منذ هزيمة حزيران 1967 والقدس تسقط من بين أيدينا كل يوم،
لا تسقط القدس دفعة واحدة. لا يستوعب الزمان سقوطها الكلي، فالقدس أوسع مدى من الزمان. هو فيها، لطالما اصطنعته وأطلقته تأريخاً لها. بها خلد الكبير، وفيها أدين الصغير فصار اسمه مرادفاً للكفر والخطيئة والخيانة.
خمسون عاماً من السقوط اليومي للمدينة الأقدس من وطن، حتى ضاع الدوي العظيم وكاد يضيع المعنى بين التأوّه والحسرة، بين اللوم والاستنكار والشجب والإدانة، بين نظم المراثي ورشق المذكرات السياسية شعراً.
لا يكون الرد على الدبابات والجرافات وجحافل المستوطنين بنمل الكلام.
ولا تخاض الحرب بالدعوات الصالحات، ولا باللعنات، نطلقها يميناً ويساراً ثم نذهب بعد ذلك إلى النوم مطمئنين إلى أن للمسجد الأقصى وكنيسة القيامة والصخرة المشرفة كما للبيت الحرام رباً يحميها.
تارة تكون القدس مسؤولية جميع المؤمنين، مسلمين ومسيحيين، فتضيع،
وطوراً تغدو مسؤولية المجتمع الدولي فتضيع مرة أخرى،
تارة يُخص بالمسؤولية الفلسطينيون وحدهم، ويتنصل منها الآخرون، عرباً وغير عرب، فتضيع مرة ثالثة،
وطوراً تُحال المسؤولية إلى الأجيال الآتية، فتضيع رابعة ومعها الأجيال.
لم يأخذ اليهود القدس بالوعد الإلهي المزعوم ولا بالتمني الكسيح ولا بالاطمئنان إلى عدالة المجتمع الدولي.
أخذوها قتالاً… ولا ينتقص من قيمة تلك الحرب أن الطرف العربي الهاشمي فيها، كما سائر العرب، لم يقاتل.
ثم باشروا “شراء” ما لا يباع. ويبدو أنهم وجدوا مَن يبيع أجداث الأنبياء وعبق التاريخ ودماء الشهداء. وكان يكفيهم أن يبيعهم بضعة أنفار بضع مئات من الأمتار ليواجهوا العالم بأنهم إنما يبنون فوق أرض باتت بالقانون أرضهم،
تكاد، الآن، تكتمل الدائرة…
والسقوط مستمر: سقوط الذين كان يفترض أن يحموها فهربوا أو استسلموا، وسقوط الذين لم يحصّنوها بما يكفي ليمتنع على “الغزاة” اقتحامها، وسقوط الذين شهدوا الجريمة فلم يتحرّكوا لمنعها، ولم يواصلوا مقاومتهم ليستحقوا المدينة المقدسة.
ليس أسهل الآن من تبادل الإدانات، بحيث تستمر الجريمة ولا مجرم، ويُدان “الجميع” بحيث يبدو في النتيجة وكأن الكل أبرياء.
يتوالى سقوط القدس ولا تسقط شعرة من رأس أي حاكم عربي، بمن في ذلك “صاحب سلطة الشرطة” في غزة،
يتوالى سقوط القدس ولا يرفع مواطن عربي يده بحجر،
يتوالى سقوط القدس، بيعاً وشراءً، وتظهر أسماء عربية بين البائعين ولا تظهر بين المشترين،
يتوالى سقوط القدس فلا يهتز وجدان، ولا تقوم تظاهرة، حتى داخل ما تبقى من “زهرة المدائن”،
يتوالى سقوط القدس، سقوط الفلسطينيين، سقوط العرب، مسلمين ومسيحيين، سقوط المسلمين على اتساع العالم،
يتوالى السقوط حتى يغدو أمراً بديهياً، مثل شروق الشمس وغيابها، لا يكاد ينتبه له أحد، فإذا ما نُبِّه ردّ بعفوية: ولكنه خبر قديم!
الخبر القديم هو خبر كل يوم،
الخبر القديم هو النعي المتجدّد لإرادة تُمات ألف مرة في اليوم،
أما الخبر الجديد فهو أن المستوطنات اليهودية قد طاولت بل وحاصرت العواصم العربية جميعاً، من الرباط إلى صنعاء.
الخبر القديم أن اليهود ما زالوا يخوضون الحرب، لم يتوقفوا لحظة للراحة والاستمتاع والتباهي،
والخبر الذي سيظل ينتظره العالم: متى يدخل العرب الحرب…
متى يدخل العرب القدس بدل أن يسارعوا في الخروج منها؟!
نشرت في “السفير” في 19 آذار 1997