طلال سلمان

السفير في السعودية 3 عن السلطة والمجتمع المحافظ

الرياض طلال سلمان
ليست المملكة العربية السعودية طلسماً لا تُفك ألغازه، وليست كتلة صماء أو بيضةرخ لا تجد مدخلاً إليها، ولكنها بالتأكيد ليست مجتمعا مفتوحا يسهل على الدارس أن يعرفه بسرعة فيفهم أعرافه ويقبل تقاليده ويسلِّم بقانون الحركة وآلية التقدم فيه… فكيف بالزائر المتعجل الذي تخضعه أصول الضيافة للانضباط في اتصالاته كما في أسئلته واستنتاجاته.
هنا مجموعة من الانطباعات السريعة عن بلاد هائلة الامتداد، مركزية الحكم والقرار، برغم تنوع البيئات الاجتماعية والتفاوت في المستويات الثقافية بين المراكز والأطراف، بين الساحل المفتوح على البحر وما خلفه والداخل المغلق على نفسه والذي حبسته الصحراء دهوراً في عزلته وريبته وخوفه من »الغرباء«.
{ أولى الانطباعات: ان المملكة تعيش في ظل مجموعة من الثنائيات التي تحكم المسلك السياسي والاجتماعي فيها.
{ هناك، بداية، ثنائية الأمير والإمام، أو الملك والشيخ، التي تعتبر من ركائز التأسيس للدولة السعودية الأولى ثم الثانية والمستمرة في الدولة الثالثة الآن بعدما أرسى دعائمها ووحدها وحصنها وثبت ملكه فيها عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود. إنها ثنائية السيف والكتاب، ولي الأمر والفقيه (آل سعود وآل الشيخ، لمن يحب التبسيط).
المُلك للملك، بسيفه وبفتوى الشيخ الذي يعطي للفتح شرعيته ويؤكد للحكم مرجعيته ويضفي عليه صفة القيم على تطبيق أحكام الشريعة وتنقية الدين الحنيف مما أصابه من تشويه وحماية منبته وأرضه وبيته العتيق في مكة المكرمة.
{ وهناك من بعد ثنائية الحكم شبه الديني والمجتمع المدني.
إن حركة التقدم نحو العصر ومفاهيمه تلخص وتبلور صراعا عنيفا داخل مؤسسة الحكم كما داخل المجتمع، فلكل مفهوم معاصر معادل سلفي لا يسهل الخروج منه حتى لو كان ذلك ضروريا. ومن هنا تستطيع أن تلمس شيئا من التمزق بين الرغبة في تخطي المفروض (الذي ربما بات مرفوضا)، وبين الخوف من التهجن وفقدان الهوية إذا ما تمّ الأخذ بالمفهوم المعاصر الذي بدأ يفرض نفسه، وسيفرضها أكثر في ظل التحولات الهائلة التي ألغت المسافات وقزمت الدنيا فجعلتها قرية كونية كبيرة تتردد فيها أصداء الدعوات الى التغيير في السياسة كما في الاقتصاد وفي علم الاجتماع كما في الثقافة وفي العقائد والإيديولوجيات كما في القيم والمفاهيم والعادات السائدة.
{ ثم هناك ثنائية السلطة والشعب، ولي الأمر والرعية، وطبيعة العلاقة بينهما في ظل هذه التحولات: هل ما تزال سياسة »الباب المفتوح« لكل الناس تكفي لنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم أم لا بد من مؤسسات كتلك التي تعرفها دول هذه الأيام في مختلف أرجاء الدنيا؟
الحكم مركزي، ولكن لا بد من إشراك الناس، فكيف يكون ذلك؟!
هل باعتماد النظام الغربي المعروف القائم على الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية؟!
أم بتطوير النظام الأساسي للمملكة، والانفتاح التدريجي، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وفق خطة ذات مراحل يتم تنفيذها في نطاق مدى زمني محدد؟!
لا أحد يناقش في الأساسيات: النظام الملكي، حق الأسرة السعودية في الحكم، الطبيعة الخاصة للحكم في البلاد التي كرّمها الله بالإسلام، والتي تضم جنباتها البيت العتيق وتستقبل الحجاج ويتوجه إليها المؤمنون بقلوبهم وأبصارهم خمس مرات يوميا وهم يؤدون صلواتهم.
