طلال سلمان

الرأي العام بين الدعاية والإعلام

أما وأن المحكمة العليا منعقدة للنظر في موقع الرأي العام بين الدعاية والإعلام، وفي هيئتها أصحاب مناصب سامية بينهم صاحب فخامة وأصحاب معالي، فقد وجدتها مناسبة ممتازة يمكن انتهازها للدفاع عن عزيز قوم ذل هو الصحافة في لبنان.
لقد تصدى الجنرال الدكتور علي عواد في كتابه إلى مسألة ملتبسة يخلط فيها، عادة، بين الإعلام المكتوب والإعلام المرئي والمسموع فكيف إذا أضيف الإعلام الالكتروني بتطبيقاته ووسائله المختلفة التي تطاردك في سرير نومك وتملأ جيوبك اهتزازاً بالأخبار العاجلة والتصريحات المتفجرة ما بين عرسال وعين العرب وبنغازي والحديدة والموصل والرقة… هذا إذا ما تجاهلنا الغارات الإسرائيلية الجديدة على الديماس الواقعة على حافة التخم الثاني للحدود اللبنانية ـ السورية.
ومع الأسف فقد خلط الجنرال الدكتور بين المصدر والناقل، فهو قد قفز من فوق الطبقة السياسية وهي الواجهة الحاكمة، وأصحاب المصالح ذوي النفوذ الواسع، من أصحاب رؤوس الأموال والمصارف، وفيهم المحلي والعربي والأجنبي، ليحاسب الحلقة الأضعف والمكشوفة. تجاهل الفضائيات العربية الناطقة باسم دول، والفضائيات الأجنبية الناطقة باسم تروستات احتكارية ومصالح كونية أقوى من الدول، والفضائيات المحلية التي يتلاقى في تمويلها نافذون ورأسماليون.
اختار الدكتور الجنرال الوسائل الإعلامية الأضعف فأعمل سيفه في الصحف والصحافيين والكتبة المحليين، قافزاً من فوق غيلان الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب بينهم عدد من الزملاء اللبنانيين الذين يعملون في وسائل إعلام عربية وأجنبية تستخدم الجميع في حروبها، أقصد حروب أنظمتها على أنظمة أخرى مستخدمة لبنان، بأوضاعه الاستثنائية منصة قصف وقصف مضاد.
-2-
فلما نزل الجنرال الدكتور إلى ارض الواقع ركز على نماذج محددة لابتذال المهنة وتجاهل ما هو أفظع من ابتذال السياسة، وحاسب بعض الصحافة المكتوبة وكأنها المسؤولة ـ ولوحدها ـ عن سيادة المناخ الطائفي، وعن التهييج المذهبي، وكلاهما استثمار سياسي مجزٍ في هذا الوطن الصغير. قفز من فوق القيادات المعظمة بميليشياتها، ومن فوق أصحاب المصالح الاقتصادية التي استولدت أحزابها وتمكنت من مرافق الدولة فلا يصدر قرار يتصل بموقع مؤثر إلا بإذنها… ولنا من قضية النفط والغاز والهيئة الناظمة التي ظلت معلقة، ثم استولدت جهيضاً لا قدرة لها على القرار، بينما إسرائيل تمد خرطومها، في ما يعتقد انه مخزون الغاز والنفط في مياهنا.
إن الدكتور علي عواد يهرب في الكتابة إلى أحلامه. يتحدث عن ثقافة المواطنة، في حين أن الدولة قد تخلت عن المدرسة الرسمية، وعن الجامعة الوطنية، وها هي اللغة العربية تندثر أو تكاد في مختلف مراحل التعليم. فمن أين تأتي ثقافة المواطنة؟ لقد اندثر دور الدولة أو يكاد، بعدما توزعتها الطوائف والمذاهب شقفاً ونتفاً.
منذ حرب السنتين وحتى اليوم لا يرى الدكتور الجنرال إلا الصحافة المكتوبة متهماً، هكذا فإنه يصدر أحكامه بمفعول رجعي. وحين يستذكر جرائم عظمى مثل اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري فإنه لا يجد متهماً إلا الصحافة، علماً بأن الصحافة لم تشهد إجماعاً في تاريخها كمثل إجماعها على إدانة هذه الجريمة ضد الوطن بشعبه ودولته.
