لم يكن يهذي. مُشوشٌ وقلقٌ ويكاد يكون عدمياً. عندما قرأته، خلته “ميرسو” في كتاب ألبير كامو. كان هذا قد قتل عربياً لسبب تافه، أو بلا سبب بالمرة وصار بطلاً. نحن نُقتل لسبب وجودي: نريد فلسطين وطناً.
“غريبٌ” لا اسم له. هو يهودي في إسرائيل، لم يكن فيها من قبل. كان في طواف الأيام والأحداث والأسئلة، بلا أجوبة.
تربّى على مثاليات الصهيونية والوطن السماوي والخلاص المشترك… توقف عن السرد، ثم: سأداوم راهناً وأعيد قراءة حياتي. أريد جواباً نهائياً لسؤالي: “متى ستقفل هذه الجحيم أبوابها”؟ فلسطين، كما يبدو، ليست خلاصي أبداً. أصيب بالأمس بهلع صاعق. انفجرت حافلة في الشارع المكتظ. بعدها، تدلت الأجساد وتناثرت وسط الدخان الملتهب. شتم البرابرة العرب. قال: إنهم يُقتلون كالعميان. هل نحن مُذنبون؟
تساءل: من ينقذني من هذه اللعنة؟
يُصوّب نظره إلى مخيم بلاطة. يتغير المناخ النفسي. إلا أن الرد الإسرائيلي كان قصاصاً فادحاً ونموذجياً. قرّرت القيادة قصف مدينة غزة. الانفجار وقع في القدس. كل الأرض للهتك والفتك. سُمِعت أصوات بكاء وأنين وصراخ. أيادٍ مصلوبة. قامات انتصفت. ثم، تدخلت الطائرات. حضرت الدبابات. توغلوا في القتل. خرج الفلسطينيون مع إيمانهم وإلههم. راحوا يتدفقون حول النعوش الخضراء. في المقابل، داومت الإذاعة الإسرائيلية على الترداد: الهمج أقدموا على تنفيذ عمليات إنتحارية كارثية.
وقفَ بعيداً. إصطفى مكاناً معزولاً. تساءل: لماذا يُطاردني الانفجار كوحش، يدفعني إلى أن ألوذ كالجرذ بين فخذي. قيل لي وصدَّقت أنني موعود بوطن نهائي، على قياس طموحي وطموحنا. انا الآن ارتجف رعباً. وكلما رأيت رجلاً أو شاباً أسمر اللون، كنت أظن أنه يُخبّئ تحته موتي.
قلتُ خائفاً: “لا أريد أن أنهض ذات يوم وأجدُ قدميّ على رصيفين نائيين. لا أرغب أبداً في أن أتبعثر في ملاءات تحمل الى مستشفى مختص بإلباس الجثث. أحلم بموت جميل يشبه قبلة صامتة. عبث. أقنعونا أن موتنا سيكون جميلاً. كذبوا.. قالوا إن السلام قادمٌ. كذّبوا. وحده الدم كان صادقاً: نقتلهم ويقتلوننا.
تعب من هذا الوجود. رسمَ لنفسه مناخ الإقامة البائسة. لا حظ لنا في اقامة “إسرائيل”. إننا نعيش مطاردين في أسرتنا. إنهم ينفجرون ويتفجرون في أنحاء أجسادنا. العرب الذين هزمناهم في كل المعارك، قتلوا ولم يستسلموا. لم يرفعوا أبداً الراية البيضاء. كان أكثر العالم معنا، فيما الفلسطيني كان واحداً أحداً، وكان سيد الحياة. إنما، كنت أشبهه كثيراً. أنا أريد قتله، وهو يؤلف مراسم دفني كل يوم.
يتساءل تلميذ يورخيس: ما الحل؟ أسأله: هل أقتل لأبقى حياً مؤقتاً؟
هل أقتله كل يوم لأفوز بحياتي يوماً، بانتظار موعد لا يأتي. أنا لا أنام مطمئناً. أقتله في مضجعي، أحفر خنادق خيالية. ومع ذلك، فإن الحقد الذي أتقنه، يدفعني إلى أن أعيش مزدوجاً: إنساناً ومتوحشاً.
