حدثٌ صغير مرّ على هامش أحداث أكبر؛ فقد ألغت الحكومة السورية المؤقتة ثلاثة أيام عطلة هي: عيد الشهداء، ذكرى حرب تشرين، وعيد المعلم. والواقع أن الحدث، من زاويته الرمزية، هو جزء من إعادة صياغة الهوية السورية. ولنا أن نتساءل: هل ذلك ممكن؟ وهل هو مجدٍ؟
في الماضي القريب، ومن أجل أن يضع الرئيس الراحل حافظ الأسد أسس حكمه المديد، حاول -كغيره من قادة العالم- صناعة “أسطورته التأسيسية”، وهي الرواية التي يتجمّع حولها عادةً شعبٌ ما، كما يتجمّع الفرنسيون مثلاً حول رواية الثورة الفرنسية باعتبارها الأسطورة التأسيسية الأشد قبولًا، والتي تحظى بنسبة عالية من التأييد لدى شرائح واسعة من المواطنين.
الرواية التأسيسية لنظام الأسد الأب قامت على “ثورة الثامن من آذار” و”الحركة التصحيحية”، وبعد ثلاث سنوات من حكمه، جاءت “حرب تشرين التحريرية” لتكتمل فصول الأسطورة المؤسسة.
يمكن الزعم أن الذكاء الاستراتيجي للأسد الأب هو ما دفعه إلى إدراج حرب تشرين ضمن مناسبات أخرى لا ترتقي شعبيتها، في أي حال من الأحوال، إلى ما تحظى به تلك الحرب في الذاكرة الجماعية السورية. فالسوري لم يكن لاعبًا في ٨ آذار، ولا في ١٦ تشرين الثاني؛ إذ بقيت تلك أحداثًا مفروضة عليه، واكتفى فيها بدور الشاهد لا اللاعب. لكن حرب تشرين مسّت كل طبقات الشعب السوري، رغم كل الآراء المتباينة التي نتجت عنها. والحقيقة أنها كانت آخر الحروب التقليدية بين العرب وإسرائيل، فقد جرت بمشاركة مصرية قبل أن تنسحب مصر منها بمفردها، كما أرسلت دولٌ عربية عديدة فرقًا من جيوشها للمساندة، كالعراق والمغرب. وهي الحرب التي لوّحت فيها السعودية بسلاح النفط (للمرة الأخيرة)، وتسببت بأزمةٍ اقتصادية عالمية.
وهي الحرب التي قُصفت فيها المدن السورية، وشارك فيها جنود سوريون كانوا يؤدّون خدمة العلم، فأُسروا وجُرحوا واستُشهدوا من أجل هذا الوطن المسمّى سورية. صحيح أن الأسد هو من خاضها، وهو يتحمّل مسؤوليتها السياسية، نجاحًا أو فشلًا، لكنها كانت حدثًا عامًا، وجزءًا من تاريخ البلد وتاريخ المنطقة.
من هنا تأتي أهمية إخراجها من الذاكرة السورية، والواقع أن السلطة الحالية تقول بذلك إن هذه الحرب لم تكن إلا “حرب الأسد”، لا “حرب سورية”، وأنها حقبة يجب طيّها، كما جرى طيّ غيرها، كالعلم والنشيد وكل ما يُشير إلى أي علاقة بالحكم البائد.
أما الذكرى الثانية، فلا تقلّ أهمية، بل لعلها أكثر رسوخًا في الذاكرة؛ عيد الشهداء هو عيد بداية الانفصال عن الإمبراطورية العثمانية، وهو حدث قلما يثير خلافًا حوله. لقد انقضى وقت طويل، قرن كامل، على تلك الحقبة، ولم يعد للجرح إلا نكهة التاريخ. عيد الشهداء لا يقول أكثر من أن تاريخ البلد يضم أشخاصًا وضعوا الوطن السوري واللبناني فوق الجميع، وقضَوا باسم ذلك. وهو يكاد يكون المناسبة الوحيدة التي تشير إلى الحقبة العثمانية. ولنلاحظ أن سورية تحتفل باستقلالها في “عيد الجلاء” بعد نهاية الانتداب الفرنسي، دون أي مناسبة تؤرّخ للاستقلال الأول إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.