ومع استذكار حرب السنتين فليسمح لي برواية واقعة قد يفيد منها الجنرال عواد في كتاب ثانٍ:
-3-
كلنا يذكر أن الرئيس الراحل الياس سركيس قد طرح في بداية عهده، أواخر 1976، أفكاراً ليصار إلى صياغتها مشروعاً للوفاق الوطني. ولقد طلبتُ موعداً وذهبت بصحبة الزميل الكبير الراحل أسعد المقدم لنسأله كيف يمكن أن نساعد في مشروع الوفاق. فوجئت بالرئيس سركيس: إذا أردتم مساعدتي فاسكتوا.. لأنكم إذا كتبتم سيرد من في الجهة الأخرى .. وبتِعْلَق!
انفجرتُ ضاحكاً فاستغرب رحمه الله وقال: وما يضحكك؟
قلت: وهل تفترض فخامتك أن أبو الغضب وأبو النار وأبو الديناميت ينهضون صباحاً فيستحمون ثم يجلسون على الشيزلونغ يقرأون الصحف فتفور أعصابهم فينهضون إلى رشاشاتهم والآربي جي وينزلون ليقتلوا المدينة والناس.. لو أنهم يقرأون يا فخامة الرئيس لما نزلوا إلى الجبهة!
وهناك حادثة ثانية أود أن اذكرها للتدليل على الفارق في النظرة إلى دور الإعلام.
كلنا يتذكر انشقاق الضابط سعد حداد والتحاقه بالعدو الإسرائيلي. وكان طبيعياً أن تتصدر هذه الخيانة الصفحة الأولى من «السفير» ، وأن نمتنع عن عرضها على الرقابة يومذاك. وقد اتصل المدير العام للأمن العام الأمير الراحل فاروق أبو اللمع ليفاوضني على مدة التعطيل لأننا خرقنا تعليمات الرقابة بذريعة أن هذا الخبر يسيء إلى الجيش.
قلت: إذن عطلني حتى نهاية العهد.. فنحن حاولنا أن نؤكد براءة الجيش بالقول إن ضابطاً واحداً، الأرجح أنه مختل، قد التحق بالعدو، أما السكوت عنه فيظهر وكأن الجيش كله خارج على وطنه ملتحق بإسرائيل!
أما الأخطر من بين الاتهامات فهو القول إن الصحافة اللبنانية وبعض الأقلام قد تجاوزت الحدود وشاركت في ذبح بيروت.
-4-
هل يسمح لي وقد كنت واحداً ممن جرت محاولة لذبحهم في بيروت، فجر الرابع عشر من تموز 1984، أن أرفع صوتي كضحية كرَّس عشرات الافتتاحيات دفاعاً عن بيروت ـ الأميرة التي تواطأت الميليشيات الطائفية جميعاً على تهديمها ومن ثم تقسيمها، لأبرئ الصحافة من هذه التهمة التي يجب أن تحصر بأبطال الحروب التقسيمية الذين جنوا الثروات من التهديم، لشراء الأرض بأسعار بخسة ومصادرة المشاعات والأملاك البحرية، ثم جنوا ثروات خرافية من إعادة البناء فوق أراض لم تكن لهم او أنهم غنموها حرباً؟!
للمناسبة: لقد سقط اسمي سهواً من ذاكرة الجنرال فلم يتكرم الدكتور عواد بإدراجه بين من تعرضوا للاغتيال… مع أن الصحف الصادرة صباح 14 تموز 1984 قد أكرمتني كما أكرمني الناس الطيبون في مختلف أنحاء لبنان وكذلك في سوريا ومعظم أنحاء الوطن العربي فغمروني بالورود وحمد الله على السلامة وتشجيعي على إكمال دوري في هذه المهنة التي أتشرف بالانتماء إليها.
أيها الأصدقاء،
مع التقدير للجهد الذي بذله الدكتور الجنرال علي عواد في إنتاج هذا الكتاب، فمن الواضح انه قد انتقى من الأحداث والوقائع ما يلائم نظريته القائمة على اعتبار الإعلام المكتوب أداة تخريب للسلم الوطني، وتحريض على الفتنة.
أبرز الوقائع الفاقعة استشهاد الجنرال بكلمات مجتزأة من تصريحات للرئيس المصري الذي اغتالته «الزيارة» وخطاب الاستسلام للعدو أمام الكنيست الإسرائيلي.
-5-
فالدكتور عواد ينتقي قول السادات: إن الصحافة تتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية عن تأجيج الصراع … ولكنه يغفل قوله في تصريح آخر لمجلة «الحوادث» اللبنانية: إنتو لسه ما شفتوش حاجة. لبنان سيكون جهنم، وسيحترق الأخضر واليابس فيه.
وغني عن البيان أن من أطلق هذا التهديد كان يعرف عما يتكلم!
