طلال سلمان

الشرق الأوسط الأوسع من… دول بلا مواطنين!

يغمرنا الفرح بالإنجاز، في زمن البؤس، ونحن معكم في مدينة »الثورة«(*) هذه التي استولدتها إرادة النهوض وعمرتها قدرات أبناء هذا الشعب العربي الذي يتوق الى فرصة لإثبات كفاءته في بناء وطنه الذي يعتز بانتمائه اليه ويحميه بشغاف القلب وبؤبؤ العين.
إن الأرض بإنسانها، تعطيه بقدر ما يحفظها ويرعاها، فهي هويته وهي مصدر ثروته وضمانة استقلاله الوطني، يحميها بشرف المواطنة وبالحريات العامة التي تعزز إنسانيته وتعصمه من المتاجرين بحقوقه الطبيعية.
وها أنتم هنا، بنيتم هذه المدينة الحديثة، ونجحتم بوطنيتكم كما بمؤهلاتكم وجهدكم الدؤوب في إعادة صياغة الحياة في هذه البقعة من أرض سوريا الحبيبة، وهي بقعة تتميز بثرواتها الطبيعية متعددة المصادر، يشكل خيرها مصدراً مهماً من مصادر الدخل الوطني، ويمكّن بالتالي من تحسين حياة الناس بل يسهم في حماية القرار السياسي لهذه الدولة التي صمدت لضغوط هائلة، والتي ما تزال تواجه حملات شرسة لإخضاعها وضمها الى ركب من سلَّم ففرّط بالأرض والإرادة، وباستقلال الوطن كما بكرامة الإنسان.
وإنه لمما يشرفني ويسعدني أن أشارك في هذه الندوة هنا في دار الأسد للثقافة بمدينة الثورة، أستاذاً كبيراً وصديقاً عزيزاً جعل العلم أداة نضاله من أجل تقدم وطنه وإعلاء شأن مجتمعه بقدرات مواطنه وهي غير محدودة اذا ما قرنت بالكرامة وحرية الاختيار: انه الدكتور عصام الزعيم، الذي ناءت به الوزارة فخرج منها أكبر مما دخلها.
إن من حظي اليوم أنني أرافق احد الذين علمونا معنى الرقم وأثره على حياتنا الخاصة والعامة، حتى في درجة تذوقنا الفن والغناء والشعر والموسيقى والرسم والنحت، وكل ما يجعل الحياة لائقة بالإنسان.
***
بمقدار ما يتصاغر الوطن العربي الذي كان كبيراً ذات يوم فبعثره ومزقه وأضعفه حكامه، يتجاوز الغرب هوية هذه الأرض وأهلها فيزوّر لها اسمها، ثم يمدها بالجغرافيا وفق مصالحه وقدراته على الهيمنة، فإذا هي »الشرق الأوسط« بعد الحرب العالمية الثانية وإقامة إسرائيل في موقع القلب منها، وكانت تلك خطوة أولى.
لكن صعود العروبة ونجاحاتها في الخمسينيات، بقيادة جمال عبد الناصر والحركة القومية، والبعث كان في الطليعة منها، اسقطت مشاريع الأحلاف التي حاولت استعداء الدول الإسلامية على العروبة، فتوالت محاولات الاحتواء وإعادة السيطرة: مشروع الدفاع المشترك وحلف بغداد ومشروع أيزنهاور لملء الفراغ، والتي كان بين أهدافها تمكين إسرائيل من تجاوز العرب الى »المسلمين« لتتقوى بهم على شركائهم في الدين وفي الطموح الى الاستقلال الوطني. ولم يكن عبثاً أن تضم بغداد نوري السعيد (هل نقول طيب الله ثراه!)، الى أنقرة مندريس وجلال بأيار الى إسلام أباد الباكستان، وأن تكون ايران الشاه رديفاً، في مواجهة المد الثوري العربي الذي كان زخمه يعطي الأمل بالتحرر لتلك الشعوب المقهورة بحكامها الطغاة الخاضعين لحماتهم أصحاب الأحلاف.
