أقر المؤتمر الوطني الثاني عشر للحزب الشيوعي اللبناني، الذي إنعقد في شباط/فبراير 2022 “وثيقة برنامجية” و”تقريرا سياسيا” وما تسمى “توجهات برنامجية” تفصل بين مؤتمرين لحزب يحتفل بعد سنتين بمئويته الأولى. في هذا الجزء الأول تركز المقالة على منهجية تعامل الحزب حاضراً وتاريخاً مع وثائقه، وعلى الوثيقة الفكرية.
يرث الحزب الشيوعي اللبناني، كغيره من الأحزاب، تراثاً فكريا ثرياً. هو ليس كمنظمة العمل الشيوعي في لبنان تحوّل الى الماركسية نتيجة حدث ما ثم تخلى عنها إلا كأحد مصادر فكره. هو مدرسة فكرية ماركسية من الأول الى الآخر.
مع تعدد المذاهب الماركسية ومراكزها العالمية، كان شرط وجود الحزب الشيوعي الأساسي الولاء لخط موسكو، سواء في مراحل مهادنة البورجوازية الوطنية أو العداء لها. كان مطواعاً لموسكو وسياستها. يشبهه في ذلك حزب الله في تبعيته لطهران ومذهبها الفكري، السياسي، والديني. الشيوعية أيضا تتحوّل الى ما يشبه الدين عندما يُرفَع المؤسسون الى مستوى العصمة ونصوصهم الى مستوى القداسة. تصير النصوص التأسيسية مصدراً للحقيقة والإلهام. تتحوّل النظرية المعتبرة عالمية الى دين. والكوادر العليا سدنة الهيكل، والمثقفون الحزبيون اكليروس الدعوة. توضع قيود على الحركة الفكرية. لا تكون واقعية، أي مقبولة، إلا بمقدار ما تطابق أفكار الذين في المركز الأعلى. من يخالف “الحقيقة المعطاة” يُحرم كما في الكنيسة المسيحية. أو يُكفّر كما في الدين الإسلامي. هناك محاكم للفكر والعقيدة كما محاكم التفتيش في الكنيسة الكاثوليكية. يشكّل الحزب عندها مجتمعاً مغلقاً، غير مفتوح إلا للدعوة من أجل كسب أعضاء جدد وأنصار. تتراجع الحريات طوعاً. على الملتزم حزبياً أن يكون ملتزماً فكرياً. تتلاشى الحرية كاستجابة للضمير الذاتي-الفردي والجماعي. يصبح التحرر الوطني ذا أولوية على حرية الفرد والمجتمع.
“الأمة” تعلو على الدولة. كل شيء في سبيلها. “الأمة” مركزها موسكو أو بكين. يدرب الأعضاء على اشتقاق أفكارهم من العقيدة الحزبية (الكاتشيزم عند الكنيسة). يبدأ كل تقرير حزبي بالوضع الدولي (تصورات المركز الحزبي) ثم ينتقل الى الوضع الإقليمي ثم المحلي؛ يصل الى المحلي من خلال الممر الإقليمي والدولي. الوجود مشتق من القضية. وهي مصلحة المركز. المحليات ملحقة بالمركز. الوفاء لقضية المركز هدف الوجود. القضية أولوية على الوجود. الأفراد صدى لإرادة المركز الحزبي. كل نقاش جدي ينتهي الى انشقاق، ذلك عندما لا يطيق الأعضاء أو الكوادر تسلّط مشايخ المركز.