في هذا السياق، يأتي إلغاء عيد المعلم كزائدة لا ضرورة لها، إلا التغطية على المناسبتين الهامتين، وهكذا يدفع المعلم، الذي تحتاجه مجتمعاتنا أكثر من أي وقت مضى، ثمن تهميش لا علاقة له به!
والحقيقة أن الحكومة المؤقتة الحالية لا تحتاج إلى مخيلة واسعة لكتابة أسطورتها التأسيسية؛ بإمكانها الاستناد إلى أهم حدث في تاريخ سورية المعاصر، وهو أربعة عشر عامًا من التضحيات والألم والضحايا والحصار.
لكن، أيّة سردية، ومهما بلغت حججها وقدرتها على الإقناع، لا يمكن أن تصمد إذا ما مارست الإقصاء والإلغاء لقطاعات كاملة من شعبها. ولهذا فإن إلغاء الاحتفال بذكرى حرب تشرين وعيد الشهداء، يستبعد قطاعات عديدة من “رواية الوطن” التي يُفترض أن يُؤسَّس عليها مستقبل سورية، خاصة وأن الحدثين يخصّان محتلًا خارجيًا قديمًا (وحليفًا حاليًا)، ومحتلًا جديدًا لا يزال ينتهك ويقضم التراب السوري ويحتل جزءًا منه.
منذ سقوط النظام السوري، حصلت مجازر ضد العلويين وضد الدروز، وبلغت الحوادث الفردية حدًا لم يعد من الممكن معه اعتبارها كذلك. وكلها أحداث تتحمّل السلطة القائمة مسؤوليتها السياسية في أحسن الأحوال، ومسؤوليتها المباشرة في أسوأها.
ليس من وطن سوري، وليس من رواية جامعة، إن لم يكن لأغلب قطاعات الشعب مكان فيها. وأيّ تاريخٍ يُؤسَّس على الإلغاء والتشطيب سيبقى مشوّهًا وناقصًا. وبكل الأحوال، لا يمكن الهروب من التاريخ ولا إخفاؤه في بلدٍ يمتد ماضيه إلى عشرة آلاف سنة. ولا يمكن بأي حال قصّ شريط التاريخ ولصقه وإمحاء ما لا يناسبنا منه.
لا بدّ للسوريين من مواجهة تاريخهم بكل تفاصيله المؤلمة، من بدايات تكوين الوطن السوري بجغرافيته المعترف بها، والانفصال عن الإمبراطورية العثمانية، وحتى الحقبة البعثية التي امتدّت أكثر من نصف قرن، وصولًا إلى نهايتها ودخولنا جميعًا في مرحلة جديدة ترسم الأيام أطرها المستجدة. ولا يفيد، في عملية البناء الصعبة والمحفوفة بمخاطر الداخل والخارج واحتمالات تشظّي الوطن الذي نعرفه، تغييرُ روزنامة العطل والأعياد، ولا استثناء أجزاء من الذاكرة الجمعية وهي مثقوبة أصلًا.
لايزال السوريون رغم كل نقاط اختلافهم وقواسمهم المشتركة بآن، دون رواية جامعة، ولايزال السؤال الأساس دون رؤية واضحة: كيف نؤسس لذاكرة جمعية بعد قرون من التبعية ونصف قرن من الديكتاتورية دون الوقوع في فخين شديدي الحضور في الألم العميق الذي لايزال ملتهباً: رغبة الإنتقام ورغبة تغييب أجزاء من ذاكرةٍ مثقوبةٍ أصلاً.