العربية التي انتهزت فرصة انتصار مبادئ الغرب وبخاصة مبدأ الحق في تقرير المصير لتحصل على استقلالها. كنا شهودا على مرحلة رائعة. شهدنا خروج فرنسا من شمال أفريقيا ومن معظم مستعمراتها في أفريقيا، وخروج إيطاليا من ليبيا والصومال. سمعنا عن سقوط إمبراطورية اليابان الآسيوية واستسلام اليابان وقبولها اعتزال وظيفة السعى للهيمنة.

***

لاحظنا عددا من الملاحظات على عمليات صعود وانحدار وسقوط الدول العظمى والإمبراطوريات الشهيرة أجملها فيما يلى عساها تساعدنا في فهم ما يحيط بنا من تغيرات وتحولات وكوارث. لاحظنا أولا: أنه في كل حالات ومحاولات الصعود لمواقع القيادة الدولية كانت الدولة الساعية للصعود حريصة على تعزيز مصادر قوتها الداخلية واستكمال عملية بناء الدولة وبناء قوة عسكرية مؤثرة وتشكيل رأي عام داخلي مستعد لتقديم تضحيات في سبيل هدف الصعود ومقتنع بمنظومة أخلاقية أو سياسية أو أيديولوجية تستحق نشرها في الخارج وبذل الجهد لحمايتها.

لاحظنا ثانيا: أن معظم الدول التي سعت للصعود دوليا حرصت على أن تحتل مكانا متقدما في قيادة الإقليم الذي تنتمى إليه أو تقع فيه. حدث في حالات كثيرة أن دولا طموحا حاولت الصعود قفزا دون المرور بمرحلة القيادة الإقليمية أو تحقيق نفوذ واسع في الإقليم، هذه الدول فشلت في الصعود إلى مواقع الدول العظمى وظلت قوة هامشية، وغالبا ما تكون قد كلفت مجتمعاتها وشعوب ودول الإقليم تكلفة باهظة وكوارث جمة. إيطاليا نموذج وإلى حد ما فرنسا على عكس الولايات المتحدة وبريطانيا، هذه الأخيرة التي نجحت في استثمار وضعها كدولة موازن في النظام الأوروبي، وهو الوضع الذي أهلها لاحتلال مكان في القيادة الدولية لقرون عديدة.

لاحظنا ثالثا: أن الدولة الصاعدة تسعى أول ما تسعى نحو مصادر للطاقة والمادة الخام والتحكم في الممرات البحرية الحساسة عن طريق الاحتلال المباشر للدول الواقعة عليها أو بأساليب أخرى كالوجود والمراقبة من بعد غير بعيد. لاحظنا مثلا الاهتمام الفائق للصين بالقارة الأفريقية وبخاصة ساحلها الشرقي، وهو الأمر الذي ينطبق بدرجة أو أخرى على مساعي كل من تركيا وإيران لخلق نفوذ في القارة تمهيدا لغرس أو تعزيز نفوذ أوسع في مناطق أخرى.

لاحظنا رابعا: أن لا دولة غالبا صعدت أو حاولت الصعود إقليميا أو عالميا إلا واشتبكت في حرب أو عمليات عنف واسعة. أمريكا صعدت في أعقاب حرب عالمية وبعد سنوات من حرب أهلية. ألمانيا حاولت الصعود في أعقاب حرب عالمية انهزمت فيها. اليابان قررت الصعود في أعقاب حربها مع روسيا عند مطلع القرن العشرين. روسيا اشتبكت مع دول الغرب عندما جربت الصعود قفزا بمغامرتها في شبه جزيرة القرم في القرن التاسع عشر ومحاولتها التأثير في ميزان القوى الأوروبي، عادت تحاول تكرار المغامرة قبل سنوات قليلة وهي تستعد لاحتلال دور قيادي في النظام الدولى الجديد، فراحت تعزز مكانتها الإقليمية أولا بالتدخل العنيف نسبيا في جورجيا وأوكرانيا وبتدخل أقل عنفا في دول جوار أخرى. مصر تعرضت لخسائر هائلة عندما أقدمت على فرض هيبة ومكانة لها في النظام العربي قبل أن تؤمِّن حدود نفوذها الإقليمي ضد الدول العربية المناهضة لإيديولوجيا القومية العربية وضد عدوها الإسرائيلي باعتباره النقيض للنظام العربي والأيديولوجيا القومية العربية. ضربها خصومها في حرب مع إسرائيل فضلا عن النزيف التي تعرضت له في حربها باليمن. كذلك العراق أصابه ما يشبه الدمار منذ اللحظة التي أعلن قائده النية في الصعود بالعراق نحو دور ومكانة قيادة النظام الإقليمي العربي.

***

قدر هذا الجيل الذي أنا منه أن يكون شاهدا على الظروف المحيطة بمحاولة صعود الصين إلى مكان في القيادة الدولية من جهة ومحاولة صعود أقطاب جدد، هى تركيا وإيران والسعودية إلى قمة نظام إقليمي في طور النشأة. أكاد بشيء من التركيز والتدقيق أرى الملاحظات التي سجلتها على الظروف والشروط التي أحاطت بصعود وانحدار وسقوط دول عظمى دولية وإقليمية، أكاد أراها منطبقة على الحالتين: الترتيبات النهائية في محاولة الصين الصعود إلى القمة والترتيبات الابتدائية في محاولة تركيا وإيران والسعودية وإسرائيل احتلال قيادة نظام إقليمي لم ينشأ بعد.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version