طلال سلمان

الربيع الأميركي الأحمر!

في الذكرى العشرون لبدء العدوان الأميركي على العراق، نعيد نشر افتتاحية جريدة “السفير” في العدد الصادر صباح 21 آذار – مارس 2003

يحب جورج بوش الألعاب النارية.. وها هو يُهدي أمه في العيد بدل الورد مدناً محروقة جاء بها من البعيد البعيد: من قلب التاريخ الإنساني العريق، ومن عمق جغرافيا الحضارة الإنسانية، بينها واحدة تسمى “بغداد” وثانية تسمى “بابل” وثالثة تسمى “نينوى” ورابعة لم يحفظ اسمها لصعوبته!

ولأن جورج بوش مرهف المشاعر فلقد اختار الموعد الممتاز لاحتفاله الكبير : ليلة قمرية يرش بدرها فضته على الأرض التي تُنبت الشعر والقمح والموسيقى، بشارة بالربيع الذي فيها وُلد، في منتصف “الصوم الكبير” الذي تمتد دروب آلامه أنهاراً من الحزن المصفّى موازية في مسراها لدجلة والفرات، قبل تعانقهما في “القرنة” التي فيها شجرة آدم وحواء… ومع ذلك، أو ربما بفضل ذلك، يظل أهلها على إيمانهم بأن “القيامة” لا بد آتية، وبأنهم لا بد سيدحرجون عن صدورهم صخرة الاحتلال والطغيان، وسينهضون حتماً ليمسكوا بأقدارهم من جديد.

جورج بوش يحب الألعاب النارية… ولقد أطلق، أمس، أساطيل طائراته الجبارة، المرئية منها التي لا يلحقها الصوت، وتلك التي كالأشباح لا تلحظها العين، ترمي قذائفها ذات الأطنان على أحلام الصبايا والفتيان الموعودين بالفرح، فتفجرها محدثة مهرجاناً من الألوان في بغداد التي هجرها النوم منذ زمن بعيد، والتي آخت العذاب وآخاها حتى صار مجمل حياتها، ولكنها ظلت واقفة تشتري غدها بدمائها ولا تستسلم حتى والقهر يعضها بأنيابه، والغلط يُبعدها عن أهلها ويعطي الراغبين في الخروج من بشرتهم السمراء والملتحقين بالمحتل التبرير مجاناً، وقد كانوا مستعدين لشرائه ببعض ما ملكت أيمانهم، وهو كثير كثير…

جورج بوش يحب الألعاب النارية، ويحب أيضاً طوني بلير، ولذلك فقد دعاه إلى مشاركته لعبته المفضلة، مستفيداً منه كدليل حاذق في قراءة “خريطة الطريق” من فلسطين إلى أرض الرافدين..

****

بهية بغداد وهي تستحم بدماء أهلها في الليلة القمرية المبشّرة بالربيع والمنذورة عيداً للأمهات.

والديموقراطية ثقيلة الوزن، ولذلك جيء بها بطائرات “ب 52″، وبحاملات الطائرات التي انبهر لضخامتها حكام الهزيمة وأتباعهم و”المراسلون الحربيون” الطارئون الذين أُكرموا بالدخول إلى حرمها النووي المحظور على “الغرباء”، تدليلاً على أن توبتهم قد قُبلت، بل لقد سُمح لواحد منهم بأن يصلي في بعض غرفها بعدما أرشده قائدها الأميرال ذو الأوسمة إلى “القبلة” بإنكليزية فصيحة أين منها لغة القرآن المقعرة والصعبة والثقيلة على الأذن؟!

الديموقراطية هشة جداً، ولذلك احتاجت إلى جيوش جرارة لحمايتها في رحلتها الطويلة من أقصى الغرب إلى قلب هذا الشرق المتخلف، وكان لا بد من أن تفتح الطريق أمامها صواريخ كروز وتوم هوك قبل أن تتقدم بها الدبابات ومن خلفها الجنود المصفحون، يزرعون بذورها في قلب الرمال العاصفة فتزهر وتعطي ثماراً شهية!

****

يحب جورج بوش الألعاب النارية، وهي هواية أخذها عن أبيه، ثم غذاها في نفسه صديقه الحميم أرييل شارون الذي احترف إشعال النار في البشر والبيوت والشجر المثقل بالثمر.

ما أروع المدن والقرى العربية وبيوتها تتهاوى على أهلها وليس من يُنجد أو يطفئ النار حتى لا يغضب “السيد”، فيكون انتقامه شديداً يتعدى في قسوته آخر ما أبدعته عبقرية أرييل شارون.