يُستنبط العلم الحديث من العقيدة. مدارس تدريب الكوادر تشبه الحوزات. المدرسة المركزية تشبه الأزهر. الآتي من هناك يتقدم على التابع من هنا. تعاد كتابة التاريخ لتتلاءم مع وصفات التطوّر البشري المعترف بها “رسمياً”. تُعاد كتابة تاريخ الحزب لحذف المنشقين من الرواية السردية. أحاديث “الحكماء” تُجمع في كراسات للتلقين. يعتمد الأعضاء الحزبيون والأنصار على التلقي. يموت الإبداع. كل بدعة ضلالة. كل خروج على أفكار وآراء السلطة المركزية هو إنكار للعقيدة. كفرٌ بديكتاتورية “البروليتاريا”. ليس المجتمع ما يدرسه أهله، ولا المشاعر والمطالب التي يُعبّرون عنها. هي ما يُستنبط من المركز والعقيدة وأقوال سدنة الهيكل. المثقف ليس من يدرس ويعبّر عن ضميره ويعلن نتائج تفكيره. هو الذي يجمع “أحاديث” و”علوم” المركز ويعبّر عنها. الوعي ليس تعبيراً عن الوجود بل استنباطاً من القضية. ملاءمة القضية للوجود، والوجود دائماً محلي. قرارات “الأممية” أو التنظيم المركزي هي القضية. الرحلة الى موسكو والإقامة بها ردحاً من الزمن هي كالمجاورة في مكة أو النجف. الزعيم “الأمين العام” يلقي الخطب. الجمهور يصفّق. كلماته أوامر. على المتلقي أن يستجيب ولا يسأل. لا يعقد الزعيم مؤتمرات صحفية. هو في عصمة من كل شك وسؤال. القرارات، كما التحولات الكبرى، تُتّخذ وتحدث في اجتماعات سرية. يُحافظ على عصمة المركز بسرية الاجتماعات والمؤتمرات. مخابرات الدولة، عندما يندمج الحزب في الدولة ويحولها الى مجرد سلطة، تحمي الحزب وامينه العام من التساؤل. النقاش يصير شغباً. يعرف الناس العاديون عن أي انشقاق بعد أن يحدث. يطهّر الحزب، أو يعتبر كذلك بعد كل انشقاق. تعود العبادة الى صفائها.
هذه المقدمة طويلة. يبدو أنها تصلح لوصف كل المذاهب والحركات السرية. سرية العبادة تفرض شروطها على البشر. يظن الملتزم بالقضية أنه مكرّس لما يعتبره حقيقة أو حقاً. ينتهي الى أن يكون وفياً للقضية. المقدمة طويلة لأن هناك تساؤلات عما إذا كان الحزب الشيوعي اللبناني قد تخلص من بنى فكرية ورثها من زمن التبعية لموسكو السوفياتية. كثير من الممارسات المذكورة زالت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. لكن الصدام الفكري ما زال ساري المفعول.
ينقسم الكتيّب الصادر عن “المؤتمر الوطني الثاني عشر” للحزب الشيوعي اللبناني، المنعقد في بيروت في شباط/فبراير 2022، الى جزأين: الأوّل يتعلّق بـ”الوثيقة الفكرية”، والثاني هو “التقرير السياسي”. يتبع ذلك “توجهات برنامجية”.
يقدم الجزء الأوّل صورة عن عالم تحكمه الرأسمالية بأعلى أشكالها المالية التي تغلب عليها الأمولة (Financialization). عالم يتألف من المركز المتعدد الأقطاب ودول طرفية هي في الأساس عالمثالثية دخلت تحت جناح الامبريالية فأصابتها التبعية. تعمل آلية هذه الرأسمالية من خلال استتباع الدول الخاضعة لها بواسطة “بنية امبريالية” والاستغلال الذي تمارسه البلدان الطرفية على الطبقة العاملة وغيرها داخل بلدانها، وعلى البلدان المستتبعة. الاستغلال مزدوج. من خلال تدفق الاستثمارات والتكنولوجيا الرقمية من أجل الربح، وهي تساعد في الاستتباع. التصدي للامبريالية يكون عبر الاضطلاع بمهمات التحرر الوطني التي تعتبر في الوقت ذاته مهمات تحرر سياسي واجتماعي من نظام علاقات الإنتاج الرأسمالية والتبعية. آلية التوسّع الامبريالي تكون عبر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية. علاقة ذلك بزرع “الكيان الصهيوني المصطنع” هي علاقة وثيقة.