ولقد ظهر »الشرق الأوسط الجديد« بداية كاكتشاف خارق لشيمون بيريز بعدما استتب الأمر لإسرائيل سياسياً، وانفتحت لها أبواب الدنيا جميعاً، بما في ذلك الوطن العربي، بمعاهدات الصلح المنفرد، مع مصر السادات بداية في العام 1979، ثم مع السلطة الفلسطينية باتفاق اوسلو الذي دفن عملياً مع موقعه اسحق رابين 1993، وبعدها مباشرة مع الأردن في وادي عربه في العام 1994.
أما بعد سقوط العراق بطاغيته في نيسان 2003 فكان الطريق قد غدا مفتوحاً أمام الصياغة الجديدة التي يتابع واضعوها تعديلها طولاً وعرضاً، والتي سربت مسودتها الأولى الى العرب قبل حوالى الشهرين، أما صيغتها النهائية والتي ستأخذ بالاعتبار بعض النصائح الأوروبية فلسوف تعلن بعد أيام في قمة الثمانية الكبار في جورجيا الأميركية.
***
لا يمكن إسقاط دور القمة العربية الأخيرة، التي انعقدت وفقاً لمزاج جنرال تونس، وبشروطه، قبل عشرة أيام في الترويج لهذا المشروع الاستعماري الجديد.
لقد أمكن تجاوز الصعوبات التي لم نعرف مصدرها، وطويت الإشكالات والحساسيات التي أثيرت من حول جدول أعمال هذه القمة البائسة، وتم عقدها بمن حضر توطئة او مقدمة او كإعلان نوايا عربية حول المشروع الأميركي الذي لا يلحظ للعرب، كعرب، وجوداً متميزاً ولا يعترف بالتالي بهم كعرب.
فجأة تحول سلاطين العرب الى مؤمنين بالديموقراطية، مبشرين بالإصلاح، مؤمنين بحقوق الإنسان، فكتبوا وأصدروا وأعلنوا مجموعة لا تحصى من البيانات والإعلانات والوثائق… لكنهم ولحساسيتهم الفائقة، وطنياً، أكدوا أنهم لا يقبلون إملاء ولا فرضاً، وهكذا فإنهم سيقيمون الديموقراطية وفقاً لتقاليدهم العربية وسيحققون من الإصلاح ما يتناسب مع دينهم الحنيف، وسيطبقون من شرعة حقوق الانسان ما يتحمله هذا المخلوق العربي الذي لا يقبل ان تقود زوجته او أخته السيارة ولا يرتضي من ابنه ان يناقشه في رأيه، وهو ولي الأمر، ولا تهون عليه كرامته فيعتبر انه يتساوى مع إخوانه، مثلا، او جيرانه او أصدقائه في الحقوق والواجبات.
الإصلاح بالبلاغ رقم واحد!
إن الحيثيات التي استخدمها جورج بوش في تقديم مشروعه، تذكر بلغة البلاغات الرقم واحد التي كانت تستخدم لتبرير الانقلابات العسكرية: شعارات فضفاضة، كلمات كبيرة، وعود مطلقة، دغدغة للمشاعر بغير مسؤولية ثم بعد نجاح الانقلاب والاستيلاء على السلطة تصبح نسياً منسياً.
لكن الخطر فيها أنها تصلح من حيث المبدأ لتبرير خلع أي نظام قائم.
الإصلاح مقابل الفساد. الديموقراطية في مواجهة حكم الطغيان. الاعتراف بالمواطن مقابل الإلغاء المطلق، والتوجه الى الأمة او الى الجماهير او الى الشعب وكأنه كتلة واحدة ينصهر فيها الجميع في طابور عسكري يصدر اليه الأمر فيتحرك ثم يطلب اليه الانصراف فينصرف، صلته بحاكمه »الأمر«، وبالطبع فإن أمر الحاكم بأمره لا بد يعبر عن إرادة الجماهير، الشعب، الأمة.
إن أي قراءة متعجلة في أوضاع الدول العربية بين المحيط والخليج، فضلاً عن الدول الإسلامية عموماً، تنتهي الى الاستنتاج أن التغيير ضرورة حياة.
الاقتصاد خرب. ألأكثرية الساحقة من البلدان العربية، بما فيها المنتجة للنفط، غارقة في الديون، وتشكو موازناتها من عجز ثقيل يقعدها عن النهوض بمجتمعاتها، بمعزل عن التساؤل: أين تذهب الواردات وكيف تنفق؟!
