طلال سلمان

الصراع على الوطن العربي: محاولة لقراءة خريطة الانقسامات

لتركيا، بما هي وارثة السلطنة العثمانية التي حكمت باسم الخلافة الاسلامية ثم تخلت عنها، اعتزازاً “بقوميتها”، تاريخ غير مضيء في المنطقة العربية.

أما تركيا الاتاتوركية فتاريخها، مع “العرب” خاصة، حافل بالمظالم والقهر وإنكار الهوية والاحتقار ثم التعالي والادعاء الفارغ إلى حد التخلي عن لغة القرآن (الحرف العربي) التي كانت السلطنة تعتمده، والهجرة إلى لغة هجينة حرفها غربي وتركيبتها خليط من العربية واللغات الغربية وبعض اللهجات التركية المنقرضة.

واذا ما تجاوزنا “السلطنة” وتوقفنا عند مرحلة حكم “الاتحاد والترقي” واجهتنا الحرب العالمية الاولى التي تحالفت فيها تركيا مع المانيا، وكان ضحاياها من العرب في مصر وفلسطين ولبنان وسوريا ـ اكثر من ضحاياها من الاتراك، ثم انها انتهت بتقاسم الارض العربية بين الانكليز والفرنسيين (ويهود ـ المشروع الإسرائيلي).

اما في الحرب العالمية الثانية فقد تلقى اتاتورك، نتيجة وقوفه “على الحياد” بين التحالف الغربي والمانيا النازية، هدية ثمينة قدمها له الغرب على حساب العرب اذ اقطعه ولايتي كيليكيا واسكندرون السوريتين فجعلهما “بعض اراضي تركيا”، كما رغبت فرنسا في أن” تهديه” شمالي العراق (الموصل) لكن مؤشرات وجود النفط في تلك المنطقة جعلت بريطانيا تصر على عراقية تلك المنطقة التي وضعتها تحت انتدابها ابتداء من العام 1920.

على هذا فقد حكم شيء من التوتر العلاقات التركية ـ العربية بعنوان سوريا ومظالم السلطنة وصولاً إلى مذابح الحرب العالمية الأولى التي دفع فيها عرب المشرق ثمن الهزيمة التركية امام الحلفاء عند قناة السويس، وتراجع فلولهم ـ بكل ما نهبت و”أسرت” من جنودها العرب خلال عودتها إلى بلادها.

وبطبيعة الحال فان قدراً من التوتر ظل يسود العلاقات العربية التركية، بعنوان سوريا التي كان يستحيل أن تنسى كيليكيا واسكندرون اللتين اقتطعهما اتاتورك منها بفضل التواطؤ الغربي معه.. خصوصاً وان نسبة كبرى من اهالي هاتين المحافظتين قد خرجت إلى الساحل السوري الممتد (اللاذقية ـ طرطوس) قبل أن تنتقل إلى حمص ودمشق وسائر المدن السورية… وبين هؤلاء ادباء وشعراء ومفكرون وقادة سياسيون لعبوا دوراً في تعميق الفكر القومي وأسهموا في الحياة السياسية السورية بما في ذلك الاحزاب المنادية بالعروبة (البعث، مثلا).

ويمكن القول أن هذا التوتر ظل قائماً، بل انه وصل إلى حد تهديد تركيا بشن الحرب على سوريا حافظ الاسد “لاستضافتها” بعض القيادات التركية المعارضة (اوجلان)، مما اضطر دمشق أن تطلب اليه الخروج منها، فاصطادته المخابرات التركية في بعض انحاء افريقيا الاستوائية.

اما في عهد بشار الاسد فقد انقلبت السياسة السورية ازاء تركيا رأسا على عقب، وزار الرئيس السوري انقره اكثر من مرة، كما جاء الرئيس التركي اردوغان إلى دمشق مرات عديدة (وعبر إلى لبنان ايضا).. وتنازل الاسد الابن عن الحق التاريخي في كيليكيا واسكندرون وفتح ابواب سوريا للبضائع والصناعات التركية مما الحق اضراراً بليغة بالصناعة السورية الوطنية.

*****

المحطة التالية المثيرة للانتباه في العلاقات العربية ـ التركية عموماً، والسورية ـ التركية خصوصاً، يمكن تحديدها مع تقدم جحافل “داعش” او تنظيم “دولة الخلافة الاسلامية” بقيادة الخليفة “أبوبكر البغدادي” لاحتلال الموصل في شمالي العراق، عابرة مئات الاميال في البادية السورية والصحراء التي تفصل وتصل بين الحدود العراقية والتركية، من دون أن تراه الطائرات الاميركية او الجيوش العراقية او حتى الطائرات المن دون طيار التي كانت تجوب السماء التركية ـ العراقية ـ السورية.

