أخذت جانبا في الممر الطويل جدا في المطار الكبير جدا لأفسح الطريق أمام فوج سياحي صيني قدرت عدد أفراده بثمانين. كالعادة أبهرني العدد والنظام والأناقة. أبهرني أيضا خفة ما يحملون. أغلبهم لا يشترون. نسيت للحظة أنهم ينتجون كل شئ حتى تماثيل وحلي الأقدمين في دول عديدة ورأيتها في كل البلاد تحتل أغلب المعروض في محلات العاديات والتحف.
في صالة انتظار بمطار القاهرة دار حديث قصير مع مسافر خمنت ثم علمت أنه خبير في السياحة. كان أول من نقل لي التوقع بأن الصين بعد سنوات قليلة، قدرها بعشر سنوات لا أكثر، ستكون في وضع يسمح لها بأن تصدر إلى العالم ما يقارب الخمسمائة مليون سائح سنويا. سبقني خيالي إلى أرقام شبه خيالية عن عدد الليالي السياحية التي سوف يشغلها هؤلاء الصينيون خارج الصين وعدد الطائرات التي يجب أن تنتجها الشركات الأوروبية والأمريكية والروسية والصينية لنقل هؤلاء السياح، فضلا عن ضخامة التسهيلات المطلوب توفيرها من الآن وبرامج الترفيه وتطوير الخدمات الفندقية وتدريب العمال والموظفين بما يتناسب وهذه التدفقات الضخمة القادمة من الصين خصيصا لنا أو مرورا بمطاراتنا وانتقالا بطائراتنا وحافلاتنا وقطاراتنا.
سمعت من رفيق الانتظار ما يثبت صدق ما سبق وسمعت من زوار أوروبيين وخبراء سياحة مصريين عن الحال الراهنة لصناعة السياحة المصرية، وما يؤكد أنني لم أظلم أحدا في مصر حين نقلت إلى بعض المسؤولين والأصدقاء تجارب عن بعض ما عشت وعاش آخرون في فنادق ومراكب نيلية في الآونة الأخيرة. يهمني الآن أن أكرر تحذير هذا الخبير إلى ملاك شركات الفنادق والسياحة إنهم إذا لم يسرعوا بتحسين أحوال موظفيهم برفع مرتباتهم وزيادة مكافآتهم من كافة الرتب والتخصصات وإذا لم ينشئوا فورا معاهد تدريب عصرية ومتخصصة، كالاستعداد مثلا للطفرة الصينية التي تحدث عنها هذا الخبير، فإن شركاتهم وصناعة السياحة بأسرها سوف تفقد فرصة تنتظرها على قدم وساق دول جنوب أوروبا وإسرائيل وتركيا بالإضافة إلى السوق المعتادة في أمريكا ودول غرب أوروبا.
لم تكن السطور السابقة ضمن مخططي لمقال اليوم الذي خصصته لمناسبة مرور أربعين عاما على بدء الصين مسيرة الإصلاح الاقتصادي. عادة لا أجيد فن الاحتفال بالمناسبات ولكن هناك من المناسبات ما يثير جدلا يهمني أن أشارك فيه بحكم وجودي طرفا أو مراقبا من الداخل أو كوني فضوليا لم يفلح أحد في كبت فضوله. قرأت قبل يومين فقرات اجتزأتها وكالات الأنباء من خطاب الرئيس الصيني شي بمناسبة مرور أربعين عاما على بدء تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي، البرنامج الذي نقل الصين من حال دولة نامية في وضع شديد التخلف إلى دولة باقتصاد هو الثاني بين الأضخم في عالم اليوم.