التعليم هابط، يتدنى مستواه عاماً بعد عام. تتباهى الحكومات بأرقام الزيادات في عدد التلامذة والطلاب الجامعيين، ولكن التدقيق يثبت أن أعداد الأميين تتزايد ولا تنقص خصوصاً اذا أضفنا اليهم أشباه الأميين.
التعليم الرسمي بائس والتعليم الخاص مكلف بحيث لا تقدر عليه الا فئات معينة تتكون في الغالب الأعم ممن استغلوا السلطة ومنافعها الكثيرة او موارد البلاد بالتواطؤ مع الشركات الأجنبية، ثم إن نسبة كبرى من هؤلاء الخريجين لا يعودون الى بلادهم ولا ينفعونها بعلمهم، بل يزيدون من وتيرة تقدم المجتمعات الأخرى بينما مجتمعاتهم تتراجع باستمرار.
وللتدليل على صحة هذا الواقع المفجع أكتفي بأن أذكر بأن العالِم العربي الممتاز، أحمد زويل، روى لنا انه زار جامعته المصرية الرسمية في الاسكندرية التي تخرج منها في العام 1969، بعد فوزه بجائزة نوبل، فوجد أن مستواها يوم كان فيها أفضل بما لا يقاس من واقعها اليوم.
أما الجيوش وأكلاف التسليح والمعدات والإنشاءات العسكرية فإنها تلتهم توازنات معظم الدول العربية. ان العسكر والتسليح يلتهمان الكثير من موازنات الدول، فقيرتها والغنية.
وبين المغرب واليمن فإن الأمثلة المعاشة تؤكد ان هذا السلاح نادراً ما استخدم في مواجهة عدو أجنبي وانه لم يستخدم في الغالب الأعم الا ضد الشعب او الجيران من الأخوة الأعداء: المغرب الجزائر؛ ليبيا تونس؛ ليبيا تشاد؛ ليبيا مصر؛ السودان مصر؛ السودان اريتريا؛ السودان ضد أهله؛ سوريا الاردن؛ سوريا العراق؛ سوريا منظمة التحرير الفلسطينية؛ العراق ايران؛ العراق سوريا؛ العراق الكويت.
من البديهي أن يستخدم خصمك كل حيثيات موجبات التغيير ضدك.
والمفجع ان الإدارة الأميركية تعرف عنا أكثر مما يعرف حكامنا، وبالطبع أكثر مما نعرف كرعايا. إنها تعرف أرقام الدخل القومي، والإنفاق الحكومي، وأحجام الاستثمارات في القطاعين الخاص والعام، في كل بلد عربي.
بل إنها تعرف حجوم الثروات الشخصية لحكامنا والمتحكمين فينا… ولقد عاش العديد من هؤلاء في رعب، ولعلهم ما زالوا لم يتخلصوا منه حين جمدت الإدارة الأميركية بقرار منها حساباتهم بالدولار سواء في المصارف او في الاستثمارات، داخل أميركا او في كل شركة لأميركا فيها نصيب في أي بقعة من الكون.
وبفضل هذه الحيثيات، وما هو أخطر وأدهى بما يتصل بحقيقة الأوضاع العربية، فإن هذا المهيمن الأجنبي سيظل قادراً على الادعاء، كما حصل في العراق، انه إنما جاء محتلاً ولكن لينقذ الشعب من طاغيته الذي قتل منه الملايين، سواء في حروبه ومغامرته التي ذهبت بآمال العراقيين في حياة كريمة في وطنهم الغني، او في حروب الابادة التي شنها ضد كل من فكر بالاعتراض على حكم الفرد الذي استعار لنفسه أسماء الله الحسنى ثم لم يُعدها الى صاحبها… حتى اليوم!
أقطار عربية للشطب!
ان المشهد العراقي الذي »نتفرج« عليه الآن ليس صورة جامدة.
انه مرشح للتكرار في العديد من الأقطار العربية التي ليس فيها من الدولة الا مظاهر التفخيم حتى التقديس لسلطانها المتعاظم على رعاياه، المتصاغر أمام الاحتلال حتى من قبل أن تصل جيوشه اليه.
