طلال سلمان

الرحلة البتراء

بيروت عمان بيروت بين المطارين
في مطار بيروت التقينا ثلاثة من الصحافيين اللبنانيين في طريقنا إلى الأردن.
كنا جميعاً نلبي دعوة من »مؤسسة كونراد اديناور« و»مركز الأفق الثقافي« للمشاركة في ورشة عمل صحافية حول »العقبات التي تعترض طريق المحقق الصحافي في تحرياته« من أجل تقديم عمل مكتمل بالمعنى المهني.
قال راجح خوري، مدير التحرير في »النهار« إنها ستكون زيارته الأولى إلى الأردن بذاته، فهو قد سافر عبره مرات إلى العراق ولكنه لا يعرف عمّان ولا خاصة البحر الميت حيث ستكون »الورشة«.
وقال جورج طراد، مدير التحرير في »دار الصياد« إنه يعرف الأردن جيداً ولكنها ستكون زيارته الأولى لمنطقة البحر الميت.
واستذكر طلال سلمان، رئيس تحرير »السفير« زياراته الثلاث الأخيرة للأردن، بعد انقطاع طويل عنه (محاضرة في مؤسسة عبد الحميد شومان في آب 1990، ومحاضرة في جامعة اليرموك بإربد في تشرين الثاني 1993، ثم زيارة بدعوة رسمية للقاء مع ولي العهد الأردني الأمير الحسن في مثل هذه الأيام من العام 1993).
تأخرت الطائرة عن موعدها فامتد الحديث حميماً، ونوّه الجميع بهذه المبادرة التي تسهم في توثيق المعرفة بين رفاق الهم المهني الواحد وتغني كلاً منهم بتجارب زملائه في الأقطار الأخرى.
لم يكن أي منا قلقاً، فالتأشيرات قد جاءت من عمّان بعد سلسلة من الاتصالات والإلحاح على ضرورة التثبت من أن لا إشكال يحول دون دخول أي منا: من ليست تأشيرته على جوازه ففي يده صورة عنها مختومة بختم وزارة الداخلية وممهورة بأكثر من توقيع رفيع المقام.
ثم ان آل الشريف قد أتعبونا بملاحقاتهم وتأكيداتهم وتطميناتهم، وهم المسؤولون عن »مركز الأفق الثقافي« كما عن الزميلة »الدستور«.
وحين دخلنا مطار عمّان، بعد منتصف ليل الأربعاء الخميس بقليل، ترسخ الاطمئنان عندما تقدم منا إثنان من الشبان المتوقدين حماسة للترحيب بنا والمساعدة على إنجاز المعاملات ثم حملنا إلى فندق »ماريوت« بعمان، كمحطة راحة قبل الانطلاق مع الصباح إلى البحر الميت.
وجاءت المفاجأة الأولى مفرحة: إذ سعدنا بلقاء زميلنا مدير تحرير »الأهرام« الدولي صلاح الدين حافظ الذي كان قد وصل لتوه من القاهرة.
تسلم »معن« الجوازات والصور طبق الأصل عن التأشيرات وتقدم بها إلى رجال الأمن العام. وبدا كل شيء طبيعياً: طلب إلى مَن لا يحمل تأشيرة من بيروت أن يدفع رسم تأشيرته، فذهب إلى المصرف ليأتي بالدنانير المطلوبة (ستة عشر ديناراً)، لكن »معن« أصر على أن تتحمّلها الجهة الداعية. وهبط الختم الملكي، كما القدر، على الصفحة البيضاء للجواز العتيق.
أفهمنا أن لا بد من شيء من الانتظار. »اجراءات، تعرفون«. وهكذا أدخلنا، وقد صرنا أربعة بعد انضمام صلاح حافظ إلينا، مقهى متصلاً بصالة الترانزيت.
شربنا قهوة. شربنا الشاي. والشابان المكلفان بنا يذهبان ويجيئان، وينسكب حرجهما عرقاً على الوجه وهما يكرران الاعتذار: دقائق فقط، وننطلق. سامحونا، لكنها الاجراءات، الأمن هو الأمن حيثما كان..
كان رجال الأمن العام يجيئون ويذهبون. ينظرون إلينا بفضول ولا يقولون شيئاً ولا يتركوننا نقول.