{ هذا يؤكد على ثنائية أخرى: الإسلام والعروبة. فالحكم السعودي هو الأكثر التزاما بهذه الثنائية التي تشكل إحدى ركائز وجوده، ثم انه المطالب الأول وصاحب المصلحة الأولى في بناء علاقة صحية بين هذين المكوّنين المركزيين لبلاده ورسالاته ودوره السياسي عربيا ودوليا.
وفي فترات كثيرة، أبرزها خلال الصراع مع التيارات القومية، برز اتجاه يقول بالاستقواء بالمسلمين على العرب، خصوصا وان معظم الدول الإسلامية كانت ذات أنظمة محافظة، وقد وصل هذا الاتجاه الى ذروته بإقامة مجموعة من المؤسسات »الإسلامية« وكأنها »بدائل« أو »موازيات« للمؤسسات العربية: من الجامعة العربية إلى مجالسها العديدة سواء تلك التي تعمل أو التي ظلت حبرا على ورق.
كذلك فقد جرى احتضان العديد من التيارات ذات الصبغة الإسلامية لمواجهة العروبيين واليساريين، قبل أن ينتبه المسؤولون في المملكة إلى أن الكلفة السياسية لهؤلاء باهظة أكثر من خصومة أولئك.
* * *
عن دور الشباب
من الطبيعي اليوم أن تجد في سهرة واحدة مجموعة من حملة شهادات الدكتوراه والماجستير حصلوا عليها من بعض أهم الجامعات في العالم (الأميركية أساسا ثم البريطانية، وقلة من جامعات فرنسية أو ألمانية).
ثم ان الجامعات السعودية، التي تمّ تعزيزها وتوزيعها في مختلف أنحاء المملكة، تخرّج سنوياً الآلاف من الطلاب في مختلف الاختصاصات (النسبة الغالبة من الفروع الأدبية، كالعادة، لكن متخرجي الكليات العلمية يتزايدون باستمرار)… ناهيك بآلاف المتخرجين من الجامعات الدينية.
هؤلاء يبحثون لهم، بعد الوظيفة والامتياز، عن دور »سياسي«، بهذه النسبة أو تلك: إنهم يقتربون من أن يصيروا عصب الدولة والممسكين بإدارتها ومرافقها لا سيما بعض المواقع الحساسة في مجال إنتاج النفط والصناعات البتروكيماوية والتسويق والاستثمار واستصلاح الأراضي واستكشاف المياه الجوفية لتنمية الزراعة ومحاولة الوصول إلى الاكتفاء الذاتي، في بعض المجالات، ولو بكلفة عالية، وأحيانا عالية جدا.
وهؤلاء يصطدمون كلما حاولوا الاقتراب من النظام برجال الدين، الذين يصدونهم بقسوة حيناً، وبرفق حيناً آخر، ويرون فيهم مزاحماً غير شرعي، يهددون مكانتهم الممتازة، وقد يرثون موقعهم كشريك لأولياء الأمر ولو من موقع المفتي.
حتى هذه اللحظة فإن التناقض مضبوط في حدود النظام بين علماء الدنيا وعلماء الدين، ولكن الأسئلة الكبرى تطرح نفسها على الجميع خصوصا مع هبوب رياح حقوق الإنسان بمختلف تفرعاتها: الحقوق السياسية، الحريات العامة، العدالة الاجتماعية، وموقع المرأة في المجتمع الخ..
ثم ان الثروة التي تتمتع بها المملكة تطرح أسئلة من طبيعة مختلفة: كيف توزع هذه الثروة بحيث يصيب نصيب منها كل مواطن فيها؟ وهل يستمر الفصل بين الإمارة والتجارة، أم لا بد أن يفسح في المجال أمام الأمراء (خصوصا وأنهم بالآلاف وليسوا جميعا من الأثرياء) للعمل في التجارة ومختلف المجالات الأخرى؟ وكيف يمكن منع المزاحمة غير المشروعة بين صاحب اللقب السامي والمواطنين العاديين؟!
وهل يمكن ترتيب فرص عمل للجميع، خصوصا وثمة احصائيات تفيد أن آلافا من الشبان متخرجي الجامعات لا يجدون عملا، وبالذات منهم متخرجو كليات الشريعة، أو الذين يتهمهم بعض العارفين بأنهم »يشترون« الدرجات العلمية بالمال ومن جامعات غير معروفة.
* * *
المطاوعة إلى الظل؟!
كنا في الطريق إلى موعد، فأوقفنا النور الأحمر، وعندئذ سمعنا صوته الأجش يرتفع عبر مكبّر الصوت، مضخماً، يدعو الناس إلى الصلاة. قال لي رفيقي: لقد تقدم المطاوعة، أيضا، ومالوا إلى شيء من الدعة!