والمشهد العراقي يتكامل مع المشهد الفلسطيني بقدر ما يتكامل الاحتلال الأميركي مع الاحتلال الإسرائيلي في شطب بلدين عربيين، بتمزيق وحدة الأرض، كما بين الضفة وغزة، او السعي لتمزيق وحدة الشعب، كما تتكثف المحاولات المحمومة لتحضير الأرض لحرب أهلية، من طبيعة عنصرية او من طبيعة طائفية، في عراق ما بعد صدام.
لقد شطب الاحتلال قطرين عربيين، واغرق شعبيهما في الدماء…
وها هي الهيمنة الأميركية تشطب قطراً عربياً ثالثاً في السودان.
في حين شطب معمر القذافي قطراً عربياً رابعاً هو ليبيا، وسط حملة شعواء على العرب وصلت في غلوها حد اعتبار العروبة عنصرية!
أما أقطار الخليج فعلينا ان نتعامل مع مستقبلها بحذر شديد.
لقد جاءتها الثروة قبل العلم.
والثروة كرست الانقسام الحاد بين أغنياء لا يعرفون وفقراء لا يقدرون.
ثم إن الثروة التي هبطت على من لا يعرف الدولة لم تساعد كثيراً في بناء مجتمعات سليمة، بل أقامت مجتمعات تخاف من هويتها وتخاف من أهلها أكثر مما تخاف من الأجنبي، خصوصاً وهي تفترض أنها قادرة على استئجاره لحمايتها كما لخدمتها.
والأكثرية الساحقة من العقول والأيدي العاملة في الجزيرة والخليج هي من غير العرب، وقد استُقدمت بقرار أجنبي وبتخويف أصحاب الثروة من هؤلاء الأخوة الفقراء القادمين اليهم كي يحرضوا شعبهم على سلطانه وليأخذوا الناس الى الثورة على أولياء الأمر الذين استخلفهم الله على أرضه الغنية!
إن الخليج بأقطاره جميعاً مرشح لأن يكون ساحة صراع بين الهند والباكستان في غياب أهله، كما قدر الاستاذ محمد حسنين هيكل في محاضرة له في بيروت، قبل سنوات بالاستناد الى معلومات موثقة شملت في ما شملته اسطورة القنبلة النووية الإسلامية.
أما السعودية التي يشكو شعبها من بطالة قاتلة فتستضيف ملايين الخبراء والأيدي العاملة المرتبطة بدولها.. ودولها مرتبطة بالأميركيين.
وهكذا، فإن الأيدي العاملة ليست سلطة عادية. إنها قد تتحول الى قوة شغب، وقوة سيطرة وتحكم لحساب »دولتها«… ودولتها محكومة من الأميركيين.
العمال العرب قد يحرضون الرعية، والعمال الأجانب قد يكونون رديفاً لقوة الاحتلال الأجنبي.. فأين المفر؟
وبدلاً من أن يكون النفط بخيراته ربطاً بين عرب العمل وحرب الثروة يفيدون لخير مجتمعاتهم جميعاً، ويتقدمون على طريق التكامل بالجهد والمال وإعمار بلادهم، صار عامل تقسيم إضافياً، وفي لحظات محددة سبباً للحروب بين الأخوة.
الخطر في واقعنا…
ليس الخطر في المشروع الأميركي الجديد ومضمونه الإسرائيلي.
الخطر في واقعنا المزري، حيث دولنا بأغلبيتها الساحقة أقرب الى الإقطاعيات، يحكمها ويتحكم بها طغاة يتداخل في شخصياتهم الخليفة مع المملوك وولي الأمر مع الوالي والإمام مع الوكيل وشيخ العشيرة مع الحاكم بأمر الله.
إن مشروع الاحتلال الجديد يحاول أن يستقوي بالشعوب المقهورة على قاهريها من الطغاة الذين ألغوا دور الشعب في الماضي، ويخافون منه اليوم أكثر مما يخافون من الاحتلال الاجنبي اميركياً كان أم اسرائيلياً.
انه يحاول دغدغة الإنسان العربي بالاعتراف به، بينما ينكره حكامه. يدعي المطالبة له بحقوقه التي لا يعترف بها حكامه. انه يتوجه اليه كمواطن صاحب رأي في حين ان حكامه ينكرون عليه رأيه حتى في ما يتصل بحياته او موته.