أخذنا نتبادل حكايات الأمن في المطارات العربية: أين استبقينا ساعات بلا سؤال! أين أجبرنا على النوم على كرسي؟ أين عزّ علينا النوم ونحن ننتظر الإذن السحري بالدخول! المنع في المطارات العربية فقط. لم يحصل أن منع أي منا من دخول أي بلد أجنبي أعطتنا سفارته تأشيرة دخول إليه. حتى لو لم تكن لدينا تأشيرة فغالباً ما كانت المهنة تجيز الاستثناء. للصحافة حرمتها في بلاد الناس.
من باب التسلية و»قتل الوقت« أعدنا تصفّح الصحف الأردنية الثلاث التي أخذناها من الطائرة: »الدستور«، »الرأي« و»الأسواق«. كانت صفحاتها الأولى متشابهة إذ تحمل في صدرها صورة للملك حسين في معرض السلاح (الذي تشارك فيه إسرائيل) وبصحبته وزيره الأول الكباريتي، ثم صورة للأمير الحسن يلقي محاضرة في لقاء ثقافي تنظمه جمعية مغربية بالاشتراك مع جمعية آل البيت الأردنية.
قبيل الثانية فجراً أبلغنا القرار العجيب: راجح خوري وطلال سلمان ممنوعان من دخول الأردن!
ألغيت التأشيرة التي كانت قد استقرت على جواز السفر، واحتجز الجواز والتذكرة.
لم يكن رجال الأمن العام يملكون تفسيراً. قال أحدهم: التأشيرة من الداخلية والمنع من المخابرات.
حاول الشابان الاتصال بآل الشريف. كان الجواب مثالياً في انضباطيته: طالما أن المخابرات هي التي منعت فلا مجال للمراجعة. ثم عادوا إلى النوم!
رجونا الزميلين حافظ وطراد أن يكملا رحلتهما، وأن يعوِّضا غيابنا، لكنهما أصرا على التضامن معنا. وبعد مناقشات عقلانية، وافق حافظ على إكمال الرحلة، بينما قرر طراد أن يبقى معنا، وأن يرجع معنا، إلى بيروت!
غرق الشابان اللطيفان في عرق الخجل، ولم يجدا ما يبرّران به التصرف الأخرق. لقد تمت مراجعة كل الدوائر، ولم ترسل التأشيرات إلا بعد الاستئناس برأي المراجع الأمنية. فمن أين يجيء المنع الآن؟! لماذا لم تبلغ به الجهة الداعية من قبل حتى لا تحرج فتخرج؟!
المخابرات صماء، لا تسمع. المخابرات خرساء، لا تجيب. المخابرات فوق المحاسبة، ليست مطالبة بالشرح. المخابرات صاحبة القرار، وقد قرّرت وانتهى الأمر.
ودعنا صلاح حافظ والشابان الممتازان المصدومان بفظاظة الاجراء البوليسي الذي لا يحتاج إلى تبرير.
كانت صالة الترانزيت حاشدة بعشرات المنتظرين طائراتهم المتأخرة، ومعظمهم من الهنود والباكستانيين والبلوش والتتار وجنسيات أخرى… ممتازة!
و»تصيّدنا« ثلاثة مقاعد مفتوحة، يمكن تمديد الجسد فوقها.
خلع جورج طراد سترته ونصحنا: غطوا المعدة جيداً، عمّان باردة جداً!!
ثم خلع ربطة العنق فوضعها فوق عينيه قائلاً: وهذه تساعد على الإغفاء.
تمددنا في انتظار الضوء. وسرح بنا الخيال إلى البحر الميت وإلى فلسطين عبره. وانتصب الشبح الإسرائيلي أمامنا يمد لنا لسانه: وحده نتنياهو يمنعنا من دخول بيتنا!
مع الشمس تقدم منا ذلك الشرطي الكاظم غيظه وفي يده جوازات سفرنا. قال بحركة من يديه: هيا إلى قاعة المغادرة.
تحركنا صامتين. كان النعاس قد أرهقنا، وكان الشعور بالضآلة يسحقنا: لماذا نُمنع في بلادنا؟ لماذا يعز علينا التلاقي مع إخوتنا وزملائنا؟! كيف تفتح عمّان صدرها لأعداء حاضرها ومستقبلها وتقفل بابها دوننا؟!