أتوقف هنا قليلا لأتمعن في مغزى اختياري كلمة برنامج لتسبق عبارة الإصلاح الاقتصادي ولأتمعن أيضا في العبارات التي اختارها الرئيس شي لشرح معضلة الحزب الشيوعي في التعامل الأيديولوجي مع أسس التنمية وأهدافها. واضح لي كل الوضوح أن جميع الرؤساء الصينيين بدءا بالرئيس دينج شياو بينج الذي أطلق الإصلاح ومرورا بمن تولوا بعده سكرتارية الحزب ورئاسة الدولة مثل الرئيس جيانج زيمين الذي احتفل بالعيد العشرين والرئيس هو جنتاو وقد احتفل بالعيد الثلاثين، جميعهم كان شغلهم الشاغل سمعة الحزب ومكانته في المجتمع ودوره في تحقيق التنمية. جميعهم ركزوا في خطابات الاحتفال بالذكرى على أن الحزب “هو المهيمن ودائما على حق” وأن الحزب هو الذي “صمم ويحرس رخاء الصين واستقرارها”، وأن الحزب “لا يخطئ”. طالبوا جميعا بضرورة “الاستمرار في دعم قيادة الحزب وتعزيز طاعة الشعب لها ووجوب تقويتها وتحسينها”. الحزب لم يخطئ لأنه لا يخطئ. دليلهم، كما يقول الرئيس شي في الاحتفال بمرور أربعين عاما على انطلاق مسيرة الإصلاح أن “سياسات الحزب الاشتراكية خلال أربعين سنة كانت صحيحة”.
يعرف كل من تابع صعود وانحدار التجربة الصينية في التنمية خلال مراحلها المتعددة أن وفاة الرئيس ماو في عام 1977 مهدت لإطلاق مسيرة الإصلاح في ديسمبر 1978، أي قبل أربعين عاما. يعرف أيضا أن الرئيس ماو قاد بنفسه مرحلة من تاريخ الصين الحديث اعتبرها كثير من الكتاب الغربيين جزءا لا ينفصل عن المسيرة الكبرى لإصلاح الصين، والتي أطلق إشاراتها الرئيس ماو في عام 1949 يوم أعلن اكتمال تحرير الصين ودشنها دولة اشتراكية يقودها الحزب الشيوعي الصيني. هذه المسيرة ذاتها قام بتطويرها الإصلاحيون الجدد وفي مقدمتهم الرئيس دينج شياو بينج . ما يزال الحوار دائرا حول سؤال لم يجد حتى الآن جوابا عمليا شافيا وإن وجد أحيانا جوابا أيديولوجيا أو قمعيا أخرس النقاش وكتم الحوار. للسؤال صيغ شتى. إنما يدور في جوهره حول دور الأيديولوجيا، وتحديدا الماركسية اللينينية واقتصاد السوق، في تنمية الصين وصعودها السريع إلى القمة.
يسألون مثلا إن كان يمكن للإصلاحيين الجدد أن يطلقوا “برنامجهم” لو لم يطلق الرئيس ماو برنامجه في عام 1949 وقبل هذا التاريخ في الأقاليم التي سيطر عليها قبل استيلائه على عاصمة الدولة. لو لم يبدأ بالقضاء على زراعة المخدرات وترويجها وعلاج المدمنين وعلى عناصر الفساد وأمراء الحرب والإقطاع لما استطاع الإصلاحيون الجدد تنظيم الزراعة لخدمة هدف تراكم الثروة الرأسمالية وتنمية القطاع الخاص وتشجيع التبادل التجاري. لم تحاول قيادة الحزب في كلا المرحلتين إتباع كتاب واحد ومحدد للإرشادات. لم تسمع إلى أحد في الخارج لمدة طويلة. لم تعتمد على تعاليم شيوعية بشكل مطلق أو اقتصاد السوق بشكل قطعي. التجربة من أساسها برجماتية. أحسن الرئيس دينج شياو بينج التعبير عنها بالمثل الصيني المعروف “لا تسل عن لون القطة، المهم عدد الفئران التي أفلحت في الإمساك بها”.
