طلال سلمان

الحوار بين الأزمنة

تستولد الحياة ذاتها وتتواصل معيدة تشكيل ابنائها.
يصير المولود والداً موزعاً على اهله اوسمة الجد والجدة، الخال والخالة، العم والعمة، وعلى الأصغر سناً ألقاب »الزمالة«.
ومع الأصغر يكبر فجأة »الأكبر« و»الكبير« فيدفع الى حافة الشيخوخة.
إنه الازدحام.. وجرس الإنذار صريح في إعلان المضمر!
تختلط في الاحتفال المشاعر، وتحمل كلمات التهنئة رنة الحزن، وأحياناً دوي »الفضيحة« الصغيرة: لقد اظهر القادم حقيقة المخبوء، والإعلان انك غدوت »جَداً« يضيق امامك هامش ادعاء الشباب!
إنها كتلة بسيطة من اللحم، فكيف استطاعت ان تحمل معها كل هذه الاسئلة، وكل هذه المشاعر الغامضة والأفكار المغلقة على ذاتها!
تحاول القراءة في عينيها المنفتحتين الآن على الاسرار المطوية، فتكتشف ان كثافة الاسرار تمنع عليها الرؤية، فإذا كل ما تلمحه ظلال وأخيلة لا توفر لها فرصة المعرفة ولا تتيح لك التوغل في المجهول.
تخاف ان تمسك بأطرافها الهشة، او ان تحتضنها حتى لا ينكسر فيها ما لا يُجبر.
هذه الآتية الى عصر آخر: هل تحسدها ام تشفق عليها؟!
ان الأبناء الآتين الآن ليسوا مجرد جيل جديد. انهم المدار لدنيا جديدة.
صار الزمان زمانين، فعلاً.
انهم لا يبدأون من حيث انتهينا، ولكن من حيث لم نصل ابداً، ولعلنا لم نحلم بالوصول.
لم تعد المسافة محدودة وضيقة: ينقلون عنا ويضيفون ما يتوصلون الى اكتشافه او إنجازه مباشرة.
لم تعد الفروق تفصيلية ويمكن استدراكها بشيء من الجهد.
صار بين الابن وأبيه سنوات ضوئية، كلاهما لا يقدر على ان يأخذ من الآخر وعنه ما يرغب فيه او ما يفيده تماماً.
مظلوم هو »الجد« الذي يباعد الزمان الجديد بينه وبين »خلفائه في الأرض« فيرميه بغير إشفاق في وهدة القرون الوسطى ليتأمل من هناك أحفاده وهم يتقافزون فوق النجوم عابثين بكل ما حققه من »إنجازات« وكأنها ألعاب أطفال.
لكن الحياة تتسع لجميع الحالمين، بمن فيهم اولئك الذين يفترضون في أنفسهم، القدرة على نسج حوار بين الزمانين.

 

مرسيل خليفة »يقول« منفرداً

من حق مرسيل خليفة ان يطور أسلوبه، وأن يعيد تقديم نفسه الى جمهوره بحلة مختلفة عن التي عرفه من خلالها وصار لا يرى الا عبرها.
لقد انتهت مرحلة »التعبئة« الجماهيرية.
ومن المنطقي ان يجيء »العقل« الآن متقدماً على الحماسة، وان يتجه النتاج الى ذوق الناس، فيعزز ثقافتهم الموسيقية، بدل ان يظل التركيز على عواطفهم ومشاعرهم المستثارة.
كما تبدلت القصيدة والمقالة والدراسة والرواية، لا بد من ان يطرأ شيء من التبدل على الموسيقى والاغنية.
ومن حق مرسيل خليفة الموسيقي ان يتوغل في دنياه الخاصة محاولاً ابتداع أسلوب أرقى وأكمل وأعظم ثقافة موسيقية للتعبير عن ذاته.
لقد كانت موسيقاه، بداية، في خدمة الكلمة.
الكلمة هي مركز الدائرة، والموسيقى وكذلك صوته هما اطار مجسم لإبراز المعنى: تنساب كنهر الحزن، او تتهدج بالشجن المعتق، او تفور بالغضب وتنزف الجراح كبرياء لا يذهب بها الزمن.
أما الآن فهو يريد ان يقول »بلغته«، بالموسيقى وحدها.
ومن حق مرسيل خليفة الذي استوطن متزاملاً دائماً مع غيره وجدان جيل الفورة التي تحطمت على صخور اليأس والإحباط والخيبة، ان يجتهد مفتشاً لنفسه عن لغته الخاصة يقول فيها ما كان يرغب دائماً في ان يقوله منفرداً.
ولنسمع مرسيل خليفة، الآن، بعقولنا بعدما استمع طويلاً الى أحزاننا وغناها فأبكانا.. على طريق الثورة التي لما تتم طريقها.

 

رسالة الى صديق

الى أين تبحر في صحراء وحدتك وزورقك بلا شراع؟!
تهرب من الجميع حتى من نفسك لتبرر، من بعد، شكواك من الوحدة؟
لا تقبل أحداً، ثم تلوم الجميع على رفضك؟
ينسرب زمانك من بين أصابعك، ويضيع منك المعنى..
عدوك الوقت، ولكنك تقتل نفسك بصمت داخل ضيق الوقت. تضيّقه حتى يصبح شرنقة، وتنطوي داخله مستسلماً بلا نأمة اعتراض او آهة وجع، وتشرع في نظم مراثيك لزين الشباب المغدور.
كيف خارج الحب يمكن ان تعيش؟!
كيف يتصل نهارك بليلك من دون لمسة رقيقة أو بحة مثيرة، او ابتسامة واعدة او همسة تأخذك بعيداً عن عاديات ايامك الغارقة في الرماد؟
كيف تعيش متيبساً كجذع شجرة مرمي الى جانب الطريق، لا ينفع عشاً لعصفور، ولا ملاذاً لطالب حماية، ولا يستفيد منه حطاب او باحث عن دفء؟!
الى متى يستمر هربك من حياتك؟
يحطم فؤادك ألف مرة في اليوم، وتسحبك أحلامك من يأسك فترتد على الاحلام شاهراً سيفك الخشبي فإذا انت الجارح والجريح؟!
متى تكون انت.. متى تعترف بالانسان فيك؟!