يتساءل: جحيمُنا أليس مزدوجاً كذلك؟ نحن وهم في هذا القاع الدموي. يبدو لي أن ما بيننا ليس سوء تفاهم أو عناد أو سوء ظن. إنه سوء تواجد. وجودي ضد مجرد وجوده. وجودان لا يجتمعان. الثنائية لا تستقبل. وجود الواحد الإسرائيلي ينفي وجود الآخر الفلسطيني. فعلاً، إنها لعبة ميسر، لا يربح فيها أحد.
نحنُ وَهُمْ، أعداءٌ بلا أسباب مسبقة. إننا على وشك ارتكاب الإبادة، بل، لقد بدأناها.
كان هذا على حق. فما يجري في غزة راهناً، هو فعل إبادة. وهذه المرة، بمشاركة دول ذات مكانة عالمية في الفكر والديموقراطية والانفتاح: “لسنا وحدنا. خافوا منا”. ولكن الفلسطيني، يبدو أنه لا يخاف، أو ممنوع أن يخاف.
أحياناً أروبص. هذا الذي قتلته، سيزورني ليلاً وينام في فراشي الزوجي.. هل أنا أهلوس؟ طبعاً. نحن نعيش كشعبين في وطن، نحن ندعي أن كلام الرب يجب أن يُنفّذ، والفلسطيني يعلن عن وجوده، منذ ما قبل التاريخ. فلسطين عاصية.
شعبان يعيشان معاً، هذا مستحيل. هذه جريمة، لأن مشروع “إسرائيل” المؤسس على النقاء العبري بمواجهة فلسطين العربية، يشبه مبرهنة إقليدس: خطان متوازيان لا يلتقيان.
ضجيج أسئلة يقرع جدران العقل. الطلاق دموي. الإقامة مستحيلة. نحن في جحيم. الفلسطيني المقموع والمُضطهَد باستمرار والمُذل بمهانة والمُجوَّع إلى اللقمة، من قِبل سلطة “إسرائيلية” في بلد مطوب لليهود، هذا المُجوَّع والمقتول والمنبوذ والمُطارد والمُذل والمُهان، لن يتوقف عن إرسال الهدايا المفخخة وتصدير العمليات الانتحارية لقتل أولادنا الطيبين. ثم، يا إلهي، إنهم ينجبون ثم ينجبون. يتكاثرون. برنارد هنري ليفي الصهيوني الأنيق، يدافع عنا بصدق ويكذب عليهم، بأن من قتل محمد الدرة، ليس رصاص الجنود “الإسرائيليين”. لقد قتل لأنه كان في مرمى النيران!
لا مفر من الإعتراف: الفلسطينيون في فلسطين، لأنها وطنهم الوحيد. اليهود “الإسرائيليون” هم في “إسرائيل” لأن العالم لم يسمح لهم بالإقامة الدائمة في أراض واسعة. الشتات كان وطن اليهود. كأن اللعنة تطاردهم. أينكر الغرب وسائل جهنمية ليكافح انتشار اليهود في دول الغرب.
يقول: لقد اضطهدنا وتشردنا. نعتونا بالقذارة والتجسس والربا. كان اليهودي في الغرب مُذنباً ومُضطهداً. إنه الشر الذي يسير على قدميه. يقولون: غيرنا أسوأ منا. اليهودي مذنب أبدي. مُنِع عنه الغفران. هو مسؤول عن كل ما حدث في التاريخ اليهودي. لذا، هو أنشأ “الغيتو” ولجأ الى حماية نفسه بالثروة المالية والثقافة والعصبية الدينية.
يقول: لسنا ملائكة حقاً. ولكننا لسنا أبالسة. لقد تعامل معنا العالم الغربي على أننا نجس. طاردنا الغرب. طردنا. قتلنا. أدخلنا في أفرانه. دول أوروبا، زوّدت العالم بخرافات شنيعة. قالوا إننا نسرق الأولاد ونسرق منتوجاتهم. لم يتركوا خطيئة إلا ووصمونا بها. وكانت الحرب العالمية الثانية، المناسبة لإعدام جماعي لليهود. هتلر استقبل يهود أوروبا وأحرقهم في الأفران.
