طلال سلمان

السياسة تخسر »طفلها« النظيف: بيار حلو

لم يكن لبيار حلو في حياته الخاصة، أو في مواقفه من الشأن العام جميعا، ما يخجل به أو يحرص على إخفائه… وهكذا جاء موته المفاجئ (على الهواء) خاتمة محزنة لسيرة حياة نظيفة.
ولقد عاش بيار حلو حوالى نصف عمره في »السياسة«، لكنه لم يكن »سياسيا محترفا« في أي يوم، بالمعنى اللبناني المألوف للكلمة. فهو كان، في حياته الخاصة، على قدر من الثراء، لكن ذلك لم يمنعه أبداً من تحسس مواجع الفقراء والكادحين ورفع صوتهم بالاعتراض على الضرائب الظالمة والقرارات الخاطئة التي تفاقم الأزمة الاجتماعية بدلا من أن تسهم في حلها. وهو كان »مسيحياً« حتى العظم، لكنها مسيحية إيمانية نقية لا تأخذه إلى التعصب ولا تتعارض مع الوطنية، بمفهومها البسيط: التمسك بالأرض والسيادة، أي الكيان السياسي، مع تفهم الضرورة في إعادة النظر بالنظام ليكون أكثر عدالة وأقل طائفية. وهو كان يعتز بلبنانيته، ولكن بغير أن يحولها إلى عصبية تتطرف في اتجاه العنصرية. ثم إنه دخل حقل الأعمال مبكراً، وفي أكثر من بلد عربي، أولها الكويت وبعدها العراق، وربما عززت هذه العلاقات العملية من يقينه بضرورة إسقاط »الحدود« اقتصادياً والتعاون المفتوح في اتجاه التكامل من غير أن يعني ذلك ذوبان »الكيانات« في دولة واحدة، وكان يرى في السوق الأوروبية المشتركة التي تطوّرت إلى الاتحاد الأوروبي، المثال الذي يجب أن يُحتذى. ولأنه كان »وطنياً« فقد تطهرت نظرته إلى القضية الفلسطينية من شبهة »العنصرية« التي اجتاحت، في فترة الحرب الأهلية، المنطق والمصلحة المشتركة، وقادت إلى عدائية قاتلة تجاه »الفلسطيني«، مما أراح العدو الإسرائيلي وجعله شريكا مقررا في الشأن اللبناني.
ومن اللافت أن بيار حلو قد أمضى حياته بلا خصوم وبلا عداوات، بل لعله كان الأكثر غنى بصداقاته بين جميع أقرانه من السياسيين. حالف واختلف، والى وعارض، شارك في أكثر من معركة انتخابية بغير أن يستعدي منافسيه، دخل أكثر من حكومة ومعه موقفه فكان متعِباً لأنه لا يرى نفسه ملزماً بالسكوت عن خطأ حرصا على التضامن الوزاري، ولأنه غير مستعد لأن يجامل »الرئيس« بذريعة حماية الموقع الممتاز للطائفة في الحكم.
ربما كان للتكوين العائلي الذاتي فضل في هذا »الاعتدال« الذي وسم مسلك هذا الرجل الذي أطل على السياسة من مجال الصناعة والأعمال الحرة.
ففي شخصية بيار حلو شيئ من »سورية« والدته، سليلة بشارة أصفر، أحد أعيان دمشق الموارنة، وذريته تحمل شيئاً من »عراقية« زوجته، إبنة ميشال شيحا المتحدر من حدباء العراق، الموصل، والذي نجح في أن يكون فيلسوف النظام اللبناني النابذ للتطرف، العقائدي في عدائيته للصهيونية وكيانها العنصري إسرائيل، التي لا تتوطّد أركانها إلا على حساب المستقبل العربي عموما، والتي ستتكفل عنصريتها بتدمير الأقليات الدينية والطائفية والعرقية في المنطقة، إذا هي سقطت في فخ تقليد المثال الإسرائيلي.
