طلال سلمان

الرحلة الأولى. والتجربة المثيرة: اصدار “دنيا العروبة” في الكويت!

عشت في الكويت حوالي ستة اشهر، إثر خروجي من الزنزانة الانفرادية في حبس الرمل في بيروت بدعوى مناصرة نضال الاخوة الجزائريين من أجل تحرير بلادهم، جزائر الثورة، من الاحتلال الاستيطاني الفرنسي الذي استمر فيها دهراً، حاول خلالها “فرنسة ” الجزائريين!!.. ثم اعتقل بعض قيادييهم، ومنهم احمد بن بلة، لخمس سنوات طويلة ومريرة..

بعد التحرير، اطلق الاستعمار الفرنسي السجناء السياسيين واجريت انتخابات نيابية، ثم انتخابات رئاسية في برلمان فريد من نوعه في العالم.. اذ كان بين النواب عدد كبير من المشوهة اجسادهم والمقطعة اوصالهم، فدخل البعض على الكراسي ذات الدواليب او مسنوداً ببعض رفاقه من المجاهدين.

انتهت الانتخابات بفوز “السي احمد بن بله” برئاسة الجزائر، فكان اول رئيس منتخب ديمقراطيا لجزائر الثورة.. وهو العائد من السجن، مع بعض رفاقه في قيادة الثورة، في احدى الجزر عند الشاطئ الغربي لفرنسا.

تركت الجزائر إلى مصر، فإلى الكويت لإصدار مجلة “دنيا العروبة” لصاحبها الراحل عبد العزيز المساعيد، الذي كان يصدر ايضاً جريدة ” الرأي العام”، هو الأمي الذي يجهل القراءة والكتابة ولا يحفظ الا بعض آيات من القرآن الكريم.. لكنه، مثل ابناء جيله، كان يتاجر عبر الخليج العربي مع الهند: يذهب اليها باللؤلؤ الذي كان يغوصون من اجله حتى الموت في البحر، حتى اذا وفق احدهم بصدفة ممتلئة باللؤلؤة غدا صاحب ثروة..  اما في الصيف القاتل بحره فكانوا يربون الحملان والماعز، وكلها ضئيلة الحمم، فاذا اراد احدهم إغاظة امرأته هجرها إلى غرفة يغازل فيها الحمل او الجدي..

كانت آثار الهند تشمل العملة (الروبية) وبعض العادات والتقاليد، اما اللباس، فقميص طويل حتى القدمين، وعلى الرأس الكوفية وفوقها العقال، وفي القدمين مشاية او صندل خفيف نتيجة الحر والعرق وضيق الصدر حتى ما يقرب من الاختناق نتيجة انحباس الهواء وصعوبة التنفس.

*****

كان يحكم العراق، آنذاك، الزعيم عبد الكريم قاسم الذي كان أركانه يطمعونه “باستعادة” الكويت بوصفها جزءاً من محافظة البصرة جنوبي العراق.. وكانت اذاعة بغداد تبث مسلسلات وبرامج كلها تحريض على الكويتيين، كثيراً ما يستخدم أسماء كويتيين في احياء مختلفة من مدينة الكويت.. وكان بين المسلسلات او برامج التحريض من يستخدم أسماء اشخاص يقطنون في احياء معينة، وتتضمن تلويحاً بالقتل او الشنق او قذف اصحاب البيت من المنزل لتحريره واعادته

إلى اهله الثابتين على هويتهم العراقية، على الضد من “هؤلاء” الانذال الذين انكروا اصولهم وتنكروا لأهلهم وتفرنجوا ملتحقين بالانكليز.. ولذا يحل ذبح الرجال واخذ نسائهم سبايا وليبق الاطفال مع امهاتهم حتى إذا ما كبروا كانوا غلماناً.

*****

المهم اننا عملنا جميعنا، انا والفريق الذي صحبني من بيروت، بهمة عالية وشغف عظيم، لكي يتمكن صاحب المجلة، عبد العزيز المساعيد، من إظهار قدراته بإصدار “دينا العروبة” في 22 شباط 1963، مهما اشتدت قسوته على اسرة تحرير المخلوق الجديد الذي لم تكن له لمسة فيه او مساهمة من أي نوع، اللهم الا كونه صاحب المال، وصاحب المشروع، ونحن فيه الاجراء الكادحون الذين لا يعرفنا احد حتى لو ملأنا صفحات المجلة بتواقيعنا..