»فؤاد« محمد سويد وبيروته الجميلة»

على مدى سبع سنوات، تجمعت لدي اوراق وأشرطة رديئة التسجيل، حسبت، وأنا اعمل على تفريغها وتدوينها تمهيداً لنشرها في مناسبة ما، انها ستحمل عناصر السرد اللازمة لنشأة دور العرض السينمائي في بيروت.. لكن كسلي وتأخري في الكتابة جعلاني أدرك انني امضيت الوقت محاولاً التمثل بالجانب الآخر من الحكاية، حكاية حنيني الى صور وأماكن ووجوه ذهبت بدداً في الزمان«.
بهذه الكلمات التي ترشح صدقاً يقدم محمد سويد لكتابه »يا فؤادي سيرة سينمائية عن صالات بيروت الراحلة«.
كل قيمة الأمكنة بالناس، وبعض قيمة الناس تجيء من أمكنتها.
حكاية الأمكنة هي حكاية الناس وأزمنتهم.
للذين لا يعرفون بيروت وصالاتها الراحلة قدم محمد سويد صورة »حميمة« لثلاثة او اربعة اجيال، وللعلاقة بين الناس وأمكنتهم الأثيرة التي تتحول مع الادمان الى مهجع للذكريات والى بعض ملامح حياتهم في لحظاتها الأمتع.
أما للذين يعرفون تلك البيروت التي غابت مغيبة معها الكثير منهم، من أحبائهم ومن ذكرياتهم ومن اوقاتهم الهانئة، من قصص العشق المختبئة والمعششة في بعض الجنبات والزوايا، فلقد وفر محمد سويد فرصة لاستعادة بعض الزمن الجميل الذي أضاعه اصحابه او ضيعهم او ضاعوا عنهم، او أخذتهم أيامهم الى خيبة تلغي الزمان كله.
بيروت ساحرة: ان فيها القدرة على خلق الشعراء.
ولعل بين أسباب هذا الدفء في سيرة محمد سويد لبيروت وصالاتها الراحلة، انه يستعيد زماناً حُرم من ان يعيشه.
أليست الايام الاجمل تلك التي لم نعشها إما لأنها جاءت قبلنا او لأننا جئنا بعدها؟!

إسأل روحي اسأل روحك

تصر المرأة على طرح السؤال:
كم عرفت من النساء قبلي؟
ويعرف الرجل ان المرأة لن تصدقه فيكذب صادقاً:
عرفت كثيرات، لكنني ما زلت انتظرها.
تلح المرأة:
وهل وجدتها الآن؟
يتلجلج الكلام في الحنجرة فيجيب بسؤال:
ماذا يقول لك إحساسك؟
تمسك بطرف الخيط، وتشد قليلاً:
يقول ما أخاف من تعجل سماعه.
هذا ما يقوله عقلك، سألتك عن إحساسك.
أدارت الاسطوانة، وقربت السماعة ليصله صوت أم كلثوم: »إسأل روحك«.
ضبط نفسه يتسلل بعيداً، مع النغم، ينتقل من وجه الى وجه، ويستعيد صوره مع كل منهن، حاول فعلاً ان »يسأل روحه«، لكنه فضل ان يضيف الى متعة السماع مشاهد اللحظات المندثرة تحت ركام العمر وأثقال الهموم.
لا يعيش أحد بذاكرته وحدها.
الذاكرة لمن غدا على هامش الحياة.
أما الحياة فأوسع من ان تتسع لها ذاكرة الخلق جميعاً.
انتبه الى ان السماعة ما تزال مفتوحة، فأخذ يدندن بالنغم، حتى اذا صمتت أم كلثوم جاءته الدندنة من الطرف الآخر، فغطت على السؤال المعلق وجوابه المتغلغل في طيات اللحن المنعش.

طيور الليل

تهوم الكلمات كطيور الليل مفتقدة المعنى ثم يندثر صداها في عتمة الصمت.
الكلمة أرق من ان تحتمل العبث. تنكسر تحت وطأته. ينفر المعنى من اللفظة فتصبح خاوية، يقرقع فيها الصوت كضوضاء فيكشف قائلها لسامعها وتبهت اللعبة فيصعب الاستمرار فيها.
للكلمات مجسات وشعيرات لاقطة، ولها أسلوبها في تعميم الفضيحة.
وفي الصوت يهجع الحس.
اما الأذن فنادراً ما يمكن خداعها.
على كل مليون من البشر ينجح »ممثل« واحد، فيكلف بأن يحمّل نبرات صوته المعاني المضمرة في وجدان غيره.
لا ينقل الحب بالواسطة.
ولا تستطيع الألفاظ وحدها اعادة تشكيل مكامن الحس.
ليس الحب للمغني، ولا لكلمات الشاعر، ولا للنغم الموصل.
في دنيا الحب الأوسع من فضاء تترجع اصداء ملايين الملايين من الاغاني والقصائد والألحان بلوعة الجوى.. لكن المحب يسمعها بالصوت الذي يتقطر في أوردته نشوة.
لكن البعض يدخل المرآة فيستقر فيها متى سمع من يذوب رقة ويفرغ شجنه في كلمة »يا حبيبي«.

Exit mobile version