وبالتالي، فإن اعتراضات السلاطين العرب على المشروع الأميركي ليست جدية. انهم يريدون فقط أن يكونوا الوكيل المحلي وأن تبقى لهم هيمنتهم على شعوبهم ومعها امتيازاتهم. انهم يرفضون الديموقراطية ليس لأنها الآن مفروضة بقوة الاحتلال، بل لانهم يخافون من شعوبهم اكثر مما يخافون من المحتل.
انهم يكرهون شعوبهم لانهم يقدّرون انها تكرهم ولا يطمئنون اليها لانهم يعرفون انها لا تريدهم. لا يريدونها. فلا هي انتخبتهم ولا هم استشيروا فيها.
ولم نعرف عن حكامنا هذا الفائض من الوطنية وهذه الشجاعة في مقارعة »الصديق الأميركي العظيم« قبل اليوم.
لقد جاءت لحظة الحقيقة، وعلينا أن نواجه واقعنا في عينيه، فلا نهرب منه بمخادعة النفس أو بادعاء القدرة على الاستمرار في التشاطر ومخادعة الآخرين.
وأول ما يجب أن نعترف به أن دولنا بمعظمها ليست دولاً، وأن ما يربط بينها ليس شبكة من المصالح الحيوية المؤكدة لوحدة المصير، بل مجرد عواطف وأحلام وربما أوهام تدغدغ الأنظمة بها شعوبها ثم يمضي السلاطين الى تأمين رؤوسهم وعروشهم بعيداً عما يتطلع اليه رعاياهم الممنوعون من أن يصيروا مواطنين.
إن الدولة في معظم الأقطار العربية تكاد تُختزل في شخص السلطان وحاشيته، وما المؤسسات التي تصطنع على عجل الا محاولات عبثية مضحكة لاستيفاء شكل الدولة بالألقاب والمظاهر… وكلما صغرت »الدولة« بمساحتها وعدد سكانها تعاظمت الشكليات حتى الإبهار.
حكايات من ماضي المستقبل!
من باب الطرافة سأروي بعض ما عايشته متصلاً بإقامة الدول او اسقاطها:
أخذتني مهنتي الى قطر خليجي في أواخر 1962، مع إعلان استقلال تلك المشيخة التي لم يكن النفط قد أغناها كثيراً فقرر البريطانيون ان يجعلوها دولة كاملة السيادة، ولو أنهم تركوا كالعادة مجموعة من الألغام في الحدود المختلَف عليها مع العراق خاصة، ثم مع السعودية، والتي يمكن تفجيرها ذات يوم، وقد تكرر التفجير أكثر من مرة، كما تذكرون.
المهم أنني شهدت من موقع الصحافي كيف تحول »شيخ العود« الى صاحب السمو أمير البلاد، رئيس الدولة المفدى حفظه الله، والمجلس البلدي الى »حكومة«، و»الديوانية« الى »مجلس الأمة«، وكيف أُتي بأساطين الفقه وأساتذة القانون ذوي المكانة العلمية المتميزة كي يضعوا الدستور، ثم ليستعيروا القوانين الجاهزة تمهيداً لإقامة »مؤسسات السيادة« في تلك المشيخة التي لم يكن عدد سكانها ليزيد على مئة ألف إنسان، بمن في ذلك »الوافدون«، وكان بينهم كثرة من العراقيين يؤمنون في أعماقهم بأن هذا القطر امتداد للبصرة، لكن المقادير أي المصالح الأجنبية شاءت غير ذلك.
لا أقول هذا طعناً بشرعية الدولة الخليجية المعنية، التي اسبغت عليها مؤخراً مرتبة الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية وكادت تضم الى الحلف الأطلسي لولا بعض العوائق الجغرافية…
إنما أستذكر كيف استولدت مصالح الغير والأجنبي تحديداً دولة في صحراء لولا النفط لم يكن لها وجود.
بالمقابل، سأروي واقعة اخرى مضادة في دلالاتها:
في أواخر 1971، أوفدتني »دار الصياد« التي كنت أعمل فيها مراسلاً متجولاً لمقابلة قائد ثورة الفاتح في ليبيا العقيد معمر القذافي، وكان بعدُ مزدهياً ومتفاخراً باللقب الذي أطلقه عليه الراحل العظيم جمال عبد الناصر في آخر لقاء معه، وهو: الأمين على القومية العربية.