وبالفعل، صدرت دنيا العروبة في 22 شباط 1963، الذي يصادف الذكرى العشرون لتولي الشيخ عبدالله السالم تحويل الامارة إلى دولة وتسلم قيادتها إلى الاستقلال بموجب تفاهم مع البريطانيين الذين يحتلون الكويت كما سائر جهات الخليج العربي.

طار عبد العزيز المساعيد فرحاً بالإنتاج الجديد، الذي لا فضل له فيه الا التمويل، وطلب موعداً مع امير البلاد الشيخ عبدالله السالم الصباح، وذهبنا ونحن لم ننم منذ ثلاثة ايام.

دخلنا فاستقبلنا الشيخ الذي، مع الاستقلال اصبح اميراُ، وهنأ المساعيد على اصداره المجلة السياسية الاولى في الكويت، ونادانا فسلم علينا فرداً فرداً والمساعيد يقدمنا.. وفوجئت بالشيخ العود (أي الكبير) امير الكويت يسألن عن الجامعة التي تخرجت منها وعن زملائي الذين توليت التعريف بهم وانا بالكاد اسقط من التعب لأنني لم انم منذ ثلاثة ايام، حتى تم صدور اول مجلة سياسية بصور ملونة، وافتتاحية، وتحقيقات وريبورتاجات، كأي مجلة في لبنان.. او مصر ذاتها.

***** 

بعد ستة شهور من سفري، وثلاثة شهور من صدور مجلة “دنيا العروبة” طلبت جواز سفري لكي اجيء إلى اهلي.. لكن المساعيد ابى واستنكر، واتهمني بأنني اريد إفشال المشروع الناجح الذي بذلت، ومن معي من الزملاء (في طليعتهم المرحوم الياس عبود).. (حتى اصدرنا اول مجلة سياسية في الكويت..)

وهكذا عدت إلى الكويت، بعد الاطمئنان على أهلي في بيروت، فاذا بالمساعيد قد ازال اسمي عن ترويسة المجلة، وعين احد الزملاء الواصلين حديثا إلى الكويت كسكرتير للتحرير..

في بيروت كان عليّ أن اقعد في بيتي شهوراً قبل أن يستدعيني الراحل سعيد فريحة لأتولى ادارة التحرير في مجلة “الصياد”.

رحم الله هذا الصحافي الكبير الذي نشأ في حمص وجاء إلى لبنان فتى يعشق الصحافة، فعمل في بعض الصحف ردحاً من الزمن.. فلما أعلن استقلال الدولة في لبنان، “حرضه” الراحل رياض الصلح على تجديد علاقته بالصحافة، فأصدر “الصياد”، ولأنه كان شغوفا بالفن ويطرب للأصوات الشجية والحسناوات ذات الصدور الناهدة والخصور الرقيقة، اصدر مجلة “الشبكة”، ثم بعد اعلان قيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا في 22 شباط 1958، وبدعم من مصر- جمال عبد الناصر، وتحريض من صديقيه التوأمين علي ومصطفى امين ( صاحبي دار ” أخبار اليوم” في القاهرة) ، وتزكية من الرئيس فؤاد شهاب في بيروت اصدر جريدة “الانوار”.

… اما اليوم، فسعيد فريحة قد رحل، ودار الصياد قد اقفلت ابوابها، كما العديد من الصحف والمجلات المؤثرة.

***** 

لقد “ضَمُر” لبنان، واستغنى عن خدماته اخوانه العرب، لا سيما منهم اهل الخليج ( ما عدا الكويت) واعترفت معظم دولهم بدولة العدو الاسرائيلي، واقفلت مصر على نفسها، واقطار الخليج تتسابق إلى اسرائيل ( قطر اولاً، والآن الامارات العربية المتحدة ومملكة البحرين) ، بعد مصر السادات ومملكة شرقي الاردن ( بعد أن احتل العدو الاسرائيلي فلسطين كلها ، في البدء الساحل الفلسطيني وبعض الداخل، ثم كامل فلسطين بعد النكسة “1967” ثم “حرب التحرير” ايام السادات التي انتهت بهزيمة معلنة تزينها ادعاءات النصر التي انتهت بوقوف انور السادات امام الكنيست الاسرائيلي ليبشر المهزوم بانتصار “السلام”!

Exit mobile version