قبل أن أعلّق عاد يقول بجدية: افترض أن أولي الأمر قد غمزوهم فانكفأوا، خصوصا في العاصمة والمدن الكبرى. لقد باتوا عنصر استفزاز يومي للناس، وتسبّبوا في إشكالات كثيرة، لبعضها محاذير دبلوماسية إضافة الى الإضرار بسمعة البلاد. اليوم لا نراهم إلا في الأسواق الداخلية، حيث ما تزال لهم بعض الهيبة على بسطاء الناس والوافدين من جماعة »العمالة الأجنبية«.
استذكرت حادثة طريفة وقعت لي في الطائف، أيام مؤتمر الطائف 9891 .
كنت على موعد مع الثلاثي الجزائري: »الوسيط« الدولي الأخضر الابراهيمي، ووزير الخارجية المعيّن حديثاً آنذاك سيد أحمد غزالي وسفير الجزائر في السعودية يومها عبد الكريم غريب (وقد عرفناه سفيراً للجزائر في لبنان).
أذَّن المؤذِّن للصلاة، فلبى النداء الغزالي وغريب، في حين دعاني الأخضر الى استكمال المناقشة، فتمشينا في ساحة فسيحة تقع في قلب السوق من الطائف. وما هي إلا لحظات حتى برز لنا من الطرف الآخر للساحة: رجل متين البنية، عظيم اللحية أشعثها، وبيده هراوة غليظة، وفي عينيه غضب عتيق. كان يمشي بالعرض، مختالاً يضرب الأرض بعصاه وهو يصيح بالناس: الصلاة! هيا إلى الصلاة، هيا!
كان كل مَن يراه من الرجال يهرول في اتجاه المسجد، أو يختفي في زقاق، أما النسوة فقد تجمعن كومة من العباءات السوداء في زاوية، يعتصرهن الخوف من هذا الذي لا يرحم.
اقترب منا حتى لم تعد تفصلنا عنه إلا خطوات معدودة، بينما الأخضر مندفع في تحليله للموقف، لا ينتبه إليه، ولا يسمعه… وكنت قلقاً. خصوصاً وأننا كنا قد غدونا متواجهين. قال بصوت عادي تقريبا: الصلاة! فقال له الأخضر الإبراهيمي بنبرة جازمة: امش! عاد يقول بشيء من الانكسار: الصلاة! فرد الأخضر: لماذا لا تذهب أنت فتصلي! امش! هيا، تنحَ عن الطريق!
التفت إلى الخلف فجأة، فعرفت سر انكفائه: كان الضابط المكلف بحراسة المسؤولين الجزائريين يشير إليه أن يتنحى عن طريقنا، ففعل، وما ان ابتعد بضع خطوات حتى رفع صوته من جديد: الصلاة! هيا الى الصلاة! يا ويلك من عذاب النار يا تارك الصلاة!
لا مطاوعة، إذن، الآن في الشوارع، يقودون الناس إلى الصلاة… بالهراوات.
قال صاحبي: لا مطاوعة، لكن شبح رجل الدين، المتزمت والمتحكّم بنا على جهله، موجود، يفرد ظله علينا، ويحدد لنا مسلكنا في كل أمر. هل تصدق انني أخافه أكثر من يوم الحساب؟! يوم الحساب مرجأ، والله سبحانه وتعالى رحمن رحيم، أما هذا المتعصب المغلق الفكر والقلب فهو أمامنا ومن خلفنا، وهو يحاسب فوراً ولا رادّ لحكمه مهما كان جائراً.
عاصفة على أهل الصحراء..
في المناقشات الهادئة تبدت لدور رجل الدين صورة أخرى: »صحيح أنه يلعب دوراً خطيراً في المجتمع، ولكن بوصفه جزءاً من السلطة، مفوضاً وإن بحدود منها… وقد أقيمت ضوابط كثيرة لتصرفاته ولأحكامه، ولم يعد مطلق اليدين يقرّر وحده وبمزاجه مَن هو المؤمن ومَن هو الفاسق أو المشرك أو المرتد، الزاني أو الزانية! هل تصدق أن بعضهم كان، ذات يوم، يتسلق جدران المنازل ويتلصص على الناس في بيوتهم ثم يوجه إليهم الاتهامات الجائرة، وقد يعتقل البعض ويشحنهم إلى السجن في »الوانيت«، أي شاحنة صغيرة، ذلك انتهى الآن، ولكن جو التزمت لم ينته«.