ثم إن بيت بيار حلو يكاد يكون، في مصاهراته وصلات النسب، شبكة تجمع إلى الموارنة الكاثوليك واللاتين، وإلى وجاهات جبل لبنان بعض أعرق العائلات البيروتية (آل الخوري، آل اده، آل فرعون، آل ضوميط، فضلا عن آل شيحا وأصفر إلخ)..
***
كثيرون، مثلي، سيشعرون بفداحة غياب صديق حميم، مع وفاة هذا السياسي النظيف، الذي لطالما آذته عفويته في إطلاق آرائه صريحة، وربما متعجلة، مما أسهم في إبعاد الرئاسة مرة، على الأقل، والنيابة مرة، والوزارة مرات..
سنفتقد، ومعنا جمهرة اللبنانيين، هذا »المسيحي« الذي على تدينه، ظل بريئا من مرض الطائفية، وظل بين مُثُله العليا في العمل العام الراحلان كمال جنبلاط والإمام موسى الصدر، ولعلهما هما بالتحديد من »ورّطه« في دخول معترك السياسة.
يمكن أن يضاف إلى هذين القائدين الشهيدين في قائمة »موجّهي« بيار حلو صديقُه ثم نسيبُه الذي كاد يكون أخاه: ميشال اده، الذي ساعد في »ترشيد« فورات ذلك الرجل العفوي في صراحته، بما يخالف »قواعد« السلوك السياسي المعتمد في هذا البلد الفريد في بابه..
أما بالنسبة للصحافة والصحافيين فإن بيار حلو كان الصديق الصدوق لجميعهم.. ذلك أن لا شيء عنده يخفيه لأنه يخاف من إعلانه، وكانت صراحته تجعله مصدرا موثوقا للتدقيق والتثبت من حقيقة مواقف الآخرين. ثم إن »براءته« كان تعزز نزاهته.
لم يكن بيار حلو بين أصدقاء الموقع. كان بين أصدقاء الموقف.
***
ظهيرة يوم الأربعاء 22 تشرين الثاني 1989 تمّ اغتيال رئيس جمهورية اتفاق الطائف الذي بات شهيدا رينيه معوض، فاغتسل عيد الاستقلال بدمه.
ظهيرة يوم الجمعة 24 تشرين الثاني 1989، كان النواب المفجوعون برئيس التسوية السياسية للحرب الأهلية، يحتشدون في فندق شتورا بارك، تمهيداً للتوافق على رئيس بديل، يوقف الانهيار لإنقاذ التسوية.
في واحدة من قاعات ذلك الفندق الفخم تحلق ما يزيد على أربعين نائبا (من أصل سبعين) من حول بيار حلو، يحاولون »غوايته« في أن يقبل أن يرشح نفسه للموقع الممتاز. كان بينهم ممثلون لمختلف الطوائف والاتجاهات والتلاوين السياسية. ولقد وجد بينهم أيضاً من أخذته حماسته إلى دمشق لكي يزكّي ترشيح بيار حلو رئيساً للجمهورية.
لكن بيار حلو العنيد لم يبدل موقفه أبدا، وظل يردّد: أعوذ بالله.. إنها مرحلة دموية فظيعة. إن من سيقبل الرئاسة اليوم عليه أن يسلم بضرورة المواجهة مع الجنرال عون والآخرين من المعترضين، مهما كلفت من ضحايا ومن خسائر. وبالنسبة لي لا تساوي الرئاسة قطرة دم واحدة تراق في مواجهة بين الأخ وأخيه. إنها رئاسة مغمّسة بالدم! لست لها! ابحثوا عن غيري!
***
لقد خسر لبنان وجها نظيفا لا يعوض في حياته السياسية: فقد »طفلا« كبيرا، لم تلوّثه الأحقاد، ولم يحاول ركوب الموجات الطائفية للوصول، وظل نزيها، صريحا، مباشرا، حتى الرمق الأخير… فمات »على الهواء« وهو يعلن رأيه الذي لم يكن ليحجبه مهما كانت التبعات ثقيلة.
رحم الله بيار حلو وعوّض لبنان رجالا في مثل نقائه ونظافة قلبه وكفه ولسانه.

Exit mobile version