طلال سلمان

السلاطين يقتعدون الكلمات فبم َنكتب؟

لأن السياسة العربية مزيج من اليأس والتآمر والتذاكي واستنقاذ الذات ولو على حساب البلاد،

ولأن الشخص أهم من الموضوع أو حتى القضية،

ولأن الشكل أهم من المضمون،

ولأن التحليل ثرثرة، والتعليق خطاب أجوف، والتوجيه أمر عسكري بنبذ التفكير والاجتهاد،

ولأن الكذب مباح، إما بذريعة ان الضرورات تبيح المحظورات، وإما بحجة ان الشعب قاصر وضعيف ولا تجوز القسوة عليه بإبلاغه الحقيقة وإشراكه في القرار مع أنه يحمل النتائج مهما ثقلت وبغير رحمة،

لهذا كله تتيبس لغة الكاتب أو الصحافي وتتخشب.

إنه مجبر على استخدام الكلمات في غير مواضعها، ولغير معانيها الأصلية،

ثم ان الحركة المحدودة بالأشخاص والأزمنة والأمكنة تسقط من الذاكرة أدوات التعبير عما عدا هذا الركام من التفاهة الذي يسمى ”السياسة”.

يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة، لا تستخدم إلا كلمات محدودة، في توصيف أوضاع مرفوضة مهما اجتهد كتبة السلطان في تزيينها وتمويه حقيقتها الجارحة.

تصبح للغة وظيفة التخدير والتنويم المغناطيسي، بعد إنجاز مهمة الخداع وتزييف الوقائع والترويج للخاطئ والمضلل من ”الأخبار” ومن ثم ”النتائج” التي تبنى عليها لزرع مزيد من الأوهام في خواطر الجمهور المتعب، الذي تنحصر مطالبه من ثم في أن يترك لشأنه، يبحث عن توفير القوت لعياله مناشداً اللهسبحانه وتعالى اللطف في القضاء إذا هو لم يرحمه برده عنه.

تتكسر اللغة وتتهاوى مندحرة، ويصاب الوجدان بالشلل بعد أن تظلل غمامة التزوير العيون فتعميها أو تجعلها ترى ما ليس واقفاً وتعجز عن رؤية المسؤول عن الواقع الكريه.

تتبعثر اللغة كلمات وحروفاً ومقاطع وجملاً مفككة.

يهاجر المعنى بعيداً عن الكلمات فلا تبقى إلا أصوات متقطعة تتردد أصداؤها كالدوي أو الطنين،

ويقع ذلك الانفصال المطلق بين القائل والقول وبين السامع والمسموع، ويلتبس الأمر على الجميع فلا يعود أحد يعرف من الضحية ومن الجاني: هل العيب في الفكر القاصر أم في اللغة العاقر؟! في الواقع أم في الخيال؟!

وفي خضم الاتهامات والجبن عن إدانة ”القوة القاهرة” التي تفرض الخرس أو التأتأة على الجميع، يدان الضحايا مرة ثانية: كما تكونون يولى عليكم!

في حالات أخرى يكون ”الحكم” أقسى: هذا الحاكم، أو ذاك، أرقى من شعبه. إنه عظيم بأكثر مما تستحق رعيته!

الجمهور، الفكر، اللغة: كلهم متهمون.

و”الكتاب” يحاولون عبثاً تلفيق صيغة للتعايش مع هذا البحر الأجاج من الخطايا وجرائم التزوير، وغالباً ما يتم ذلك بالتدليس، أو بالهرب الى الرمزية والايحاءات والتوريات والتعابير حمالة الأوجه والتي قد تفيد هذا المعنى أو نقيضه.

والكلمات أصناف:

بعضها مَبيع سلفاً، والبراعة تقتصر على رصفها بما ينفي أو يخفف من وطأة الغرض الذي أملاها، وبعضها يستدرج عروض الشراء، وبعضها الأخير للتقية نفاقاً أو يهرب إلى العبثية جبناً وإراحة للضمير من أن صاحبها لم يرتكب خطيئة التزوير ولا هو سقط في غيهب الصمت ولا تمكن إدانته كشاهد زور: فهو قد رأى وسمع وعرف ولكنه لم يزور الحقيقة وإن كان امتنع عن الإدلاء بشهادته القاتلة.

ليس الخوف وحده هو الذي يفرغ الكلمات من معانيها.

إنه العجز عن مواجهة المخيف ومصادر الخوف ذاتها.

هل هذا يفسر ليل الصمت الطويل الذي يكاد ينعدم فيه أي إبداع، في الثقافة كما في الفن، في الفكر السياسي كما في الابداع الأدبي، في طراز البناء كما في معالجة المشكلات البيئية الحادة (الصحراء، ترييف المدن)؟..

هل هذا يفسر انزواء الشعر داخل النقاط المبعثرة والمساحات البيضاء، وتيه الرواية في سراب العالمية وانطفاء القصة القصيرة، وهذا الازدحام المخيف في مجال الفن التشكيلي الذي يكاد يجعل من كل مواطن رساماً، أو في مجال الرقص التطريبي الذي يكاد يجعل من كل فتى تحت السن نجماً لامعاً في سماء الغناء المموسق آلياً، والذي تحار في تحديد أيهما الأكثر جفافاً: الصوت أم الآلة المبرمجة بالكومبيوتر على ”ترقيص” الكلمة التافهة ليسمعها الهاربون من الخواء بخصورهم فيحركون أقدامهم فوق جثث المعنى حتى ”الوصول” الى ذروة النشوة المخضبة بالعرق؟!

لقد تقعرت الكلمات أو هي انبعجت فاتخذت أشكال السلاطين وباتت مثلهم: لا تدل على معناها، أو تقول غير ما تضمر.

اقتعد الملوك في الأحرف وحولوها الى أملاك خاصة.

صارت الحروف ثقيلة لا تملك أن تعبر عن معناها، صارت لغتنا أسرة حاكمة… أما المحكومون فقد خسروا أيضا، بعد الشارع والحقوق، لغتهم. صاروا يهمهمون همهمة لا يفهمها حتى مطلقها ولا تدل على معنى محدد.

من يسقط جدار الصمت؟!

Exit mobile version