أضاف طبيب من ذوي المكانة: قاتل الله »عاصفة الصحراء« لقد ردّتنا أجيالاً إلى الخلف، ليس فقط بالمعنى السياسي، بل بالمعنى الاجتماعي. كان الخوف هو السيد، فصار يملي على الجميع تصرفاتهم. وفي مواجهة بعض الدعوات المحرضة على استغلال فرصة »الوجود« الأميركي من أجل »التحرر الاجتماعي«، والاستقواء بذلك الوجود، جاء الرد في استعادة لأجواء التشدد والتزمت، وعودة رجال الدين إلى ممارسة دور حراس النظام، إضافة الى ادعائهم حماية الدين الحنيف.
استذكر الساهرون »ثورة النساء« التي أُجهضت بتثبيت منعهن من قيادة السيارات، واعتبروها نكسة لحركة التطور الاجتماعي، قبل أن ينقسموا كالعادة الى متطرفين ومعتدلين و»رجعيين«.. لكن الحوار بمجمله كان يدل على أمرين: أن الخوف من رجال الدين متأصل في النفوس، برغم أن الناس بعمومهم متدينون، ثم ان روح المحافظة ليست طارئة بل هي طبيعية، وحتى القائلون بالتقدم يرون ضرورة أن يتم بالتدريج وعلى مراحل، سواء في السياسة أو في المفاهيم أو القيم الاجتماعية السائدة.
وفرض مجلس الشورى، كعنوان للعلاقة بين الحاكم والمحكوم في هذه الساعة، نفسه كموضوع للنقاش: هل يفي بالغرض أم لا؟! هل يلعب دوراً جدياً في الحياة العامة؟ هل هو خطوة في الطريق الصحيح نحو الديموقراطية أم أنه التفاف على مطلب مشاركة الشعب في السلطة بإقامة مؤسسة شكلية أقصى ما يمكنها فعله أن ترشد القرار التنفيذي للحكومة، أو بعضها، وليس أن تشارك في رسم السياسة ومراقبة التنفيذ ناهيك بالمحاسبة.
* * *
عن مجلس الشورى ودوره
»أقيم مبنى مجلس الشورى في الرياض، وهو يقع ضمن مجمع الدواوين الملكية، على مساحة إجمالية تبلغ مائة وثمانية وثلاثين ألف متر مربع، ويوجد فيه 560 مكتبا للأعضاء (90 عضوا) وللموظفين (250 موظفا) و43 صالة اجتماعات..« (من نشرة مجلس الشورى حقائق وأرقام الصادرة عنه).
عند البوابة الخارجية تعرّف إلينا الحراس المبلّغون بقدومنا فسمحوا لنا بالمرور، ثم عند البوابة الثانية تمّ التعريف فجزناها لنجد عند مدخل المجلس رجل العلاقات العامة ينتظرنا ليجول بنا في المبنى الهائل الاتساع، الأنيق الفخامة والمزوَّد بتجهيزات هي الأحدث إطلاقاً كما تكشف المكتبة بمجلداتها الشاملة لكل ما يهم »النواب« (23922 مجلداً) والشرائح الالكترونية التي تختزل المساحة للمزيد من المعارف.
من شرفة الزوار جلسنا نطل على المناقشات الهائلة التي كانت تدور بين أعضاء مجلس الشورى عندئذ، وكان موضوعها: مؤسسة الكهرباء وإنجازاتها (أو قصورها) لا سيما في مجال تحلية مياه البحر حيث تحتل السعودية المرتبة الأولى في العالم إنتاجاً واستهلاكاً.
أول ما يلفت النظر الألقاب العلمية للأعضاء، فبينهم نسبة ملحوظة من المهندسين وأساتذة الجامعة والأطباء والعلماء المتفقهين.
لا معارضة ولا موالاة، لا حدة ولا صراخ ولا تهديد بطرح الثقة. ذلك خارج نطاق الاختصاص. إنه مجلس شورى، يختار الملك أعضاءه والرئيس ونائب الرئيس والأمين العام، من المواطنين »السعوديي الجنسية بالأصل والمنشأ والمشهود لهم بالصلاح والكفاية، على ألا يقل عمر الواحد منهم عن ثلاثين سنة«.