… وافترضت بعد لقاءات عدة أن هذا الفتى العربي الثائر الذي يدرك ان الوحدة هي خلاص بلاده الغنية بثروتها النفطية الفقيرة بعديد شعبها، سينجز وعوده بأخذ دولته الى الوحدة مع مصر (والسودان) او مصر وسوريا، كما شاع الوهم ذات يوم.
لكنني فوجئت، كما فوجئ كل العرب، والليبيون بشكل خاص، بمعمر القذافي يطلع على الناس ذات يوم بالنظرية العالمية الثالثة، فيسقط العرب والعروبة من كل حساب ويلغي »الدولة« التي يرأسها بشحطة قلم.
وفي نقاش مع أبرز منظري تلك المرحلة، ابلغت ان العقيد ليس ضد صيغة بالذات للدولة، ولكنه ضد الدولة بالمطلق… وعجبت لمن لا يعرف الدولة كيف يلغيها من قبل أن يتعرف الى ماهيتها وموقعها في سياق الاجتماع الإنساني.
وهكذا، وبعد خمس وثلاثين سنة على قيام ثورة الفاتح، فلسنا نجد في ليبيا من الدولة إلا القائد: لا شعب، لا مؤسسات، لا جيش، لا هيكلية للإدارة، والخزينة بعشرات او مئات المليارات فيها بتصرف الأخ العقيد وأبنائه البررة.
يذهب يساراً، إن شاء، يذهب يميناً ان شاء، يقاتل طواحين الهواء، ثم يدفع دية الضحايا ويسلم ثوار الشعوب الأخرى ويكمل ابادة الهنود الحمر، ويمنع العرب من دخول جنة أرض الفاتح، بلاد بطلهم عمر المختار.
واقعة ثالثة: في مثل هذه الأيام من العام 1970، ذهبت الى العراق في عداد وفد صحافي، وكان بين محطاتنا المهمة لقاء مع الملا مصطفى البرازاني في جلالا، في معقله بين أكراد العراق الذين كانوا يعيشون فرح الوصول الى اتفاق الحكم الذاتي مع السلطة المركزية في بغداد، (اتفاق 11 آذار).
كنا سعداء، كعرب، بهذا الاتفاق الذي يؤكد في العروبة بُعدها عن الشوفينية ويبرئها من العنصرية ويوطد ذلك التلاحم التاريخي بين العرب والكرد، لا سيما في العراق.
لكن حصيلة المحاورات مع صدام حسين في بغداد، كما مع قيادات الأكراد في الشمال، لم تكن مطمئنة. وكان مصدر القلق واحداً: انه اتفاق مع شخص يمسك بيده، الآن، كل السلطة، فماذا لو بدل رأيه؟
ولقد كان… وبدل الشخص رأيه، وتجددت الحرب الكريهة في شمال العراق والتي دفعنا ثمنها، كعرب وككرد، باهظاً، وها نحن ندفع بعد، وسندفع أكثر بكثير في المستقبل. وما نزعة الانفصالية المموهة بالفيدرالية عند قيادات أكراد العراق، وما الإصرار على حق الفيتو إلا مقدمات سيكون لها ما بعدها مما يؤثر على هوية العراق ودوره القومي وموقعه في قلب أمته ونضالاتها من أجل الغد الأفضل.
بل لقد كان ما هو أدهى: سقط الشخص فإذا لا دولة في العراق، بل قد نكون صرنا بلا عراق.
وها هو الاحتلال الأميركي يجد في واقع العراق تحت حكم الطاغية ما يبرر به احتلاله، ويتباهى بأنه الاحتلال يعيد بناء دولة العراق التي دمرها الطاغية الذي اختار وريثه.
واقعة رابعة: حدثنا الأستاذ محمد فائق، رجل أفريقيا في مصر عبد الناصر ووزير الإرشاد في عهده، قال: بعد وفاة عبد الناصر كنا ملزمين بترشيح نائبه انور السادات الذي لم نكن نحبه أو نريده، لكن لم يكن أمامنا عذر لاستبعاده. وهكذا اتبعنا الإجراءات التي ينص عليها الدستور، فأعلنا موعد الاستفتاء، وكان المرشح الأوحد. وذهبنا اليه، كل أركان الحكومة يتقدمنا شعراوي جمعة، الذي كان وزيراً للداخلية لنبلغه النتائج.
