طلال سلمان

الرجولة في أزمة

سعيت لأسمع رأي نساء في رجال هذه الأيام. عشت منذ سنوات تنشئتي أسمع الجارات والقريبات والمعلمات وحتى زميلات العمل يعممن على كل الرجال آراء موروثة. «كلهم خاينين»، «كلهم ما بيحبوش إلا نفسهم»، «كلهم عينيهم زايغة»، «لا يؤتمنوا».. الرجل في نظرهن لم يخرج عن كونه «سي السيد» في صورة مشوهة أو «سي السيد» في صورة منقحة. عشت في مجتمعات غربية وشرقية ووسط ثقافات شتى ولم يكن رأي النساء فيها يختلف عن رأي نساء مصر إلا في الدرجة.

***

شيء ما تغير، أو قل، أشياء غير قليلة تغيرت. لا أذكر مثلا أنني سمعت ذات يوم سواء في سنوات المراهقة أو حتى في سنوات منتصف العمر من يتحدث من النساء عن «أزمة في الرجولة». الرجال رغم كل مساوئهم ونقائصهم و«سوء تربيتهم» كانوا رجالا. الرجولة في هذا السياق كانت تعني القدرة على إعالة عائلة والمسؤولية عن حمايتها. فجأة انفتحت هناك «طاقة النفط» واتسعت هنا بالوعة الفساد وتدهورت إدارة الاقتصاد والمجتمع. فجأة انقسم الرجال في نظر معظم نساء طبقات مصر وبخاصة الطبقات الأقل حظا قسمين، قسم اغترب تاركا زوجة تتحمل مسؤوليات اجتماعية لم تكن من اختصاصاتها، وقسم اعتمد على نساء تشاركنه إعالة عائلته أو تتحملن كلية هذا العبء. وفي الحالتين صار الرجل في نظر المرأة «أقل رجولة». فالمغترب لسنوات فقد بغيابه الطويل والمنفرد بعض أهليته ونفوذه على نسائه وأولاده. والعاطل عن العمل أو قليل الدخل فقد بعض أهليته المشتقة من صفته رجلا عائلا وربا أوحد لعائلة. كلاهما بقي في نظر نفسه وبالعناد رجلا كاملا وإن بثقة في النفس غير كاملة، وكلاهما أصبح في نظر عائلته وجيرانه رجلا أقل مرتبة.

***

كتبت في عقد التسعينيات عن ظاهرة الرجال الأقل مرتبة في الرجولة من متابعتي لواقع الحال في أحياء الفقر والإهمال في مصر. لم أتصور في ذلك الوقت أن يوما سوف يأتي أكتب فيه عن الظاهرة وقد أصبحت عالمية واتخذت عنوان «أزمة الرجولة». وجدت تعريفا لهذه الأزمة أظن أنه الأمثل لأنه يرى الأزمة متمثلة في رجال يناضلون ليجدوا مكانا في عالم مختلف لا يثمن الدور التقليدي للرجل كعائل وحيد للعائلة ومدافع عنها. رجال فقدوا المكانة الأعظم في الهيراركية الاجتماعية. رجال في كل أنحاء العالم فقدوا فسحة المساحة الواسعة التي ميزتهم تقليديا عن المرأة. رجال في أمريكا خرج من بينهم ليمثلهم أسوأ تمثيل الرئيس دونالد ترامب فيما صار يعرف بالظاهرة الترامبوية، ظاهرة ذكور يتجمعون لاستعادة هيمنة الرجل الأبيض المتميز على المرأة والمتعالى على الملونين، مستعدين لاستخدام العنف لتحقيق أهدافهم.
رجال في دول الغرب تعرضوا خلال الأسابيع الأخيرة لحملة نسائية أقل ما يقال فيها إنها شرسة وتفوح منها رائحة انتقام بنكهة تاريخية. أكاد أصنف هذه الحملة كفاتحة حرب عالمية بين الجنسين تشير أول شواهدها في الغرب إلى هزيمة نكراء لجنس الرجال وفشلهم في التصدي للمرأة في أول مواجهة على هذا المستوى. لن ينفع الرجال في وكستهم خروج ترامب للدفاع عنهم بالهجوم على المرأة.