حلم العودة الجميل، تضرّج بالدم. عرفنا أن كل البلاد ممنوعة عنَّا، باستثناء فلسطين. الغرب الذي طردنا.. وهبنا فلسطين، فاستعدناها. لم تعد شأناً دينياً. صارت شأناً سياسياً.
يقول: التاريخ مُصابٌ بالدم. تاريخنا دموي هنا. جئناها، كي تكون “إسرائيل” بيتنا جميعاً. عبث. كلفة وجودنا هنا، كانت باهظة جداً. لا أعرف لماذا ارتكبنا كل هذه المجازر. أكثر من 25 مجزرة كبيرة. كان القتل هادفاً دائماً واعتباطياً أحياناً. أذكر أننا ارتكبنا، ولكن كان لا بد من ذلك. إما نحن وإما نحن. “نحنان لا يجتمعان”.
ارتكبنا، وكان لا بد أن نزيل كل ما يُعيقنا. أذكر أن رفيقي دخل إلى قرية “الدويمة” وهو يطلق النار ويقتل من يتحرك. ثم لم يعد يتحرك أحد. قتلهم وشكر ربه. في “الصليحة” أصاب صديقي نصف القتلى: 80 فلسطينياً. في “دير ياسين” 110 ضحايا. في “اللد” 250 فلسطينياً وفلسطينية. مئات في “الدليمة”. 70 في “أبو شوشة”. جرائم فوق جرائم في “الطنطورة”. يا إلهي لقد فزنا بالقتل فوزاً حاسماً. فتحَ لنا أبواب البيوت لنقيم فيها. وأتذكر أن ما حدث بعد ذلك، كان نصف ما تبقى من مجازر “العودة”. عملية أحيرام. الصفصاف. الصليحة. عيليون. عرب المواسي. دير الأسد إلى آخره.. وأفظع ما ارتكبناه، أننا كنا نَصفُ الفلسطينيين على الجدران أو قرب آبار، كي يلوذوا بموتهم. فوق هذا كلّه، نلنا جائزة على ارتكاباتنا. حمانا بن غوريون واسحق رابين. وفهمنا منذ ذلك الزمن: أن فلسطين ليست لشعبين. الترانسفير آلية مريحة. الثنائية قاتلة. إما نحن وإما هم. النحن فازت. وسمعت بن غوريون ذات معركة يقول “من دون اقتلاع الفلسطينيين لم تكن لتقوم دولة يهودية”.
نجحنا في الارتكاب. القاعدة الأساسية للنجاح: كي تكون “إسرائيلياً” عليك أن تكون قوياً وأن تحرم الفلسطيني من الأمل.
غريبٌ. بعد كل الخسارات التي أصابت الفلسطيني، ما زال في وجوده وفي حياته، يُكرّر قرع الواقع بكل ما اُوتي من قوة.
وها هو الآن، وحيداً، وحيداً، وحيداً. سلاحه دمه. إن دايفيد بنفستي على حق: “لن نفلح أبداً في دفعهم إلى التنازل عن حقوقهم. الحل المنطقي ظاهرياً والمتمثل بدولتين لشعبين، لم يعد قابلاً للنجاح. ونموذج دولتين فوقيتين غير قال للتطبيق… أنا ابن هذه الأرض، ولكن العرب كانوا دوماً في هذه الأرض. وهذه أرض عربية، وهم مشهدها. هم السكان الأصليون، ولا أرى نفسي أعيش من دونهم. وفي نظري فإن أرض إسرائيل من دون العرب عاقر”.
هذا كلام يعود إلى العام ألفين. وبين ذلك التاريخ والزمن الراهن، سفك دماء. لعل أفدحها، ما جرى، بعد “طوفان الأقصى”.
هل يصح يوماً القول إن “إسرائيل ستكون ضحية انتصاراتها”.. لأن الفلسطيني ماضٍ وحاضر ومستقبل.
ليت هذا يكون هكذا. إنما، يبدو أن السلام مستحيل.