طلال سلمان

السفير وصاحبها

كانت السفير حدثاً في صحافتنا وفي ثقافتنا، بل يمكنني القول أنها كانت عنواناً لمرحلة جديدة في الاثنتين. فقد انتقلنا مع السفير إلى ما بعد 5 حزيران. كنا يتامى النكسة ولم يعد لبنان بعدها ما كان قبلها. فالثقافة السائدة التي كانت اصطلاحيّة عائمة تحوّلت إلى نقديّة يساريّة قوميّة. خرجنا من وعظيّة إملائيّة إلى مفهوم آخر للسياسة وللواقع، وبالبطبع تصوّر آخر للبنان بدون احتفاليّة وبدون تغنّ وبدون صنميّة لفظيّة. أنشأ طلال سلمان “السفير” التي كانت في وقتها استقطبت وعياً جديداً وأطروحات مختلفة ولغة أخرى. يمكن القول إنّ مخاضاً انخرط فيه اليسار الجديد والخطاب السياسي المستجد والأغنية السياسيّة والموسيقى ما بعد الرحبانيّة والشعر الحديث والرواية الحديثة. مخاضا واكب انفجار الحرب الأهليّة وتشكّل في غضونها وما بعدها، لم يغيّر الخطاب السياسي وحسب، بل الخطاب الفني والأدبي أيضا، وبالتأكيد لم يكن مجرّد مصادفة أنّ هذه التحوّلات تواقتت مع السفير وتواصلت معها. لقد تأسّست السفير في هذا الجو الذي سرعان ما استقطبته، هكذا دخلت الجريدة في تاريخ لبنان. بل يمكن على هذا المستوى أن نعتبرها واحدة من المحطات التي وسمت هذا التاريخ. في هذا السياق نحصي بدون فرز: الندوة اللبنانيّة، مجلة الآداب، مجلة شعر، جريدة النهار، جريدة السفير… كان لكل من المحطات دور في تكوين السياسة والثقافة اللبنانيّتين، بل والعربيّتين أحياناً، إذا ذكرنا “الآداب” و “شعر” و “النهار” و “السفير”. لقد أنتج هنا، دوراً بعد دور، نظر في السياسة وفي الأدب وفي الفن وفي لبنان وفي حضوره العربي.
منذ تعرّفت على طلال سلمان في “السفير” والرجل مهموم بالصحافة التي خبِرها وخبِر كلّ مراتبها وحقولها وفنونها، لم أجده في يوم مكتفياً قانعاً، بل إذا كان لنا أن نصف طلال سلمان في هذا المجال قلنا إنّه شديد التطلّب بعيد الطموح، وله في ذلك حقّ بيّن، فهوَ إن لاحظناه عن كثب بدا لنا طاقة مستنفرة كلّ لحظة، طاقة لا تهدأ، هي أدب صرف، في حين أنها سياسة صرفة، في حين أنها قراءة تحليل واستشراف. يتداخل الأدب بالسياسة بالرؤيا كما تتداخل الثوابت بالمتغيّرات، كما يتداخل المبدئي بالعملي. يفخر طلال بأنه صحافي وأن يكون صحافياً فهذا غاية مراده، وحقّ له أن يفخر فمثله جعلوا منها فناً، ومثله مَن جعلوا منها ثقافة جامعة كما جعلوا منها وجهة متكاملة.
“السفير” حوت باستمرار رفاقاً يفدون إليها من شتى الجهات فتحلّهم في رحابها وتتحوّل بيتاً لهم. يفدون إليها من جهات شتى، فيتحوّلون فيها إلى تيار وإلى جو. أحسب أنّ لطلال سلمان يداً أولى في ذلك فهذا الرجل الحيي المتواضع تتلاقى عنده السبل والتوجّهات. أحسب أنّ لموقع الجريدة نصيباً أو في ذلك فهذه الجريدة بقيت جيلاً بعد جيل مهوى هذا اليسار والنقدي الذي تتعدّد صوره، لكن بينه وبين التمرّد نسباً لا يزول. وبينه وبين الحريّة آصرة باقية وبينه وبين التحديث صلة ثابتة. تعرّضت قبل سنوات لحادث رماني في العناية الفائقة شهراً كاملاً. عندئذ أتيح لي أن أختبر الجانب الإنساني في “السفير” وصاحبها. كانت “السفير” طيلة ذاك عائلة وبيتاً. بدا لي أنّ للرفقة هنا قيمة حقيقيّة تتخطّى دواعي المهنة والعمل. بدا لي أنّ ذلك اليسار النقدي، يحمل في جملة ما يحمل، بعداً أخلاقياً. لقد احتضنتني “السفير” وصاحبها في مرضي كما حفظا لي، سنوات مديدة، حق استقلال في الرأي يتباين أحياناً كثيرة مع مواقفهما. لي أن أشكر الآن هذا. الاحتضان وذلك الحق الذي ليس شائعاً في الصحافة اللبنانيّة. فتلك رحابة غير معهودة فيها، وخاصّة عندما تحتدم الأحداث وتتصلّب المواقف. لي أن أشكر “السفير” وصاحبها لأنهما لم يضيّقا بحرّيّتي واستقلالي وحفظاهما لي.

عباس بيضون

الطريق، 192013

 

Exit mobile version