***

سألت ناشطات إن كان ما نشهده الآن من انحدار في مكانة الرجال ظاهرة وقتية أم تحول جذري وعميق في العلاقة بين الرجل والمرأة وفي بنية المجتمعات وفي مستقبل الأجيال الصاعدة. أجمعن في إجاباتهن على أن المرحلة التي يمر فيها الرجال انتقالية نحو مراحل أكثر تقدما تنتهى حتما بوضع تعريف جديد للرجل. صدمتني عبارة تعريف جديد للرجل. ألهذه الدرجة سخنت أجواء الأزمة؟ هن لا يسخرن فمسيرة صعود المرأة تشي بتوازن جديد ومختلف في العلاقة التي بدأت في أسطورة آدم وحواء وتطورت من خلال محاولات دائبة من جانب الرجل لفرض هيمنته وأولويته ومحاولات أيضا دائبة من جانب المرأة لترويضه أو التأقلم مع رغباته.
أتفق معهن في أن المرحلة ليست قابلة للعودة. هي بالفعل مرحلة انتقالية تسببت فيها عوامل تاريخية. العولمة مثلا مسؤولة عن حلحلة التراتيب الاجتماعية الموروثة وساهمت في تحطيم قوالب خلناها ثابتة وأبدية في العلاقة بين الرجل والمرأة. انتشار التعليم ووصوله إلى مناطق نائية واختراق حواجز وتقاليد بالية منح المرأة فرصة لتتميز على الرجل فاغتنمتها. صار تفوق البنات على الأولاد في معظم مراحل التعليم أمرا مفروغا منه ومتغيرا جديدا في ارتباط العملية التعليمية بالتنمية والانتاج والبنية السياسية. أعرف جيدا فضل أساليب التربية الحديثة على إنكار حق الصبي في أن تكون له الأولوية على البنت. أهالينا تحيزوا لصالح البنت وأنكروا عليها الكثير من الحريات والممارسات المسموح بها للذكر. فرضوا عليها أن تقصر طموحها على الزواج والإنجاب بينما تستمر العائلة معبأة لإنتاج «رجل» يعمل وينتج. تعلمت المرأة وتفوقت وفاجأت في الثلاثين عاما الأخيرة الرجل عندما وجدها تنافسه على الوظائف، ثم عندما وجدها تنتج بكفاءة وتتفوق عليه في كثير من المهن.

***

الأسباب كثيرة وراء انطلاق مرحلة انتقالية يجري خلالها صنع رجل مختلف. أتيت على بعض هذه الأسباب ولم آت على أكثرها، لكني أختار منها هنا ما يعزف الكثيرون عن ذكره. لا أظن أننا يجب أن ننكر تجربة العيش في مجتمع سياسي يمارس القمع ضد الشباب، ويركز أغلب قمعه على الذكور منهم ولكن غيظه من الشابات وحقده عليهن كانا مضرب الأمثال. سمعت أو قرأت لنساء يحكين روايات عن رجال تحملوا مسؤولية حماية النساء في ميدان التحرير في الأيام الصعبة من ثورة يناير. دافعوا عنا ضد أشرار أطلقتهم علينا أجنحة معادية للثورة. مجرمون وأصحاب سوابق يمزقون ثيابنا وشبان الثورة يغطوننا. كم من الناس دخلوا الميدان شبانا وخرجوا رجالا واستمروا رجالا. هناك في ميادين متفرقة سقطت أسطورة الرجل المهيمن وصعدت شخصية الرجل المصري الجديد.

***

هل حقا يعيش بيننا رجل جديد؟ هناك نماذج وأمثلة تحتذى نتمنى أن تزداد. لن نصل في وقت قريب إلى مجتمع أغلب ذكوره من الرجال الجدد. لن نصل قريبا فالعقبات لا تزال رابضة على الطريق. أمام الرجال صعوبات المرحلة الانتقالية التي لا تزال في بدايتها. أمامهم وأمام المجتمع ندرة المعلومات عن الرجل المصري. نعيب اليوم على علماء اجتماع القرن الماضي تأخرهم في وضع مناهج لدراسة الرجل. لاحظنا، ولم نكن من الخبراء أن الرجل على عكس المرأة لا يتحدث عن نفسه كثيرا، درجنا على أن نعرف ونناقش كل صغيرة وكبيرة عن المرأة ولا نعرف إلا ما ندر عن رغبات الرجل وعلاقاته ومشكلاته النفسية. بصمتهم هذا جر الرجال على أنفسهم الشكوك والشبهات.

***

أناشد الرجل التأقلم بسرعة مع أوضاعه الجديدة وأناشد المرأة شد أزر الرجل خلال المرحلة الانتقالية، وهي تعرف أكثر مني كيف تشد أزره وستفعل. كلاهما يدرك أن الخطر جاثم عند منتصف القرن أو قبله. هناك تنتظرهما جحافل الإنسان الآلي المزود بمهارات فوق بشرية وقدرت خارقة، خطر لن يميز بين رجل وامرأة من بين البشر.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version