حرام عليك يا دكتور أن تقرر أن الإعلام هو المسؤول الأول عن الحرب الأهلية والخلافات والتصادمات، بما يبرئ الطبقة السياسية التي جاءت بالطوائف والمذاهب إلى السياسة وجعلت ميليشياتها بديلاً من الشعب، وحكمتنا وما تزال بالخوف الدائم من الفتنة وليس بإنجازاتها العظيمة في تثبيت ركائز الديموقراطية والاحتكام إلى صندوقة الاقتراع والالتزام بالدستور.
وهذه بعض النتائج تدوي بفضائحها أمام عيوننا وملء أذاننا.
فالبلاد بلا رئيس للجمهورية، ومجلس النواب يمدد لنفسه مرة ثانية، والدولة بلا موازنة منذ عشر سنوات أو يزيد، والشعب اللبناني يخسر نخبه بالهجرة إلى أية دولة تقبله..
فهل هذه مسؤولية الصحافة أيضاً.
وهل السبت الأسود ـ طالما انك قد استشهدت بوقائعه منقوصة – مسؤوليتنا أيضاً: هل نزل الصحافيون بالقنابل والديناميت والرشاشات فقتلوا من قتلوا جماعياً؟
أيها الأصدقاء،
يبقى أخيراً أن أشير إلى واقعة كان بين شهودها فخامة الرئيس ميشال سليمان الذي كان يُفترض أن يشاركنا مشكوراً هذه الندوة، لولا أن إرادة الله قد غيبت المرحومة والدته قبل يومين، عوضه الله وأبقاه.
-6-
لقد ارتكبت «السفير» خطأً افترضناه بسيطاً، إذ تأخرنا في نشر استطلاع رأي كنا قد أجريناه حول الانتخابات الأخيرة، وكان التأخير يوماً واحداً فقط لا غير.
مع هذا فقد حوكمنا وحُكم علينا بغرامة قدرها خمسون مليون ليرة لبنانية! تصوروا!
ولقد سعت نقابة الصحافة مع كل الجهات المختصة، عبثاً.. ثم رُفع الأمر إلى رئيس الجمهورية، إذ وجد أن العفو الرئاسي وحده يمكن أن ينجينا من هذا الحكم المتعجل والظالم… ولقد تكرم فخامته، في أواخر أيام عهده، فأصدر عفواً ينزل بالغرامة إلى عشرة ملايين ليرة لبنانية فقط.
وأتمنى أن تتكرموا وقد تلاقيتم من حول الإعلام بأن تتبرعوا لنا بقيمة الغرامة!
أيها الأصدقاء،
مع التقدير للجهد الممتاز الذي بذله الدكتور الجنرال علي عواد في إعداد هذا الكتاب، فلقد جانب الصواب حين حصر اتهاماته للإعلام بالصحافة المكتوبة، في حين أنها ـ ومع الأسف ـ قد صارت المؤسسة الأضعف والأقل تأثيراً بين أجهزة الإعلام المسموع والمرئي والأخطر: الإلكتروني، الذي يضخ المعلومات ويوفر لك المرجعية في الجغرافيا والتاريخ ويربطك بأحداث العالم على مدار الساعة.
-7-
لقد اجتهد هذا العسكري الذي شدته الثقافة إلى حضنها وأخذه اهتمامه إلى الإعلام فشارك في اللجنة التحضيرية للإعلام الوطني وساهم في وضع وصياغة الجانب الإعلامي من إعلان بعبدا الذي تم التوافق عليه بالإجماع في جلسة لهيئة الحوار الوطني في قصر بعبدا بتاريخ 11 حزيران 2012.
وهو كأي مجتهد: إن أصاب فله أجر واحد وإن أخطأ فله أجران، أجر الاجتهاد وأجر إعادة التصويب.
أعتذر إن أطلت، لكنها فرصة ممتازة لإطلاق هذه الصرخة لعلها تفيد ولو قليلاً في إنقاذ المهنة التي أتشرف بالانتماء إليها والتي أعطيتها عمري الأول كله وها أنا أكمل معها في عمري الثاني (بعد محاولة الاغتيال).
وأتمنى أن تشمل محاولة الإنقاذ نقابة الصحافة التي تكاد تصير أثراً بعد حين.. وذلك حديث آخر.
شكراً لفخامة الرئيس الذي قدم أفضل ما عنده ثم خرج من سدة الحكم بأقل الخسائر.. وعسى نعوض ما فقدناه من الدولة وفيها في المقبل من الأيام.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
] نص الكلمة التي ألقيت مساء أمس حول كتاب «الرأي العام بين الدعاية والاعلام» للعميد الركن علي عواد في البيال، ضمن نشاطات معرض بيروت العربي الدولي للكتاب.

Exit mobile version