طلال سلمان

الحكم والقرار.. والتشهير بلبنان!

مساء كل خميس، يطل على جمهور اللبنانيين المثقلين بضغوط أزماتهم المتنوعة، السياسية والمعيشية، الثقافية والتعليمية، وزراء حكومتهم الموسعة وهم يقفزون قفزاً تلك الدرجات القليلة لمجلس الوزراء، الذي بات له الآن مقر خاص يلاصق المتحف ويكاد ينافسه.

ويتفرج جمهور اللبنانيين على أعضاء هذا المجلس الموقّر، وهم يدخلون، وقد تأبط كل منهم ملفاً ضخماً يتضمن جدول أعمال الجلسة، مما يوحي بأنها ستكون خطيرة، ولا بد من أن تصدر عنها القرارات الموعودة لحل الكثير من المشكلات العالقة والأزمات المتفاقمة والتي تضيق مجال التنفس أمام المواطنين المتشككين والمتطلبين والذين لا يرضيهم العجب ولا الصيام في رجب!

تنعقد الجلسات، ويسمع الناس أخباراً متناقضة عن المحاورات التي جرت فيها، وعن الانقسامات، وعن المصالحات، ثم يطمئنهم وزير الإعلام (أي وزير، وكل وزير إعلام) إلى أن الجو كان طيباً وأن الوئام كان تاماً وأن الدنيا بألف خير.

لكن الوزراء يدخلون، في الخميس التالي، إلى الجلسة الجديدة، وقد زاد انتفاخ الملفات التي يتأبطونها، والتي قد يكلّف واحدهم مرافقه بحملها لأنها أثقل من عزم ساعديه!

وبين الخميس والخميس تشتد ضغوط الأزمات على الناس كما على الخزينة، وتتفجر الإضرابات، وتتزايد حركة الصرف من العمل والافلاسات، وتتفاقم حدة الركود، وتتهاطل تصريحات الوزراء لتطمئن الناس فإذا هي تزيد من قلقهم، وخصوصا أن بعضهم يبدو وكأنه يرد على البعض الآخر، بل وقد يصل واحدهم الى تكذيب زميله، وحتى الى التشهير بالحكومة ككل، وبعجزها عن اي انجاز، معيدا الاسباب الى الخلافات السياسية الحادة بين الرؤساء، والى الخلاف العقائدي الخطير بين الآخذين بمنطق هانوي وبين المستمتعين بحلم هونغ كونغ!

وليس سرا ان جمهور اللبنانيين يتفرج على وزراء حكومته ولكنه لا يصدقهم، ويتشكك في كل رقم يقولونه، وفي المواعيد التي يحددونها لإنجاز هذا المشروع او ذاك.. ولعله بات يتمنى ألا يقطعوا اي وعد وألا يحددوا اي موعد حتى لا يفقد ثقته أكثر فأكثر بالبلد ذاته، وليس بأهل الحكم فيه.

إن الإضرابات تتوالى في معظم مؤسسات “القطاع العام”، ولا سيما تلك التي كانت مرشحة للخصخصة. لكأننا نشهّر بهذه الشركات او المؤسسات ونفضح ما تعانيه من فساد إداري ومن عجز مالي ومن تراكم في الموظفين غير المؤهلين او غير الضروريين، بحيث يصير من العبث التفتيش عمن يشتريها.

وعلى امتداد الشهور الماضية، وعبر مسلسل أزمات صرف “الفائض” من موظفي بعض الادارات والشركات والمؤسسات (طيران الشرق الاوسط، مصالح المياه، وأخيرا مؤسسة كهرباء لبنان ثم ليبان بوست فضلا عن الاشكالات مع شركتي الخلوي)، تبدّي لبنان وكأنه مغارة علي بابا، يتناوب على مؤسساته وإداراته المفسدون والناهبون، وليس فيها موظف واحد صالح يأكل خبزه بعرق جبينه.

إن هذا التشهير اليومي بات شاملاً ولم يعد موضوعه أهل الحكم او ما يسمى الطبقة السياسية فيه (علماً بأنها ليست طبقة ولا علاقة لمعظم أفذاذها بالسياسة)، بل هو بات يصيب كل مواطن في شرفه وفي كرامته الشخصية، فضلاً عن الأضرار الاقتصادية الفادحة التي ستسرّع الانهيار الشامل.

إن القرارات المطلوبة صعبة حتماً، وقد تكون مكلفة، لكننا بالإرجاء والتأجيل وعدم الحسم لا نفعل غير زيادة المصاعب وزيادة الكلفة.

إن الخوف من اتخاذ القرار في توقيته الصحيح لن يُغني عن اتخاذه، ولكنه سيزيد من كلفته المادية والنفسية، كما إنه سيُفقد الناس ثقتهم بدولتهم وليس فقط بأهل الحكم فيها، كما إنه سيُفقد لبنان ما تبقّى من رصيده العربي، وقد كان كبيراً، ومن سمعته على المستوى الدولي، وقد كانت مقبولة ولو ملتبسة.

إن لبنان ليس وكراً لتجارة المخدرات وتبييض العملة، وليس أهله قطعانا من الاوباش المفروضين على الادارات بقوة سلاح الميليشيات، ولم تكن مؤسساته في ماضيها، وبالذات طيران الشرق الاوسط ومؤسسة كهرباء لبنان، “منهبة” لأفواج العاطلين عن العمل.

إن الحكم قرار. ومهما تكن القرارات صعبة ومؤلمة فإن اتخاذها يظل أقل ضرراً من تمييعها. فمع كل صباح ندفع المزيد من حصيلة جهدنا وعرقنا ثمنا لغياب القرار او للعجز عن اتخاذه!.

إننا نتصرف وكأننا دولة على طريق التصفية بعد إفلاسها.

ثم إن المسؤولية شاملة، ولن يستطيع أي مشارك في الحكم، كائناً ما كان موقعه، أن يتنصل منها برميها على غيره.

إن الكل على ظهر السفينة المثقوبة القعر.

و”الجمهور” يصدق كل الاتهامات التي يقولها الكل في الكل، سراً او جهراً، وخصوصا أن ثمة مَن يستفيد من تعطيل القرار، فيعمل على التمديد لهذا التعطيل المكلف.

إن الحكم مسؤولية جماعية، ولا مجال لأن يقول أي مشارك فيه: لم أكن أملك القرار! أو: كنت أقلية والأكثرية لم تشأ ان ترى! أو: منعوني من تنفيذ خطتي، أو: عطّلوا كل القرارات التي كنت أنوي تنفيذها، علما بأن الاستقالة في خانة المحرمات.

من فضلكم، قرروا، ولو خطأ، فذلك أفضل من تعليق كل شيء، والاكتفاء بتدبير المعاذير والتبريرات التي لم يعد أحد مستعدا لقبولها، او حتى لسماعها.

والحكم قرار… ولا فرار من الحكم ولا من القرار! .. إلا إذا كان الأمر المرتجى والإنقاذ الموعود للخلاص من كل ازماتنا، يتوفران مع تفريع كازينو لبنان وتوزيعه على جميع المناطق والطبقات والفئات والأعمار، فيزدهر لبنان ويعود أخضر كما كان!!

نشرت في “السفير” بتاريخ 20-7-2001 (نعيد نشرها توكيدا لواقع حالة التراجع والانحدار التي فاقت كل التوقعات.. حتى أكثرها تشاؤماً!)

Exit mobile version