ثم كان أن هُزمت جحافل “داعش” في العراق، وكانت قد احتلت اكثر من نصف مساحته، وانسحبت ـ سبحان الله ـ من دون أن تراها القوات التي كانت “تغلق” حدود سوريا ـ الحرب الضارية فيها والتي لم تكن تركيا بعيدة عنها ـ، فلا هي اعترضتها ولا اشتبكت معها.. بل تركتها “تتبخر” في الصحراء التي جاءت منها!.

وبالتأكيد فان المقبل من الايام سيكشف الكثير والخطير من اسرار “داعش” والقوة التي سهلت له تحركاته وتنقلاته في آلاف الكيلومترات من الارض السورية ـ والعراقية على الحدود المشتركة مع تركيا.. ولا سيما بعد دخول الولايات المتحدة الاميركية على الخط ودعمها لقوات كردية في سوريا، وتمكينها ـ بفضل دعم الحوامات والدبابات الاميركية ـ من احتلال مدينة الرقة السورية (التي بناها الخليفة العباسي هارون الرشيد على ضفاف نهر الفرات، وأعطاها اسمها) ومساحات واسعة في الشرق والشمال من سوريا.

تبقى ايران التي تلعب دوراً مؤثراً في سوريا والعراق، والتي تجمعها ـ حتى الساعة ـ علاقات جيدة مع تركيا..

ثم روسيا التي دخلت مسرح الشرق الاوسط بقوة، سياسياً واقتصادياً ـ ومن بعد عسكرياً، كما في سوريا وتركيا ومعهما ايران، ومؤخراً دول الخليج العربي بدءا بالسعودية وانتهاء بقطر (اقله كبائع سلاح متطور)!

وهكذا تتحرك فوق ارض المشرق العربي الآن، بدءاً بمصر وانتهاء بعُمان، طوابير من القوات الاجنبية (اميركية، ايرانية، تركية) مستغلة ومستفيدة من الانقسام العربي الذي تجاوز التنافس والخصومة وكاد يصل إلى حافة الحرب (في الداخل او مع الآخر ولو شقيقا..)

بالطبع هناك تناقضات وتضارب في المصالح قد تتسبب في توترات واحتكاكات وصدامات محدودة (كما بين القوات التركية التي تغزو الآن شمالي سورية بذريعة مقاتلة الاكراد المدعومة بالطيران والمدرعات الاميركية)، وقد تهدد علاقات التحالف التاريخي.

لكن الثمن، حتى اشعار آخر، يدفعه “العرب” في كل من العراق وسوريا وبعض انحاء الخليج ـ حيث لتركيا قاعدة عسكرية في قطر.

كيف السبيل إلى وقف الانهيار والفرقة والتفكك وسائر الامراض التي تضرب الجسد العربي وتنهكه وتجعله مشاعاً لكل قادر على أخذه، بدءاً بالعدو الاسرائيلي في فلسطين وما جاورها من اراضٍ عربية، مروراً بسوريا والعراق، وصولاً إلى اقطار شبه الجزيرة العربية، السعودية والبحرين والامارات وقطر حيث القواعد العسكرية الاميركية وارتهان الاقتصاد للدولار الاميركي، وارتهان القرار السياسي معه؟!

بعد مئة عام على انتهاء الحرب العالمية الاولى التي قسمت في ضوء نتائجها اقطار المشرق العربي، خصوصا، على المنتصرين (بريطانيا وفرنسا) قبل أن تتقدم الولايات المتحدة بفضل النفط ـ لتضع يدها على شبه الجزيرة العربية، بالشراكة، مع بريطانيا ثم منفردة، وأخيراً بالشراكة مع اسرائيل ـ .. ومن ثم على قرار العرب ليس فقط بالحرب والسلم، بل كذلك على مصائر الدول القائمة ذاتها، والمهدد بعضها بالتفكك وبعضها الآخر بأن يعود إلى “أحضان الاستعمار” راضياً مرضياً…

بعد مئة عام على انتهاء تلك الحرب الأولى، ثم الثانية وما أنتجت، وأخطر ما أنتجته الاحتلال الاسرائيلي بالدعم الغربي (الاميركي) المفتوح لفلسطين، كيف السبيل إلى تحرير هذا القطر أو ذاك بينما الارادة العربية مرتهنة للأجنبي (ومن ضمنه الاسرائيلي..)

والسؤال عن المصير العربي كافة، وبالأقطار جميعاً، وليس عن استقلال هذه الدولة او تلك، فضلاً عن احلام الوحدة وتحرير فلسطين وبناء الغد الافضل.

ينشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية

Exit mobile version