طلال سلمان

الشعب يتحرر على طائفيته: نحو الدور الريادي بين اهله العرب؟

من خارج التوقع، وأبعد بكثير من أي احتمال، وبتأثير الغضب المكبوت تاريخياً ضد النظام السياسي في لبنان، الذي اصطنعه الانتداب الفرنسي المخفف بتأثير بريطانيا في الحرب العالمية الثانية…

..من خارج التوقع، وأبعد بكثير من أي احتمال، اكتشف اللبنانيون، مجدداً، انهم “شعب” تجمع اطيافه روابط القربى والنسب والطموح والآمال والأماني والتطلع الى مستقبل أفضل.

من خارج التوقع، انتبه اللبنانيون الى أن النظام الطوائفي الذي ابتدع لهم، فتعامل معهم كأديان شتى، ولكل دين طوائفه التي توزعهم فرقاً واحزاباً، ثم توزع عليهم السلطة كأنصبة في شركة غير متساوية ومن خارج العرف والهوية الواحدة والارتباط بأرض واحدة وبمصير واحد.

من خارج التوقع، وتحت ضغط المخاطر المحدقة بكيانهم المصنع، وبنظامهم الطوائفي غير القابل للإصلاح، والذي تمنع طوائفيته والمذهبية الثورة عليه كشعب نما رجاله ونساؤه وشبابه على أن بلادهم الجميلة “أكبر” من ان تكون وطناً، وأسمى من أن يكون “أهلها” شعباً، بل هم اتباع أديان وطوائف ومذاهب شتى، لكل منها مرجعية في الخارج: للموارنة ـ فرنسا، وللدروز بريطانيا العظمى، وللسنة قاهرة الملك فاروق وسعودية الملك عبد العزيز، وللكاثوليك الفاتيكان وإيطاليا، وللشيعة (المعتادين على الظلم) مبكى كربلاء وشاه ايران والاتهام بنقص الوطنية عندهم، أما الأرثوذكس فلهم روسيا القيصرية أو الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي.. وإلا فروسيا بقيصرها الجديد بوتين.


من خارج التوقع، ومن دون أي تخطيط أو ترتيب أو اعداد مسبق، تفجرت الثورة في الشارع..

نزل اللبنانيون، في مختلف مدنهم (بيروت وطرابلس وصيدا، وحلبا والقبيات، وزحلة وبعلبك والهرمل ودير الأحمر وراشيا وحاصبيا وكامد اللوز) الخ .. فاكتشفوا انهم “اخوة”: تهاوت الانتماءات الطائفية والولاءات الحزبية، وسقطت الفروق المناطقية والتباينات الجهوية، وكأنها لم تكن..

اكتشفوا أن حاضرهم واحد (ومهدد) وان مستقبلهم واحد (تتناتشه) مخاطر كثيرة أمرها واقساها وقعاً على قلوبهم العدو الاسرائيلي وشهيته المفتوحة على “اغتصاب” اوطان الآخرين، بعد الفلسطينيين ومعهم..

من خارج التصور والتخطيط الأجنبي والتمويل بالنفط العربي ومعه الغاز، من خارج سايكس ـ بيكو واستقلال “سبيرز” الذي “عين” اول رئيس لجمهورية الاستقلال في لبنان، الشيخ بشارة الخوري، فاعتقله الانتداب الفرنسي مع كبار رجالات الدولة الجديدة: رياض الصلح وعادل عسيران وعبد الحميد كرامي في قلعة راشيا لمدة 11 يوماً، قبل أن يطلقوا سراحهم ليكون يوم الاستقلال في 22 تشرين الثاني 1943.

من خارج الانزال الاميركي عند شواطئ بيروت (الاوزاعي) في 15 يوليو 1958.


واكتشفوا، ايضاً وايضاً، أن حاضرهم واحد، وان مستقبلهم واحد، واذا ما استمرت فرقتهم فلسوف يخسرون الحاضر والمستقبل معاً..

… وهكذا تلاقوا جميعا في الشارع:

ملأوا الساحات بالهتافات المرعدة: يسقط يسقط حكم المصرف، يسقط يسقط الحكم الطائفي، يسقط العهد، كل العهد، يسقط الطغيان.

كانوا يهددون وهم يحملون اطفالهم: رجالاً وربات بيوت وصبايا الورد والفتيان طلاب الجامعات والمدارس الخائفين على وطنهم ومستقبلهم فيه، لا يريدون مغادرته بل هم مصرون على البقاء فيه واعادة بنائه بما يجعله وطنا لا مجرد دولة محكومة بنظام طوائفي يوزع مغانمه على اقطاعيات الطوائف والمذاهب التي استجدت واستولت على مقدرات البلاد والعباد.

كانوا يهتفون، بحرقة: يسقط، يسقط حكم المصرف. يسقط يسقط الاقطاع الطائفي. تسقط الدولة التي اقامها الاجنبي ثم سلمت الحكم لزعامات الطوائف لكي تلغي الوطن ومعه دولته.