لا برنامج واضح المعالم يعتمد أسسا أيديولوجية بشكل دوجماتي مطلق أو جامد. بكلمات أخرى لا نموذج صيني متفرد. كثيرون ينسبون نجاح الإصلاح الاقتصادي الصيني إلى اعتماد الحزب على السوق والنشاط الفردي. آخرون يعتقدون أن نجاح الصين يؤكد الفائدة الكبرى من إتباع نموذج قيادة الدولة للاقتصاد. في الوقت نفسه كان هناك دائما بين النقاد من يحمل تدخل الدولة أخطاء الاقتصاد الصيني، ومن حملوا سياسات حرية الاقتصاد مسئولية أخطاء الممارسات الاقتصادية للإصلاحيين الجدد في الصين. سر النجاح يكمن في النموذج غير القابل للتكرار وهو الحزب الشيوعي الصيني. وإذا كان النموذج غير قابل للتكرار فهو في الواقع لا يصلح كنموذج بل وتنتفي عنه هذه الصفة. لذلك ابتكر الصينيون أيام الرئيس ماو عبارة “بصفات أو سمات صينية” كإضافة واجبة لكلمة الاشتراكية ثم لعبارة “اشتراكية السوق” أيام الإصلاحيين الجدد.
لا أتخيل التجربة الصينية في الثورة كما في الإصلاح الاقتصادي قابلة للتكرار بدون تعديلات أو ابتكارات جوهرية. لقد اعتمدت الصين على خبرة فريدة هي بالفعل لم تتوفر لبلد آخر ألا وهي الحزب الشيوعي الصيني، ولا أظن أن قيادة بحجم وعبقرية القيادة الراهنة أو قيادة الرئيس الذي أطلق شرارة الإصلاح في عام 1978 أو حتى قيادة الزعيم ماو تسي تونج كانت تستطيع أن تحقق حلم تغيير المجتمع الصيني ونقله من حال تخلف إلى فوضى شبه محكومه أو منظمة إلى حال دولة مستقرة ثم نحو مسيرة صاعدة بحزم وثقة في دولة بمساحة الصين وحجم سكانها وثقل تراثها السياسي وتعقيدات العلاقة التاريخية بين الشعب والسلطة، لو لم يكن هناك الحزب الشيوعي الصيني. هذا الحزب يؤدي وظيفة الديموقراطية ومؤسساتها من حيث التجنيد للمناصب كافة والرقابة على السلطة التنفيذية. من ناحية ثانية يساهم الحزب من خلال وضعه كمستودع للأفكار والاقتراحات والمعلومات بتقديم المشورة للسلطتين التشريعية والتنفيذية. من ناحية ثالثة يقوم الحزب بتصحيح الأخطاء التي يرتكبها مسئولون أو مؤسسات أو تتسبب فيها سياسات قبل أن تصل إلى الرأي العام ويجري تصحيحها بعيدا عن عيون رقباء الأمن والإعلام والدول الأجنبية، أي دون الظهور بمظهر الخضوع لجهة أخرى. من ناحية رابعة، نعرف أن من أدوار الحزب أن يعطي الانطباع بوجود درجة من النقد الذاتي بدون خوف من الفلتان السياسي والإعلامي، وبخاصة بين الشباب. كان واضحا في الآونة الأخيرة صعود هذا الدور بعد أن حققت التكنولوجيا في الصين تقدما هائلا في خدمة أجهزة الأمن، مثل إنتاج كاميرات التعرف على الوجوه في المؤتمرات والتجمعات المليونية. من ناحية خامسة، ازدادت ثقة الحزب في نفسه وفي وظائفه وأدواره بعد أن أصيبت الممارسات الديموقراطية والليبرالية في الغرب بل وفي العالم كله لانكسارات شديدة مثل صعود ديماجوجية جديدة في شكل شعوبيات يمنية ويسارية ومثل الأزمات الاقتصادية الممسكة بخناق أغلب الرأسماليات الغربية ومثل الميل المتصاعد في العالم النامي لإقامة حكومات سلطوية واستخدام متزايد للقمع.
ما إن انتهيت من كتابة مقالي حتى اتصلت بصديق في الصين أسأله عن صدى خطاب الرئيس شي في مناسبة العيد الرابع لتدشين “برنامج” الإصلاح الاقتصادي. لم يجب على سؤالي إلا أنه قال بحماسة ملحوظة “يا صديق عمري ورفيق دربي، الصين تقدمت خلال العام الأخير بأكثر مما تقدمت خلال السنوات الخمس الماضية”. تأملت في حماسته ثم في كلماته، ولم أعلق.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق