طلال سلمان

الرجل الصغير يدخل العتمة…

وُلِد صغيراً. جسمه صغير، يداه قصيرتان، قدماه صغيرتان، ملامحه منمنمة، كأنها مشروع أولي لم يكتمل.
وحين نما جميع الأطفال في قريته، فزادوا طولاً وتمددوا عرضاً، لم يتيسر له أن يلحق بهم، فظل قريباً من الأرض، مثل أبيه بل أقصر قليلا. وبدلاً من أن يعقّده صغر حجمه قلبه هو إلى دعابة، فصار يقول انه الوحيد من بين الناس الذي لن يتأذى إذا ما وقع.
كثيراً ما دعا ربه، في الليل، وحين يسكن كل شيء، الناس في بيوتهم، والبقرة والغنمات في زريبتها، والقمر في عليائه والنجوم في بعدها السحيق، لأن يمنحه شبراً من الطول، أو شيئاً من القوة، أو بعض الوسامة يعوض بها عن ضآلته، لكن المسافة كانت تلتهم الدعاء الهامس فلا يصل الى مقصده.
القرية صغيرة جداً، بضعة بيوت، وبضع زرائب فحسب. والأرض ملك لصاحب الأرض، وكذلك البشر والحيوانات. وأهل القرية محاصرون بين مزرعتين كبيرتين، ولا خيار إلا العمل في هذه أو في تلك، وكلتاهما »للسيد« نفسه وان كان له في الثانية شركاء أغراب.
القرية صغيرة جدا لا تتسع لمدرسة أو لأعمدة الكهرباء، والماء لدى »السيد«، وهو يسمح أو يمنع، و»الناطور« هو حلم جميع الرجال، والخادمة التي يسمح لها بدخول القصر والعيش فيه، ولو ساعات كل يوم هو حلم جميع النساء، المتزوجات منهن والعذارى.
القرية صغيرة، رجالها قلة وهو يقترب من سن الرجولة فينبت الشعر في ذقنه ويخشوشن صوته، ولكن طوله يبقيه في منظر الأولاد.
ولأنه صغير جداً فلم يعترف أحد به رجلاً… ولم يجد بُدّاً من أن يتزوج حتى يثبت لسائر الرجال انه ليس أقل منهم.
لم يطل بحثه، فلقد كان يعرف تلك التي يمكن أن ترضى برجل صغير جداً وفقير جداً وبلا عمل مثله. وهي مثله كانت وحيدة، بعيدة وشبه منفية، لا يعرفها أحد ولا يرغب في التعرف إليها أحد.
غضب الأب، فما تراجع. حزنت الأم وصرخت في وجهه ودعت عليه فظلَّ على إصراره. ولمرة وحيدة استطاع أن يفرض أمراً واقعاً، فحمل عروسه الى البيت لتنفتح أمامه أبواب جهنم.
وكان وحده المرفوض، فصارت زوجه سببا إضافيا للرفض والمقاطعة.
ولأنه نادرا ما كان يجد فرصة عمل، فقد كان يمضي معظم أوقاته في البيت، يتشاجر مع أمه دفاعاً عن زوجته، ويصرخ في وجه أبيه الذي يرفض أن يطعم بدل القاصر الواحد اثنين.
لا ملجأ الا الليل وحضن امرأته التي وحدها كانت تمنحه الفرصة لإثبات رجولته. وكان يلح على إثباتها مرتين وثلاث وأربع كل ليلة.
في تلك اللحظات المتخمة بالشبق فقط كانت رجولته تلعلع بآهات النشوة، فيحس ان قامته قد طالت حتى تجاوز بها كل رجال القرية.
وكان يهتف بها من ذروة متعته: ألست الأقوى؟! ألست الأعظم فحولة؟ ألست سيد الرجال؟!
لم تكن تجد الوقت أو الرغبة في الإجابة، كانت تهز رأسها فقط وتحضنه بمزيد من الرغبة. كان ذلك تعويضها الممتاز. كانت تلك لحظة اكتمالها كامرأة.
شهر، شهران، ثلاثة وانتفخ البطن مقدماً شهادة لا تدحض على فحولة الرجل الصغير. وحين استمر الرجال ينادونه باسمه مجردا، أصر عليهم أن ينادوه »بأبي جاسم« وإلا فإنه لن يرد.
كانت السنة تنقسم الى نصفين: ستة أشهر من البطالة الثقيلة الوطأة، ثم الصيف حيث يتوفر العمل وتفور النقود بين يديه، فيشتري لزوجه فستانا جديدا وحذاء جديدا وملابس داخلية جديدة، ألوانها تدخل البهجة الى نفسه، وقد يشتري لنفسه قميصا مزركشا، وان كان غالبا ما يفضل أن يدفع تلك القروش ثمنا لبعض حجارة الباطون لتكون أساسا لغرفة يستقل بها عن أهله وعن ظلمهم ويحمي فيها زوجته من الشجار اليومي المفتوح.
عاش وكأنه دوار الشمس: يصحو مع شعاعه الأول ويتحرك متبعاً حركتها فإذا ما اقتربت من الأفق الغربي وغلب اللون الأرجواني على شعاعها الأخير الذي يتوج قمة الجبل الغربي، اتخذ طريقه نحو البيت. لقد انتهى اليوم وآن له أن يرتاح.
في البيت كان يعرف ما ينتظره؛ شكاوى زوجته، إلا إذا سبقتها أمه التي غالبا ما انتظرته، في موعد عودته، عند باب السور الخارجي، لكي تسبق الى الشكوى والى البكاء التحريضي الذي ينتهي به عادة بتأديب زوجته البائسة التي تجرأت فرفعت صوتها في وجه أمه. ثم بعد أن تنصرف الأم، كانت الزوجة المضرَّجة الخدين بالغيظ وآثار صفعاته، تحمل إليه الطشت لكي تغسل قدميه، ومنامته النظيفة، ثم تأتيه بما أعدت للعشاء فيأكلان صامتين، الى أن يحن فيصالحها بكلمة طيبة مشفوعة بدعوة الى الصبر الذي هو مفتاح الفرج: غدا نكمل بيتنا فننتقل إليه ونستقل عنهم ونرتاح!
* * *
جاء غد آخر، غير الذي توقعه الرجل الصغير.
خرج مع الصباح الصيفي كالعادة الى عمله. دار في الحقل يتفقد دورة الري. والتقى زملاءه فتبادلوا التشكي من الحر والغلاء وضجيج الصغار في البيت الضيق ومعارك الكنّة والحماة، والضرائب والرسوم الجديدة، وعرض كلٌ ما رآه على شاشة تلفازه ليلاً، مع إبداء الرأي في البرامج والأفلام وما قيل في الأخبار.
جاء موعد الغداء فجلسوا جميعا يأكلون. وشبعوا فحمدوا اله على نعمه ثم قاموا يستأنفون دورة عملهم بغير حماسة. فالطقس حار و»التعسيلة« التي نالها كل منهم أقل من أن تروي الرغبة في القيلولة.
فجأة انتبه الى وجود خلل ما. كان صوت الماء المتدفق في القنوات أشبه بالموسيقى. كان يسمعه فيطرب له وكأنه موال أو سحبة ميجانا. ما الذي عكّر الموال، إذن؟!
قام الرجل الصغير يرافق حركة الماء، وعند نقطة معينة توقف: هنا مصدر الخلل. قدّر ان ثمة جسما غريبا قد وقع في المجرى فسده. وهكذا مد يده ببساطة ليخرج الجسم الغريب، فإذا بيده تلتصق بذلك الجسم فتعلق به، وإذا بجسده كله يرتعش، وإذا به يعجز عن إخراج يده، وإذا بالجفاف يجتاح حلقه فيعجز عن الصراخ.
حاول أن يرفع رأسه، حاول أن يوقف ارتعاش جسده، حاول مجددا أن يفلت ما علق بيديه. حاول أن يغطس في الماء. كان قد تحول إلى حجر.
كانت الشمس فوق رأسه تماماً، ولكنها بعيدة جدا، وكانت العصافير تعبر من فوقه مطلقة زقزقاتها المعتادة، وكان زملاؤه في العمل غير بعيدين عنه ولكنه من موقعه لا يرى أحدا منهم ولا يمكنهم رؤيته. حاول رفع يده، حاول رفع صوته، حاول رفع رأسه، لكن قوة هائلة كانت تجذبه الى مدارها بكليته وتتحكم بحركته. ارتعش لدقائق، ثم تحول ارتعاشه الى انتفاضات متوالية ثم همد تماما.
في البيت كانت الأم تواصل شجارها مع زوجته، بينما الطفلة ذات الشهور الأربعة تبكي ولا من يلتفت إليها. وكان الجيران يثرثرون ويتندرون بمشاجرات عائلة الرجل الصغير.
مرت ساعتان قبل أن يكتشف العمال غياب زميلهم. ومرت ساعة ثالثة قبل أن يعثروا عليه جثة هامدة.
كان التيار الكهربائي الصاعق قد أدخل تعديلات أساسية على ملامح وجهه الأسمر فجعلها أكثر سوادا، وعلى جسده الصغير فجعله ممطوطا خصوصاً وقد تفلع كفاه وقدماه، واتسعت حدقتا عينيه بفعل المشهد المرعب الذي تراءى له في لحظاته الأخيرة.
لم تصل الكهرباء الى بيت الرجل الصغير، بعد. لكنه وصل إليها في منبعها فأخذته إليها. لطالما سمع الرجل الصغير ان الكهرباء نور، لكنها الآن مصدر عتمته الأبدية.
غداً تكبر الطفلة، لكن الرجل الصغير لن يعود.

 

»ناحية البراءة« وسردها الظالم..

بشيء من التردد يغالبه الفضول، أمسكت برواية أثار عنوانها استغرابي: »ناحية البراءة«.
لم أكن قد قرأت الكثير من كتابات رشيد الضعيف، الذي افترض انه مقلّ في نشر ما يكتب، ولذا اندفعت الى قراءة الصفحات الأولى ومقصدي التعرف على الرجل من أسلوبه، مداريا ضعفي تجاه فن الرواية عموما، وان كان شيء من التمني قد دغدغ نفسي: لعلّك قد وقعت على ما تحب.
انفتح الباب لاستعادة ما نجهد لنسيانه ولا ننساه منذ الصفحات بل السطور الأولى: ها هي جهنم الحرب الأهلية تخرج من الذاكرة لتندلق أمام عينيك، وألسنة نيرانها تكاد تحرق رموشك.
توغلت عيناي عبر الرماد المتبقي والذي استطاع قلم رشيد الضعيف ان يبعث من خلاله الروح في الناس الذين كانوا والأجواء والأمكنة والأشياء التي غامت صورتها ولكنها لم تندثر تماما.
لكأن الكتاب جملة واحدة، لا يمنحك فرصة للتوقف عند نقطة.
أحسست بضيق، وتقطعت أنفاسي في بعض اللحظات، وغامت عيناي وأنا أتمثَّل المشهد الموصوف بالكلمات المرصوفة التي تمر أمامها لتأخذها الى ما بعدها خطفا.
وحاصرني السرد أكثر فأكثر فوجدتني أتمثل حالة المخطوف المحصور، بداية، في المكتب الفخم، والمحاصر بخواطره وفزعه والتداعيات التي تأخذه من الطمأنينة المطلقة الى قلب الرعب فترميه ولا تستعيده.
حرت معه وهو يحاول إطفاء السيكارة، ثم وهو يحاول إخفاء آثار جريمة التدخين، وسقطت معه أرضا حين أفزعه رنين الهاتف فسقط أرضا وارتطم بالطاولة فأصيب بجروح عديدة وغطته دماء جراحه النازفة.
كان السرد متواصلاً، لاهثا، نائحاً، صارخاً، محتجاً، مولولاً، مستنجداً رافعاً راية الضعف الإنساني النبيل،
وكان يقسو، بالمقابل، وهو ينتقل الى الضفة الأخرى، إلى »الخاطفين« فيثير فيك مشاعر الخوف والفزع والقرف والرهبة،
وبين سرد الضحية والسرد المحكوم بجلافة الجلاد، تتهاطل عليك من ذاكرتك وقائع كنت افترضت أنك قد أهلت عليها تراب النسيان، وأنك لن تنجح في استعادتها حتى لو قصدت، لأنك أشركت إرادتك في عملية محوها ورميها في سلة المهملات تلك التي طالما استخدمت، خلال الحرب، لغير الغرض الأصلي لوجودها.
أمسك السرد بتلابيبك ولا خلاص. تحاول التوقف فيستعيدك تحت تحريض أحزانك المختزنة وروايات الحوادث التي شهدت أو تدخلت فيها أو زجَّ بك فيها، فإذا أنت المخطوف في موقع الخاطف، وإذا أنت تجاهد لشراء براءتك بإطلاقه، متنازلاً عن الكثير من مبادئك ومن تعففك ومن رفضك مصافحة القتلة أو الآمرين بالقتل أو الخطف ناهيك عن المنفذين الأشرار.
تطوي الصفحات طياً متعجلاً الوصول الى النهاية فقط لتستوثق من أنها رواية، وأن زمانها الماضي، وان شخوصها سينطوون داخل سطورها عائدين الى صمتهم العميق متى أطبقت عليهم الغلاف الأخير.
لا تدري لماذا يستحضر السرد صورة يوسف إدريس، في بعض أعماله القصصية المجيدة،
كذلك لا تتوقف كثيرا عند المغزى الذي قصده رشيد الضعيف بإيقاف روايته حيث أوقفها. لعلَّ قلمه قد جفّ كما جفّ ريقك، أو لعلَّه أشفق على نفسه، أو على القراء، أو لعلَّه خاف مما كتب، أو لأنه فضل ترك النهاية مفتوحة على وقائع حرب ما بعد الحرب.
المهم ان مشاعرك قد اختلطت عليك فلا تدري هل كنت تطلب المزيد من تعذيب الذات ام أنك سعدت بأنك قد خرجت من ذلك الأتون المرعب بقدر من السلامة،
لكنك في كل الحالات لا تستطيع إخفاء ابتهاجك بأنك قد أمضيت وقتا ممتعا مع السطور السوداء للكاتب الذي يعوّض قلمه الضعف الذي يدمغ اسمه.. أو انه يموهه!
هذا مع كونك لم تفهم بعد معنى »ناحية البراءة«،

 

أعلام على الرصيف

سألني ونحن نغذ السير وسط زحام الرصيف:
هل تأملت، مرة، كيف تسير النساء في الشارع؟!
أثارني سؤاله الذي لم يطرح نفسه عليَّ، بمثل هذه الصراحة والمباشرة أبدا، مع أنني في حالات كثيرة ضبطت عيني وهما تتابعان بشيء من الدهشة أو الإعجاب أو الغيظ، حركة العابرات أمامي…
استأخر ردي، فاندفع يبلغني نظريته بتفاصيلها:
ان كل امرأة ترفع علمها وتمشي تحته منتظرة من يتقدم لاختطافه!
يمكنني خلال لحظات، وعبر نظرات عابرة، أن أحدد الحالات الأكثر إثارة:
ان بين النساء من تفترض أن مركز الجمال أو الإثارة أو التشويق فيها صدرها، ولذا تراها تدفع صدرها أمامها ثم تركض للحاق به.
وثانية تقيم بشفتيها المكتنزتين حاجزا وتتوقع أن يحوّل من يكتشفه وجهة سيره فيندفع الى حيث ترغب،
وثالثة تتقدم عجيزتها ثم تتلبّث لكي تستوثق أن مركز الثقل فيها قد استقطب ما يكفي من إعجاب الجماهير،
أما »المحرومة« من مثل تلك »النِعم« التي تزعق في الشوارع بأقوى من أبواق السيارات مجتمعة، فإنها تتهادى بجلال واثقة من أن الرجال الذين كالفراشات يعشقون مصدر النور سيتابعونها بعيونهم متشهّين لو تكرمهم أقدارهم بالاحتراق في أتون الشذى المنبعث منها ناعما كما النعاس.
وجلت ببصري بين أعلام النساء المرفرفة فوق عيون الخلق، ثم مضيت الى موعدي مع الحريق!

 

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ليس للحب لغة. انه اللغة. حين أحببت لم أكن أعرف من الفرنسية إلا كلمات معدودات، ولم تكن حبيبتي تتقن حرفا عربيا واحدا. مع ذلك، ومنذ اللقاء الأول، لم نتوقف عن الثرثرة! اكتشفنا ان اللسان ليس وحده المعبر عن خلجات النفس، بل ليس هو المعبر الأهم والأفصح. لقد شاركتنا العيون، الأهداب، الرموش، الأيدي، ملامح الوجه كافة في اصطناع لغتنا، التي سرعان ما اكتشفنا ان جدنا آدم هو مبتدعها الأول.
ينطق الحب فتكتسب الكلمات الخرساء معناها. يصمت الحب فتنطق به جوارحك جميعا.
الحب ليس أبكم، ولا يتهاوى عند جدار اللغة، ولا تصيبه التأتأة.
تصور، مجرد حرفين يصطنعان اللغات جميعا، ويتجاوزانها، منذ بداية الخلق وحتى نهاية الكون.

Exit mobile version