كان السادات في ذروة السعادة ونحن نهنئه ونبارك له فوزه الساحق، وهتف: هاه.. كيف كانت نتيجة الاستفتاء؟ وقرأ شعراوي جمعة النتيجة التي تظهر ان حوالى 98 في المئة من المصريين قالوا »نعم« في الاستفتاء على السادات رئيساً… ظهرت أمارات النشوة على وجه »الريس«، والتفت الينا فقرأ في وجوهنا ما نتحرج من قوله، فسأل: في ايه؟! قول يا شعراوي!
قال شعراوي: لاحظنا يا »سيادة الرئيس«، أن »سيادتك« قد نلت 98 في المئة بينما الرئيس جمال عبد الناصر… قاطعه السادات: الله يرحمه، ويحسن اليه.. وتابع شعراوي يقول: الرئيس عبد الناصر نال في آخر استفتاء أجري عليه 7,96 في المئة، فتحرجنا، اذ لعل »سيادتك« لا تريد أن يبدو وكأنك نلت في أول استفتاء أكثر مما نال عبد الناصر في آخر استفتاء…
وصرخ السادات: الله، انت عايزني ازور ارادة الشعب يا شعراوي! انت تريدني ان ابدأ عهدي بالتزوير يا شعراوي. ده الشعب قال كلمته وخلاص.
للمناسبة: يجزم محمد فائق ان نتائج أي استفتاء على شخص الرئيس في مصر، لا بد ستنتهي بمثل هذه النتائج، بغير تزوير. فما دام المرشح الأوحد هو »الرئيس« فإن أجهزة الدولة جميعاً ستعمل بكفاءة نادرة، من الحكومة، الى الأمن، الى العمد وشيوخ الخفر، فتجيء النتائج قريبة جداً من مئة في المئة… وهذا واقع غير مزور، لكنه لا يعبر مطلقاً عن ارادة الشعب.
والسؤال دائماً عن الدولة
والجواب انه حتى في دولة كبرى وعريقة، بالمعنى التاريخي، كمصر، يمكن اختزال الدولة بمؤسساتها المعينة بمجملها في شخص واحد، ما دام الشعب مغيبا تماماً، إلا ليقول نعم، نعم في أي استفتاء، ولأي قرار يتخذه السلطان.
واقعة خامسة: بعد ثورة أيار (مايو) 1969 حملتني مهنتي الى الخرطوم لأتابع الحدث الكبير الذي بشر بإمكان وضع نهاية للحرب الأهلية التي كانت تمزق السودان شمالاً وجنوباً وجهات أخرى، مستحدثة حالة عنصرية بشعة.
كان بطل الثورة آنذاك جعفر نميري قد دعا الى تشكيل مؤتمر قومي يجتمع فيه كل الوان الطيف السياسي في السودان. وتسنى لنا ان نحضر جلسته الأولى فصعقتنا بعض الوقائع، ومنها: أننا، نحن الذين تُعلمنا الكتب المدرسية ان السودان بلد عربي، وجدنا الأكثرية من المؤتمرين من الأفارقة السود، وان العرب بينهم ليسوا أكثرية مطلقة. وتبين لنا، من بعدُ، ان العرب العاربة او المستعربة لا تزيد نسبتهم على ستين في المئة من السودانيين. وهكذا فقد اعترض غير العرب من السودانيين على نص المادة الأولى في الدستور التي تقول ان السودان جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، ثم اعترضوا على النص القائل بأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية لهذه الدولة متعددة الأعراق.
وكان من الطبيعي ان نتساءل: أي دولة هي هذه التي لم تتفق شعوبها، بعد، على هويتها القومية، وعلى مشاركة »شعوبها« في حكمها، كل بحسب عديده… ومؤخراً بحسب مواقع آبار النفط فيها.
وها ان إصرار السلطان على تجاهل حقائق الحياة قد أجبره على أن يقبل بالمهيمن الأميركي شريكاً في قرار إعادة صياغة السودان على قاعدة فيدرالية مشروطة بالتقسيم الى دولتين، على الأقل، إذا أخل حاكم الخرطوم بأي بند من بنود اتفاق الإذعان الذي وقعه قبل أيام.
