كم كان كارل ماركس خيالياً. قال: لا بد من إضفاء الأخلاقية على الاقتصاد لقمع الاستلاب والاستغلال. لا بد من ابتكار نظام اقتصادي من واجبه أن يجعل البشر متساوين. تبدو الماركسية في هذا المدى الجارح والمهين، يوتوبيا، لم يحلم بها الزه~اد والقديسون.
كي تحصل هذه اليوتوبيا الماركسية، المطلوب أن يكف البشر عن أنانيتهم، وأن يُغلّبوا المصلحة العامة. في الرأسمالية هناك غياب جوهري لصفة الأخلاق ومنطق العدالة. عبقرية الرأسمالية بأنّها تُقرُ وتدعو إلى رعاية الأنانية. لذا، كونوا أنانيين. اهتموا بمصالحكم، بذكاء واحتيال إن شئتم. تعلّموا كيف تتصرف الأسواق. “عليكم بالثراء”. النجاح مفتاحه رأس المال. وعليه، لا تنتج الرأسمالية نظاماً أخلاقياً. استغلال الإنسان للإنسان، قاعدة أزلية، “في البدء كان الإذلال”. وكاختبار، تسأل أي إنسان، هل تُفضّل أن تكون ثرياً على أن تكون فقيراً، موعوداً بملكوت السماوات؟ الأجوبة صارمة. الدين الشائع، منذ البدء، أضغاث أحلام.
لا مفر من الثروات وتكديسها. الرأسمالية أعلنت منذ البداية، أنها نظام غير أخلاقي بالمرة، هي كذلك. العمل والادخار وتزايد الثروات، منطق إنساني، “لا إنساني”، منذ قايين وهابيل. قايين قتل أخاه، اسألوا التوراة لماذا؟
احتال الإنسان على مساره ومصائبه. بنى سُلَّماً من الأخلاقيات. أنشأ “يوتوبيات” مُدعّمة بسمو الإنسان الذي لم يوجد بعد بصفاته الأخلاقية. يا حرام، الإنسان ضحية ذاته. هو القاتل والمقتول معاً. قلْ وداعاً للأخلاق.
ومع ذلك، لم يكف الإنسان عن خلق أوهام جميلة. ساحرة. بنى سُلمَّاً من الأخلاق. غير أن البشرية، ناضلت نضالاً واقعياً للتحرر من الأخلاق، وقد نجحت مراراً، حتى بانت البشرية راهناً، مُساقة بحذاء رأسمالي بلا هوادة. الرأسمالية أيديولوجيا بعينها وذاتها. والسياسة متهيئة دائماً، لبناء ترسانة فائقة الاتساع والقوة، لمحاربة الأخلاقيات. كل الأخلاقيات. الدينية والمدنية. لا بد من استبدالها بالضرورات السياسية؛ والسياسة ليست إلا في خدمة أصحاب القوة والنفوذ، ولا قوة ولا نفوذ من دون سلطة وسلطان المال.
الأخلاق؟ أيديولوجيا وهمية وأفيون. الأخلاق أيديولوجيا مسيحية، في زمنها الأول. جاء في الإنجيل، “لا تعبدوا ربين، الله والمال”. يا حرام. لم يعبدوا إلا المال. المال إنه دائم الحضور ومعبود.
الأخلاق؟ دعك من هذا الهذيان. تأمل عالمك اليوم، تجد نفسك باحثاً، عن جحيم آخر، يشفق علينا. ولا تأمل بسياسة بلا أموال ورأسمال. لذلك، وعى فلاسفة غربيون خطورة رأس المال. ماركس، سارتر، فرح أنطون وآخرون تصدّوا لهذا “الإله”. هزمهم جميعاً، باسم أخلاق السوق.نطوب
وعليه، الناس دمى متحركة. أجهزة الإعلام الراهنة، تخاطب الناس وتتعامل معهم على أنهم دمى. عبارة الأخلاق ومنظومة القيم، سلعة فقط. حقوق الإنسان، سلعة انتقائية. والإنسان ليس واحداً. الإنسان طبقات: ساحقة ومسحوقة. هذا أفضل تعريف معاصر.
غيفارا مات. قتلوه. الأب بيار طردوه. اتهموه باللاسامية. كان المدافع الأممي عن الفقراء. لم يكن راهباً كاثوليكياً فقط. لم يتعاطوا معه كشخصية دينية، بل كونه شخصية إنسانية وأخلاقية: القادة الأخلاقيون، ضحايا الفشل. “القوة المالية غالبة”. “الويل للضعفاء والفقراء”.
عندنا، في لبنان، الطائفة تقوم مقام الأخلاق. والطائفة تجيد المقامرة. وفي كل بيئة عصابة “متدينة” تؤمن بأن الطائفية منبع أخلاقي وتقدمي. الطائفة، حصن رأسمالي وأتباع يتسوَّلون قمامات سياسية.. وعليه، لا تنمية، لا عدالة، لا تقدم، لا مشاركة، لا أنسنة.. والعلاج: جمعيات خيرية، “أطباء بلا حدود” وسواها، وإيمان بدائي وخرافي، بأن النضال سيؤدي إلى حل مشكلة النزف الرأسمالي.
