الخير من خار، اختار؛ الاختيار، الحرية. الحسن كلمة توازي Good الذي تحوّل الى Goods، أي الى خير أو بضاعة. هي البضاعة التي ينتجها الناس بعملهم، واقتطعها منهم الرأسمالي بملكيته، ومن قبله الاقطاعي. الفلاح كان يعمل وينتج القيمة. العامل كان يعمل وينتج القيمة. تحوّل الفلاح الى قطيع، والعامل الى قطيع. كلاهما من أوباش القطيع الحيوانية؛ نزلت مرتبتهما الي الحيوانية كي يقال لهم رعاع، وكي يستحقوا الاستهجان، وكي يكون ذلك سبباً في الاستغلال.
على الفلاح أو الصانع الخمس أو العشر. أدخل الله في هذه العملية. فهو الديان. هو مبعث الدين. قد أجاز اقتطاع القيمة. باركها بالروح القدس. هو الديان أساس الدين والديْن. تقاتل الناس في الصراع الطبقي، والحسم كان لصالح الطبقة العليا. لا ندري في أي اجتماع تأسيسي كان. الأديرة في المجتمع المسيحي دليل على ذلك. دار الطراز الأميرية في بلاطات الخلافة دليل على ذلك أيضاً. النقابات أي الـGuilds في الغرب أدوات العرض، وفي كثير من الأحيان عرض يشبه الاستعراضات العسكرية الحديثة، لتمتين أواصر المُلك. الأصناف والطرق الصوفية دليل مشابه.
الى جانب النظام الرأسمالي هناك جمعيات المساعدة. المساعدات التي تقدم للفقراء لإيهامهم بتخفيف فقرهم. الفقراء قضية اجتماعية يتبنى حلها علم الاجتماع، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه مما فعلته الرأسمالية. البر والإحسان عند المسلمين مهمته كذلك، أي مساعدة جزء من المجتمع كي يقبل بقانونية المصادرة.
على مدى قرون جُرِّدَ الفلاحون ثم العمال من أدوات عملهم. وازداد الاستغلال. تحوّل هؤلاء الى ما يُشبه الحيوانات. طالبوا بحقوقهم. قيل لهم أنتم أجلاف معدومو الحضارة لا تستحقون. لوردات الطبقات العليا أجبروهم على أن يصيروا قطعانا حيوانية ثم تخلوا عنهم. جاءت مؤسسات المساعدات لرفع الحيف عن بعضهم. فلم يكن عملهم أكثر من تبرير الاستغلال والسرقة والنهب وبقية ما تمارسه الطبقات العليا. كل ذلك لدى أكثر الطبقات الدنيا المهمشة كي تعتنق ايديولوجيا الطبقات العليا، وتقتنع بما عندها. ويصير المثل “كنز القناعة لا يُفنى”. على الفقراء أن يقتنعوا بما لديهم، بينما كبار الرأسماليين يمعنون في مصادرة أموالهم ونتاج عملهم، أي مصادرة القيمة التي تصدر عن العمال والفلاحين.
يختلف الرأسمال التجاري (الذي كان سائداً في لبنان والعالم قبل الحرب الأهلية) عن الرأسمال المالي الذي يسود العالم اليوم. الرأسمال التجاري بحاجة الى التعليم والى المعاملة المهذّبة للتعامل مع الشارين، وإلا تبطل عملية البيع والشراء إذا كان لدى التاجر فظاظة. رأس المال المالي، مع كونه مصدر المال للمستدينين، لكن يعتبر نفسه المانح والخالق لزبائنه، كأنه هو الذي خلقهم. يصير هو الخالق، والدين هو صاحب التبرير للرأسمالي. أصحاب الدين لديهم العدة الايديولوجية لتبرير ذلك. فظائع الرأسمال بحاجة دائمة الى تبرير. وهذا موجود عند أرباب التبرير، رجال الدين، الذين يلبسون لكل حالة لبوسها.
لا خير إلا ما يصنعه الناس. يتولى رجال الدين الخير في ما اختاره الله. فهل اختار أن تُقتطع القيمة من عمل العمال والفلاحين (وغيرهم) لصالح رأسماليين يملكون أدوات العمل في حين لا يملك الصانع أو الفلاح سوى قيمة عمله؟ وهل هناك قيمة حقيقية غير تلك الصادرة عن العمل؟
البحث عن الخير يبدأ في تحليل عملية الإنتاج لا في توزيعها حسب موازين القوى الاجتماعية والسياسية. كانت الدولة إطاراً لهذا النهب. يتوجب النضال الآن لتحويل الدولة الى إطار ناظم للمجتمع بكل قواه العاملة، لكي ينال كلّ نصيبه.