ثم.. كيف ستقوم صحافة عربية ولا حرية؟! وكيف يمكننا أن نتحرى الحقيقة وأن نحقق وندقق لنقوم بخدمة أهلنا طالما فرض علينا الخرس. تكمّم أفواهنا، وتغل أيدينا، وتُغلق عيوننا، ثم نطالب بأن نخوض معارك الديموقراطية؟!
أي صحافة في ظل أنظمة القمع التي تأخذنا إلى الاستسلام وتأتي بالعدو إلى قلب ديارنا وتكاد تطلب إلينا أن نرحب به، فإذا ما اعترض معترض حكم عليه بالصمت.. الأبدي!
إن لم يكن النظام ديموقراطياً تحولت الصحافة إلى أداة زينة وأداة تمويه وخداع للناس. يوهم الصحافيون أنهم يستطيعون القول، وأن آراءهم مسموعة ومؤثرة، وقد تغيّر الواقع… وكل تلك أضغاث أحلام، فإن قالوا قُمعوا ومُنع رأيهم من الوصول إلى الناس، وبات خيارهم محدداً: إما قبر الخرس وإما المنفى وعذاباته المفتوحة.
في السابعة والنصف صباحاً، كنا فوق مقاعدنا على الطائرة العائدة إلى بيروت… نتلوى ألماً وسهاداً، وتنزف أرواحنا وجعها بغير نشيج!
كنا منهكين، هدّ حيلنا القنوط والنعاس والقمع المقصود وغير المبرّر!
كنا حزانى: لسنا »مخربين«، ولسنا »إرهابيين«، ولا نحمل غير أقلامنا وغير أحلامنا وغير حبنا لأرضنا وأهلها وغير تشوقنا إلى مستقبل أفضل، وغير تجربتنا التي نريد أن ننفع بها زملاءنا الآتين بالوهم إلى مهنة يفترضون أن لها صلة بالحرية وحقوق الإنسان وكرامته.
كنا نشعر بجرح المهانة عميقاً ونازفاً: يسوح »عدونا« في أرضنا ونُمنع من دخولها، بل نُطرد منها؟!
ألقينا نظرة عجلى على صحف الصباح الجديد: »الدستور«، »الرأي«، »الأسواق«… كانت تتصدّرها صورة وزير الاعلام الأردني في ضيافة وزير الخارجية الإسرائيلي، وكان المعشر مبتسماً، وابتسامته واسعة جداً… بعرض الصفحة الأولى!
وكان في »الدستور« خبر عن ورشتنا العتيدة يفيد أن راجح خوري وطلال سلمان وجورج طراد والآخرين يقدمون الآن أوراق عملهم ويضخون خبرتهم في أقلام زملائهم الأردنيين الشبان!!
ضاقت بنا الطائرة، فقرّرنا أن نقلب الواقعة الدرامية إلى مادة للتندر.
وحين وصلنا إلى مطار بيروت، غمرنا ود الناس البسطاء، الذين بكّروا إلى واجباتهم ورزق عيالهم: رجال الأمن العام والجمرك والحمالين وسائقي سيارات الأجرة، فانتعشنا ورفعنا رؤوسنا ونحن نمضي نحو مكاتبنا لنكمل ما كنا بدأناه وما سنظل نعمل له قبل »الرحلة البتراء« وبعدها: أن يصبح القلم أقوى من هراوة الشرطي، وأن يصبح الرأي أقوى من جهاز المخابرات، وأن يصبح الإنسان العربي أقوى من عدوه الإسرائيلي، على الأقل في أرضه، وأن تصبح حقوقه هي القضية وأن… تنتصر!
في أي حال، ليست هي المرة الأولى التي نُمنع فيها من دخول عمّان ومن أن نلمح طيف القدس ولو من البعيد البعيد… فقبل 32 سنة، أي في العام 1964، وكنا مدعوين لنشهد ولادة أول مجلس وطني فلسطيني، مُنعنا من الدخول وأُعدنا في أول طائرة تغادر عمّان،
رحمة الله عليك يا رفيق الطرد الأول، غسان كنفاني،
وإلى رحلات بتراء أخرى يا راجح خوري ويا جورج طراد ويا الذي كلفناه بتقديم مطالعاتنا في »الورشة«: صلاح الدين حافظ.
وستظل عمّان واحدة من عواصمنا الحبيبة.

Exit mobile version