السياسة، ليست بحاجة أبداً للأخلاق. هي بحاجة إلى نفاق متراكم، وخطب غوغائية، ووعود طفيلية، وأكاذيب بنّاءة.. السياسة والأخلاق ضدان. السياسة ليست ما يقوله السياسيون. إنهم لا يقولون شيئاً أبداً. حتى عندما يقولون أي شيء.. أسلوب ادعاء المواقف والإقامة فيها، ليس إلا مضيعة وقت.. الجيل الأخلاقي محبط. لقد بلغ نهاية أحلامه. أحزاب المساواة والطبقة العاملة والحرية والاشتراكية والعدالة والمساواة.. انتهت. هذا حصرم رأيته في حلب. وعليه، فالمعارك الطاحنة راهناً، بين الكيانات والدول، ليست من أجل الإنسان. لا تصدّقوا الخطب أبداً. لا تصدقوا “رجال الدين” والمال. لا تصدقوا السياسيين. إنهم عبيد صغار على موائد الرأسمال. الحروب الماضية والراهنة، لم تكن أبداً لرفاهية الإنسان، بل لزيادة طغيان الطاغوت المالي الرأسمالي، حتى الحروب الدينية، لم تكن لوجه الله، بل لصناديق العتاة والطغاة وعبيد الرأسمال.
قلما عرفت البشرية أجيالاً أخلاقية.
سلاح فاشل يمتشقه الطوباويون الطيبون: الأخلاق هي كل شيء. العمل الخيري والإنساني لا بد منه. هراء هذا. لا يعالج الجوع بلقمة. لا يعالج الفقر بالتسول. لا تُعالج الرأسمالية، بالانخراط فيها، فلن تصل إليها، إلا عبداً ذليلاً. انتزعت منك إنسانيتك.
ما السياسة راهناً؟ لا تعودوا إلى جمهورية أفلاطون. إلى فلاسفة عصر النهضة. إلى عمالقة الفلسفة والفكر الغربي. ليس عليكم إلا أن تعودوا إلى السفسطائيين الذين فهموا العالم على ما هو عليه، وإلى ماكيافللي في كتابه “الأمير”.. كل الطوباويات الدينية والسياسية والاجتماعية، “فالصو”. القوة هي المرغوبة والمطلوبة. “إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب”. هذا كلام واقعي جداً.. اليوتويوبيات الجميلة مجرد كذبة. لا بد من مشقة اتباعها، ودفع أثمان فشلها. السياسات، لم تعد وسيلة اجتماعية. وظيفتها انعدام الأخلاق والمحبة والقيم وبناء قلاع للرأسمالية التي تعتبر راهناً: جائحات عابرة للحدود والأوطان والأديان.
هل من تفاؤل ما، يُنبئنا بعودة الروح، أم أن الروح دخلت في العدمية، وأن المال هو الأب والابن والروح القدس والآيات والاجتهادات والفلسفات. لقد هجرت الأخلاق والقيم وازداد تسلط رأس المال. روسيا الماركسية تنازلت بسرعة عن عقيدتها. وها هي اليوم تنافس الآخرين، بما لديها من قوة عظمى. أما الاشتراكية.. إنسَ.. لا أحد يستجدي كارل ماركس. بعد هجرة وتهجير الأخلاق، صار الهدف الإنساني راهناً، ضئيلاً جداً. جمعيات السلام، صرخات مكبوتة. “القتال” من أجل السلام، لن يربح أبداً. ولن يكون سلام على الإطلاق، ولن تكون الحرية صديقاً وفياً للإنسان.
هذا الكائن هو إنسانٌ أم وحشٌ؟ البعض يؤكد أن الحيوانات ليست متوحشة أبداً. وحده الإنسان وحشٌ متمادٍ. الحروب أكثر توحشاً. الجيوش أفدح توحشاً. رأس المال هو المرجع الدائم لكل الحروب، لأنه يكسب دائماً.
ساد في زمن ما، غير بعيد، مناخ لغوي – أخلاقي: تغيير المجتمع. العدالة. حقوق الإنسان. السلام. التنمية. الأخوة الإنسانية. مكافحة الفقر (استبدلت رأسمالياً بمكافحة الفقراء). عيب هذا وتخلف. لا عدالة على الإطلاق، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. “حقوق الإنسان”. كلما سمعت ذلك من أحد، أقول له في سرِّي: “سد بوزك”. السلام، ما هذه البدعة. البشرية ضد السلام. لن يحل سلام على الإطلاق. رأس المال ينضب. تجار الأسلحة يسكرون بالحروب. تجار الأدوية مستعدون لإكثار الأوبئة.. هذه الأرض يا ناس، وهذا الإنسان الذي هو نحن، تفوّق على شياطين الجحيم.
لا تحلموا بالحرية والعدالة والسلام. اقرأوا العالم جيداً، من خلال مذابح غزة وفلسطين. هذا العالم السياسي السائد، لا يساوي حثالة. هذا “العالم الحر الديموقراطي”، هو الوريث الشرعي لجنكيز خان وتيمورلنك وهتلر، وقادة الغرب الذين غزوا الكرة الأرضية، وحكموها بنعالهم. حضارة الغرب كذبة بلقاء وجرائم ممدوحة من قبل رجال الدين وفلاسفة السلام.
من بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، لم نعد نعرف خصوماً للرأسمالية أو بالأحرى، قامت الرأسمالية بإعدام أعدائها وتخلصت من القيم وطوّعت الأديان كلها، وكل ذلك في خدمة رأس المال والجشع والحروب.
السياسة تكره الفراغ.. الرأسمالية قتلت الله. قتلت الأخلاق، كما السياسة.
السياسة راهناً: أطعْ وإلاّ..