“الجوع أبو الكفار”. لا يمكن أن تنتظر من جموع الفقراء أن يكونوا غير الرعاع. عندما يأخذون حصتهم (المقتطعة) سيصيرون غير ذلك؛ سيصيرون من أصحاب الحضارة الرفيعة، وسيتعلمون حضارة السادة واللوردات.
فظاظة رأس المال المالي لا حد لها. تطوّر هذا الرأسمال ليتسلّم قمة الرأسمالية الحاكمة. يتصرّف بفظاظة لا حد لها. يعتقد أنه يمتلك المال الذي لا يمتلكه العامة، ولا حتى رأسماليو الصناعة والتجارة. الرأس مال المالي هو خالق الكون. هو في أساس الحياة البشر (الناس كلهم يستدينون عن طريق ديون مصرفية لشراء بيوت أو بطاقات ائتمان للاستهلاك اليومي)؛ كلهم بحاجة الى المصرف. المصرف خالقهم. يستطيع أن يتعامل معهم بفظاظة بعد أن سلخ منهم فائض نتاج عملهم. ليس لديهم فائض للادخار يلجأ إليه بدل المصارف. هذه تقبض على مصيرهم، وتملك الرباط على رقابهم. يعجزون في معظم الأحيان عن دفع ديونهم. لا سبيل لهم إلا العبودية للمصارف.
لا يُباعون ويُشترون كالعبيد؛ لكن عملهم يُباع ويُشترى. تُعطى الديمقراطية لهم لينتخبوا ممثلين لهم من أعضاء الطبقة العليا. يفقدون عملهم ومطالبهم في عملية الإنتاج ونتائجها. يفقدون رأيهم في السياسة ونتائجها. يجوعون، يرتكبون، وهناك القانون لمحاكمتهم إذا خالفوا. الإرهابيون منهم لا يحاكمون. مصيرهم الى المحكمة العسكرية الميدانية. يُقتلون في الميدان، في حقل القتال، إذا ناضلوا من أجل حقوقهم.
تحوّل كل الخير الى مال. لا يخضع له العمال والفلاحون وعاملو قطاع الخدمات وحسب، بل التجار والصناعيون أيضاً. يخضعون لهم أي أصحاب رأس المال المالي الذي يسيطر على المجتمع والدولة عن طريق الانتخابات. لا نرى تشريعاً إلا لصالحهم، في التشريع ثم في التنفيذ لدى السلطة التنفيذية (الحكومة أو السلطة).
ما هو حسن (good) تحوّل الى (Goods)، أي بضاعة أو سلع بيد رأس المال المالي. هذا يقرر مصير الخير لغير أصحابه الحقيقيين، خاصة عندما يعجز المدين عن السداد؛ وهذا هو الأمر في معظم الحالات.
نيتشه نظر حول الله، لكن حقيقة أمره أنه نظر للسادة الذين حولوا عبر التاريخ جمهور الناس الى رعاع. ثم عاب على الرعاع بدائيتهم ووحشيتهم وعدم التحاقهم بالحضارة العليا. أنتج حربين عالميتين دفاعاً عن حقوق السادة. تتابعت الأزمات المالية. فهل تتعلّم الرأسمالية من دروس التاريخ؟ الثابت أنها لا تتعلّم شيئاً غير الجشع والمراكمة والاكتناز.
تتصرّف هذه الرأسمالية وكأنّ شعارها “ومن بعدي الطوفان”. هي تعرف أنها لا تتعلّم وأنّ الأزمات المالية سوف تتوالى (ونحن على أبواب انفجار فقاعتها الأخيرة). لن يفعلوا شيئاً سوى الاحتيال وتحويل الجامعة والثقافة الى تعليم أساليبهم. جميعهم يبشّر بالازدهار عن طريق الأوراق المالية. قلة من العارفين يعلمون ويكتبون وينظرون. وهم أكاديميون مميزون. لكنهم يُمنعون من الظهور. يتربى أبناء الطبقات الدنيا في الجامعات للتشبّع بايديولوجيا طبقة السادة. علم الاقتصاد أصبح علماً تبريرياً، لا أكثر ولا أقل. صار علم اقتصاد السادة.
أما العلوم الصحيحة، من فيزياء، أو كيمياء، أو كمبيوتر، أو بيولوجيا، أو جغرافيا، إلخ… فأصحاب هذه العلوم مسموح لهم أن يخترعوا، وأن يحوّلوا الاختراعات الى بيزنس. لكنهم سوف يعملون تحت مظلة رأس المال المالي. الأسلم لهم أن يصير الماليون شركاء لهم في ما سيؤسسونه من شركات. لم تعد الاختراعات خيراً لأصحابها، بل خيراً لأصحاب المال.
الخير منفعة ينتجها الجميع ما عدا رأس المال. لكن رأس المال المالي يصادرها… ويستعبد بقية المجتمع عن طريقها.