المناقشات رصينة جداً، وعلمية الطابع، وهدفها ترشيد الادارة وإبداء الرأي في السياسات العامة للدولة التي تحال إلى مجلس الشورى من رئيس مجلس الوزراء، وبالذات: مناقشة الخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
قال لي الدكتور الذي تبرّع بأن يكون دليلي: المجلس الحالي أكثر حيوية من المجلس السابق. لقد زاد أعضاؤه من ستين إلى تسعين، وتعزز جانب الاختصاص والكفاءة فيه، وكثيرا ما استدعينا الوزراء فناقشناهم وألزمناهم بتعديل مشاريع تقدموا بها. انها خطوة على الطريق الطويل نحو الديموقراطية، ولكن لا بأس بها… في أي حال، فليست »مجالس الشعب« في مختلف البلاد العربية بأحسن حالاً.
المساحة هائلة الاتساع للكلام في غرف مغلقة.
المثل الرديء هو السائد، ولا مجال للمفاضلة والتباهي. »الحال من بعضه«: استيفاء الشكل ممكن في انتظار أن تتاح فرصة تحقيق المضمون الديموقراطي.
يضيف عضو آخر من أهل القلم: تقاس الخطوة بالظروف السائدة في البلد المعني. لقد كان قيام مجلس الشورى مطلباً. والتجربة تبرّر حقها في الاكتمال بنجاحها.
أهل الاختصاص تجسيد آخر للثنائية السعودية المعتمدة منذ قيام »الدولة الأولى«: رجل الدولة يحكم بفتوى رجل الدين، والعلم الدنيوي له ضوابط فقهية، خصوصاً متى ترتبت عليه نتائج قد تهدد القيم السائدة، أو المفترض سيادتها في المجتمع، يستوي في ذلك السماح للنساء بقيادة السيارات، أو الخروج على طاعة »ولي الأمر«، أو تجاوز »النص« و»السنة« المعتمدة قاعدة للسلوك: »ان دستورنا هو كتاب الله الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وسنة رسوله الذي لا ينطق عن الهوى«.
»إن عماد النظام الأساسي ومصدره هو الشريعة الإسلامية حيث اهتدى هذا النظام بشريعة الإسلام في تحديد طبيعة الدولة ومقاصدها ومسؤوليتها وتحديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم…
»إن العلاقة بين المواطنين وولاة أمرهم في هذه البلاد قامت على أسس راسخة من الحب والتراحم والعدل والاحترام المتبادل والولاء النابع من قناعات حرة عميقة الجذور في وجدان أبناء هذه البلاد عبر الأجيال المتعاقبة فلا فرق بين حاكم ومحكوم، فالكل سواسية أمام شرع الله وسواسية في حب هذا الوطن… والعلاقة بين الحاكم والمحكوم محكومة أولاً وأخيراً بشرع الله كما جاء في كتابه الكريم وسنة نبيه«.
».. وقد كان الحكّام والعلماء في المملكة ولا يزالون متآزرين متعاونين، وكان الشعب ولا يزال ملتفاً حول قيادته متعاوناً معها مطيعاً لها بموجب البيعة الشرعية التي تتم بين الحاكم والمحكوم«.
ضمن هذه الحدود يتحرّك مجلس الشورى. مع البيعة تختلف طريقة التعبير الديموقراطي.
والتطبيق صريح في التزامه بمنطوق النص المعلن لنظم مجلس الشورى ولوائحه وقواعد العمل فيه… فالآيات القرآنية تضبط الإيقاع منذ السطر الأول وحتى السطر الأخير: »فبما رحمة من الله لنتَ لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين«.
كل شيء يتم اختياره بعناية فائقة: النص القرآني، التفسير، ثم الشارح والقيّم على التطبيق، ثم الملتزم بذلك كله.
لا عجلة ولا تعجّل ولا تصرف تحت ضغط الأحداث والمطالبات التي غالباً ما كانت تجيء من الخارج، أما تلك المنطلقة من الداخل فيتم التعامل معها أولاً وتسوية الأمور، ثم يكون القرار.
المزيد من الهواء والنور
لقد تمّ علاج الكثير من المشكلات ذات الحساسية الخاصة، لعل أبرزها الوضع في المنطقة الشرقية، خصوصاً وقد حاولت بعض الجهات الإفادة من تسعير المناخ المذهبي، ومن القصور في المعالجة الأولية التي ركزت على الجانب الأمني وأهملت الجوانب المعنوية والاجتماعية.
كذلك تمّ التعامل بحزم مع بعض دعاوى التطرف، وما زال بعض رجال الدين الذين أطلقوا تلك الحملة وصعّدوا المطالب ولامسوا الحدود المحظورة، معتقلين لدى هذا النظام السلفي الصارم الذي لا يقبل مزايدة عليه باسم الإسلام.