ولقد شُنَّت علينا يا العرب حروب عديدة، لكننا ظللنا في الغالب الأعم خارجها، “نتفرج” ونتحرّق لهفة إلى المشاركة، ونموت كمداً، أو تقتلنا صواريخها أو يغتالنا خطأ “القيادة” في التقدير، أو تُميتنا الغفلة ويدمرنا سوء التخطيط والتورط أو الخطأ في الحساب (الذي وضع أجدادنا قواعده!!).

نجلس إلى الشاشات نتفرج على جنازاتنا، بالألوان، ونمصمص شفاهنا تحسراً على شبابنا وفتياتنا الذين يستعجلون آجالهم لعلهم يقربون يوم الخلاص، ثم يبيعهم سلاطينهم في سوق النخاسة.

نحن قتلى الحروب التي مُنعنا من المشاركة فيها متى كانت من أجل الهدف الصح، في الزمان الصح، وفي المكان الصح، وضد العدو الصح..

… وهي في الغالب الأعمّ حروب علينا. بل إنها ليست حروباً، إنها اجتياحات، إنها مجازر منظمة لأقطارنا، لناسنا، لآمالنا، لحقوقنا في أرضنا وفي حياة كريمة.

يحب جورج بوش الألعاب النارية، وهو كان يطلب مسرحاً واسعاً لممارسة هوايته، وقد تزاحم سلاطين الهزيمة على تقديم “أرضهم” لتكون منطلق الهجوم، وبعض عسكرهم ليكونوا “الدليل”… بغير قناع!

وهكذا، فإن النار الاميركية البريطانية (الاسرائيلية) التي تحرق العراق، انما تنطلق من الارض العربية، وتعبر السماوات العربية، وتحظى بالمباركة العربية، وترافقها أدعية سلاطين الهزيمة وتبريراتهم المنطقية التي لا يمكن دحضها: انهم شركاء في معركة بناء الديموقراطية في “ارض السواد” التي لم يسبق ان عاشت فيها هذه النبتة الغريبة التي طالما استظلوا فيئها وطالما وزعوا ثمارها الشهية على رعاياهم الطيبين!

ان الديموقراطية الاميركية لا تُزهر إلا في الربيع الدموي..

وصحيح ما قاله رامسفيلد، صاحب وجه الذئب، من ان حربه هذه ليست ضد شعب، او ضد بلد: إنها ضد امة بكاملها.

وصحيح ايضاً ما قاله وجه الذئب من ان لديهم “اقوى قوة على وجه الارض”، وان “امته مباركة” وان جنوده “هم الافضل”، ولكن المشكلة في “القضية” التي يجيء من اجلها هؤلاء “الجنود المباركون”… وهي “قضية” لم تقبلها شعوب الارض جميعاً، بل نزلت الى الشوارع في كل مدن اوروبا والاميركيتين وآسيا وافريقيا، لترفضها، ولتُدين “المبشرين” بها، بل ولتكشف دجلهم ولتفضح خططهم الاستعمارية، ولتشهر بعداء “الجنود المباركين” للربيع والشعر والليالي القمرية والامهات الولاّدات.

انها الحرب… ولقد تعوّد العرب ان يكونوا “الضحايا”.

المفجع ان سلاطين الهزيمة يرفضون ان يكون “رعاياهم” ضحايا إلا لطغيانهم، ويمنعون عليهم شرف الاستشهاد في المواجهة مع العدو، عدو الارض والانسان والحرية والديموقراطية.

انها الحرب.. والامل العربي الوحيد فيها ان يستطيع العراق الصمود فيطيل امدها بأكثر مما يطيق “المتعاونون” مع مشروع الاحتلال الاميركي البريطاني، فيفقد جورج بوش الفرصة لممارسة هوايته المفضلة في إحراق اوطان العرب والمسلمين، وكل من يرفض المشاركة في هذه المذبحة مثل دول “اوروبا القديمة” و”روسيا” العتيقة وافريقيا الأعتق وآسيا حيث وُلد الانسان والارض العربية حيث وُلدت الرسالات السماوية جميعاً.

…والنفط يمكن ان يكون سلاحاً في يد اهله، بدل ان يكون عليهم… ولو استُخدم في مهرجان الالعاب النارية التي يحبها جورج بوش ومعه طوني بلير والدول الاصوات المعروضة للبيع في سوق النخاسة! ..

أو استُخدم “هبات” بالمليارات لاسرائيل كي تبيد فلسطين قبل ان تتم ابادة العراق على يد “الامة المباركة”!

Exit mobile version