سيذكر التاريخ أن شعب لبنان قد ولد في 17 تشرين الاول 2019، وانه ينمو ويكبر وتزداد وحدته صلابة مع كل شمس تغرب على جماهيره لتخلي لهم المكان، مع مناخ صحي للتلاقي على مشروع ـ الحلم: اسقاط النظام الطوائفي، والاعتراف باللبنانيين كمواطنين، أي كشعب واحد في وطن واحد، له الحق على دولته وفيها، بغير أن يحاسب على قاعدة انتمائه الطائفي وليس على اساس كفاءته وخبراته.

أن اللبنانيين، حتى اليوم، رعايا الطوائف التي لها زعاماتها ومرجعياتها المتهمة باللصوصية والتبعية للأجنبي، والاستعداد لبيع الوطن واهله لأي مشترٍ او متحكم بثلاثين من الفضة.. فضلاً عن الخضوع لإقطاعها الموروث او المستجد، إلى جانب سلوكها الاقطاعي، يشعرون بالقلق على مستقبلهم، يخافون على ابنائهم، لا يريدون أن يعيشوا في انتظار رسائلهم من المغتربات، او يلتحقون بهم، او يموتوا بحسرتين: غياب الابناء والاحفاد، وغياب الوطن.

وواضح قرارهم الثابت والاكيد: لسنا رعايا! نحن مواطنون في دولة ـ لكن الحكم يحكم، بمختلف مؤسساته التشريعية والتنفيذية، في غيابنا، ومن دون رأينا وعلى حسابنا.. وها نحن في الشارع لنؤكد اننا اصحاب القرار، وإننا ضد هذا النظام الذي يجعلنا رعايا لزعامات الطوائف. المناصب بالرئاسات والوزارات والادارات، مرتهنة للأجنبي والدولار والعدو الاسرائيلي.

كان لبنان “كياناً” مصطنعاً فرضه النفوذ الاجنبي الذي نجح في تقاسم الارض العربية، في المشرق خصوصاً، بعد الحرب العالمية الأولى.

ألغى الاستعمار الهوية الاصلية لأهالي هذه المنطقة وقطّع ارضها مستعمرات طوائفية على شكل دول تستبطن اسباب الاستحالة إلى اوطان الا بتغيير التوازنات بين الدول الاجنبية المتحاربة على هذه الارض الغنية بخيراتها غنى اهلها بتاريخهم.

صارت الطوائف دويلات متصارعة. الحدود بينها مقفلة، وعملاتها مرتبطة بالمستعمر القديم وقرارها خارجها.

..ومع النجاح في بناء هذه النماذج الطوائفية أمكن اقامة الكيان الاسرائيلي على ارض فلسطين: سوريا اربع دول على اساس طائفي ومذهبي، العراق الحكم ملكي بهوية ملتبسة الانتماء الطائفي لملكه بينما السلطة للسنة في بلد اكثرية شعبه شيعية، مع استبعاد للأكراد كعرق او اقلية ليكونوا قنبلة معدة للانفجار في المستقبل…

ألم تقرأ “مسودة” المشروع الاسرائيلي في هذه الدويلات؟

انه نمط “الدول” المطلوبة للمستقبل: مجموعات من الكيانات من خارج التاريخ، مقطَّع شعبها الذي كان واحداً إلى شعوب بولاءات متعددة ومصالح ثابتة في الانفصال وعداء معلن لكل ما يجمع او يوحد؟

أن ما نشهده هذه الايام في بيروت وسائر المدن والبلدات والقرى في لبنان، جنوباً وبقاعاً وشمالاً وجبلاً، يمثل محاولة شجاعة لإعادة كتابة تاريخ هذا الوطن الصغير الذي “ألغته” الطائفية وجعلته “كياناً” أي منطقة نفوذ قابل للتقاسم بين الدول المهيمنة كل على مقدار قوتها .

ومن لبنان وفيه سنشهد البدايات لتاريخ جديد لهذه الارض العربية التي لم توفر “الدول” وسيلة من وسائل التقسيم والتقطيع، بالفتن والحروب الطائفية التي تستبطن الصراع على السلطة.. وتبديل الولاء في اتجاه الاقوى بين عواصم القرار..

إن شعب لبنان يبحث عن ذاته، وعن قدراته، ليقرر مصيره.

وكذلك سائر العرب في اقطارهم الاكثر مما يجب، والتي تستمد بعض دولها علة وجودها مما في باطنها من ثروات مذهبة للغير وليس من ارادتها الحرة او من المصالح الحقيقية لشعبها.

وهو سيواجه الكثير من العقبات والالغام والأفخاخ المموهة بالذرائع الطائفية او المذهبية التي تغطي نفوذ “الدول” فيه، من الولايات الاميركية إلى اسرائيل، مروراً بدول النفط التي يلغي ملوكها والامراء شعوبها على مدار الساعة بزخم تدفق النفط والغاز فيها.

تنشر بالتزامن مع السفير العربي

Exit mobile version