ويفترض النظام أن مجلس الشورى هو أحد العناوين البارزة لعلاج المشكلات المطروحة عليه، خصوصاً بعد توسيعه (90 عضواً بدلاً من 60)، وكذلك تخفيف القبضة، نسبياً، عن أجهزة الإعلام، وتوسيع مساحة النقد، خصوصاً وهي تتركز على الإدارة متوجهة إلى الإمارة.
الطبيعة المحافظة للمجتمع لا تمنع النقاش، ولا هي تمنع التساؤلات عن وجوه الصح والغلط في حركة المجتمع، وفي العلاقات القائمة بين الحاكم والمحكوم أو بين ولي الأمر والرعية.
ولا شك أن ثمة اهتماماً بتجربة مجلس الشورى كخطوة على طريق »الديموقراطية« مع تحفّظ مبدئي على مفهومها الغربي.
لكن أصواتاً كثيرة تردد أنه لا بد من تسريع الخطى على طريق التحوّل الاجتماعي ومقاربة مقتضيات العصر، والسماح لمزيد من نور الشمس والهواء النقي بالدخول إلى أفياء هذه المملكة التي التزمت بضوابط صارمة في مسيرتها الطويلة، ربما آن الأوان لإعادة النظر فيها.
لقد كان مؤسِّس المملكة الملك الراحل عبد العزيز مستنيراً، وهو قد واجه بالسيف أولئك المناصرين الأقوياء الذين حاولوا سد الباب أمام العلوم الحديثة ومكتشفاتها من وسائل الاتصال والتقدم.
والمملكة الآن، وبعد مسيرتها الطويلة، تبدو بحاجة إلى التجدد، وبوتيرة أسرع من المعتمدة حالياً.
* * *
بين طرائف الثنائيات أن المواطن يصنَّف تارة عربياً وتارة »خليجياً«.
ويبدي السعوديون، بمجموعهم، نفوراً واضحاً من »الهوية الخليجية« التي يعتبرونها بدعة، ويرون أنها تصغرهم وتقزمهم وتحسم منهم وتسيء إلى عروبتهم: نحن أصل العرب ومهد الإسلام، نصير خليجيين؟! وهل الخليجية هوية.
ويرى الأكثر اهتماماً بالسياسة أن الخليجية بدعة، وأنها استخدمت كرديف ثان للإسلامية، وكلتاهما كانت تجسد محاولة لإخراج السعودية من العرب (وإخراج العرب منها) وإشغالها بهموم أخرى، بحيث يعطل دورها في المجال القومي عموماً وفي الصراع العربي الإسرائيلي بشكل خاص.
وتسمع، ولو همساً، الكثير من الكلام عن حملات التحريض الأميركية التي استهدفت ضرب مكانة المملكة ودورها في الخليج نفسه: مَن حرَّض القطريين؟! إن قطر، ممثلة بوزير خارجيتها تحديدا، تلعب الدور الذي ادعته الكويت لنفسها ذات يوم، كدولة عظمى؟! ثم مَن يشجع سلطان عُمان ويغريه بالابتعاد عنا؟! ومَن يثير المخاوف في نفس علي عبد الله صالح ويعيد تحريك المواجع بيننا وبينه، ثم يزيّن له الذهاب إلى الدوحة بذريعة رد الجميل لأميرها الذي وقف معه في الحرب على انفصال الجنوب؟!
إن التحالف مع قوة عظمى مستحيل،
كذلك فلا صداقات فعلية في العلاقات الدولية،
وعند تعارض المصالح تنتكس الصداقات وقد تتهاوى،
وتبدو السعودية أكثر حرصا على الصداقة مع واشنطن منها على التحالف المستحيل معها، على أنها تحاول إعادة صياغة هذه العلاقة، بما يحمي مصالحها هي، التي ذهبت بها »عاصفة الصحراء«، ولم تستعد عافيتها بعد.
وللسعوديين أسلوبهم الصامت والطويل النفس في الداخل والخارج،
»الصحراويون مثل جِمالهم، لا يتعبون بسرعة، ولا يجوعون بسرعة، ويتحمّلون العطش طويلاً، ثم ان الصحراء تتطلّب طول النفس«.
ورحلة المملكة طويلة بعد، سواء في إعادة صياغة العلاقات داخل مجتمعها، أو في محيطها العربي، ومن ثم الإسلامي، وصولاً الى »الحليف الكبير« والأعباء الثقيلة لصداقته الضرورية.
انتهى

Exit mobile version