دول أولياء الأمر…
أستطيع أن أمضي في سرد وقائع بلا حصر كلها تؤكد اننا ما زلنا حديثي عهد بالدولة في مجمل بلادنا العربية. لقد أسقطت علينا الدول من عل، وغالباً بقوة التدخل الاستعماري، تمزيقاً لأوطاننا بجغرافيتها البشرية ومواردها الطبيعية وتاريخها. وبالتالي فإن دولنا ليست دولاً، بالمعنى المعروف للكلمة.
وما زال الالتباس قائماً وسيبقى بين العشيرة والقبيلة والعائلة وبين الدولة. كذلك، فإن الالتباس سيبقى قائماً بين الخليفة الإمام ولي الأمر السلطان الملك الرئيس الزعيم القائد الأمير شيخ العشيرة الوالد، ما استمر الالتباس قائماً بين الدولة والدين، في مجتمعاتنا البطريركية.
لقد جئنا الى المجتمع الدولي متأخرين قروناً عن مسيرة الإنسانية في اتجاه العصر.
جئنا محمّلين بترسبات عصور استعمارية طويلة، ودهور من التشتت والفرقة والانقسام وحكم الأغراب الذين حجزوا الخليفة في قصره، وحكمونا بقوة العسكر الذي كان يحمل علمه ويقاتل لهم.. وغالباً ما كان يقاتلنا، سواء في معظم عهود الخلافة العباسية، او تحت الخلافة الفاطمية او أيام المماليك ثم في ظل السلطة العثمانية، وقبل أن يجيء الاستعمار الغربي ليقسم بلادنا دولاً وفق مصالحه لا وفق إرادة أهلها، ولا وفق قابليتها للحياة.
وهكذا، نجد أنفسنا في دول غير مكتملة التكوين، وفي مجتمعات لم تستقر على قيم ثابتة ونهائية، لا في علاقتها بالدولة ولا في علاقتها بالدين. وباختصار: فليس ثمة شعب مكتمل النمو، وليس ثمة »مواطن« فرد في معظم أرجاء هذا الوطن العربي الهائل الامتداد، وبالتالي فليس من حقوق للفرد، وليس من دولة بالمعنى العصري للكلمة، وبالتالي من مؤسسات تجسد مصالح الشعب وتعبر عن إرادته فعلاً.
وما دامت مجتمعاتنا تحت التأسيس، لا العلاقة مع الدين وموقعه منها ومن دولتها محسومة، ولا الدولة تعبير فعلي عن مصالح هذا المجتمع وطموحاته، بأفراده جميعاً، كمواطنين، وليس كطوائف او عشائر او مجاميع تساق بالآمر الإلهي او بقوة صاحب السلطان، الى حيث تقتضي مصالحه او ارتباطاته، فإن »دولنا« لن تكون بمجملها دولاً في نظر المهيمن الأجنبي، ولا اللقاءات بين حكامها ستصطنع قمة تعتمد ما قررته شعوبها بإرادتها الحرة، وتلتزم به.
وسيظل للمهيمن الأجنبي القدرة على الفرض مع تبرير هيمنته بقصور هذه الشعوب وتخلفها عن مفهوم الدولة بشهادة حكامها أنفسهم!
آسف ان كنت حركت من المواجع أكثر مما زرعت من أمل في التغيير، لكن معرفة الحقيقة، على مراراتها، واجبة من أجل التقدم الى الأمام، الى الحرية، الى العصر.
والعروبة شرط حياة لهذه الأمة.
لكن بناء الدول مهمة تاريخية جليلة، لا تتم بقرار من محتل، ولا برغبة للسلطان. ثم ان لا دولة بلا مواطن، ولا مواطن بلا حريات، حرية عمل وحرية قول وحرية اختلاف مع الحاكم، لا سيما متى أخطأ.
وانتم بتجربتكم المميزة هنا تعرفون أن الجهد الممتاز في البناء الموجه خيره الى الناس يعطي منعة للوطن ويعزز في المواطن المكتفي ثقته بنفسه وإحساسه بكرامته ومطالبته بحقه.
(*) مداخلة في ندوة مشتركة مع الدكتور عصام الزعيم في »دار الثقافة« في مدينة الثورة سوريا.

Exit mobile version