فهم ما يجري في لبنان والبلدان العربية وأفاق تطورهما يأتي بهذا الإطار. إطار أزمة تقدم الرأسمالية السريع نحو حدودها التاريخية. على الحركة الشيوعية واليسارية العالمية، وفي إطار فهمها للاشتراكية، تحقيق مصالح الطبقة العاملة والشعوب المضطهدة حول العالم. الماركسية تبقى صحيحة وراهنة إضافة الى الفهم للامبريالية بمستجدات تطوراتها: “الأمولة” والتقدم التكنولوجي الرقمي. هذه الرأسمالية العالمية أدى فيها الرأسمال المالي (الأمولة) الى فصل الرأسمال المالي عن الإنتاج الحقيقي. تعولمت العلاقات الاقتصادية الاجتماعية، ثم الحياة السياسية والروحية. وأسفر التطوّر الرأسمالي المعولم عن نتائج طاولت البنية الطبقية للنظام الرأسمالي، فعولمة للقوى المنتجة، وعولمة للعلاقات الاقتصادية الاجتماعية؛ وأنتجت تحولات البنية الطبقية المعاصرة نتائج طالت البنية الطبقية للنظام الرأسمالي ككل، ولكل بلد من بلدانه. وسط اكتساب تناقضاته طابعاً عالمياً.
في أخر هذا الفصل عن التبعية بعض التشكيك بصحة هذه النظرية. وقبلها حديث عن دول صاعدة بعد التبعية. “ظاهرة الدول الصاعدة” (الصين وروسيا والبرازيل والهند) إضافة الى دول أقل تأثيراً، تضم المكسيك، وأندونيسيا، وجنوب أفريقيا، وايران، وتركيا. لا يدري القارىء ما الفرق بين “الدول الصاعدة” و”الدول الأقل تأثيرا”. لكن الصورة التي تقدم إليه عن العالم ونظرية التبعية تهتز، خاصة عندما يمر النص بتركيز معتاد على تناقضات وأزمة الرأسمالية المعولمة وعدم قدرتها على إدارة تناقضاتها، بالأحرى عجزها عن إدارة العالم. وصفة الحرب وضرورتها للرأسمالية لإحكام قبضتها على العالم تشي بأن البشرية غير قابلة للاحتواء في نظام اقتصادي (سلمي) يكون فيه الخضوع (التبعية) طوعاً أو بالانهيار بنمط العيش في ظل الرأسمالية. على كل حال، تهتز الصورة أكثر فأكثر عندما تختلط الرغبات بالتشخيص الموضوعي. أي عندما يطالب النص الدول “الصاعدة” و”الأقل تأثيراً” بفعل كذا وكذا كاجراءات تضامنية في مواجهة الامبريالية. يراد تعديل صورة العالم بإضافة تصورات عن العالم أو مطالب ورغبات، بحيث لا تستقيم صورة هذا العالم في الوعي دون إضافات من الذات المناضلة.
من خلال هذه الصورة عن العالم بين رأسمالية امبريالية يهيمن فيها رأسمال (الأمولة)، تظهر صورة حركة التحرر الوطني العربية بين الأزمة والتجديد. إن معظم البلدان التابعة أو المستتبعة، منها الصاعدة، كانت حتى وقت قريب محكومة بالاستعمار الذي معظمه احتلال مباشر أو غير مباشر، وبعضه بالخضوع للهيمنة. بعد الحرب العالمية الثانية ضعف الاستعمار وجاء دعم الاتحاد السوفياتي لحركات التحرر الوطني التي حققت الاستقلال في هذه البلدان. تحقيق الاستقلال جاء مع التبعية للمراكز الرأسمالية. هل غيّر الاستقلال شيئاً في هذه البلدان؟ وهل كان نعمة حلت على هذه البلدان؟ أم أن هذه البلدان انتهجت طريقاً جعل التبعية عملية مستمرة؟ هل كان الاستقلال كذباً وتدليساً أم كان حقيقياً على الصعيد السياسي، ولم يستطع أن يتحقق على الصعيدين الثقافي والاقتصادي؟ بقيت هذه البلدان ضعيفة عسكرياً، وبقيت الثقافة ملتبسة بين نخب تربّت على يد الاستعمار السابق ومجتمعها الذي بقي تقليديا مع اضطراره لاستخدام تقنيات حديثة في بعض القطاعات. الانفصال بين النخب الحديثة، وهي في معظمها ليبرالية، وبين أكثرية المجتمع كان شرخا عميقاً استطاع من خلاله العسكر التسلل الى السلطة. العسكر مؤسسة حديثة على قدر كبير من الضعف. ما استطاع العسكر الحكم إلا بالاعتماد على دعم خارجي من هذا المعسكر أو ذاك. مع الدعم الخارجي استطاع العسكر تدجين مجتمعهم وقمعه. هي حداثة من نوع آخر حكمت وكان حكمها على الصعيد الثقافي ثم الاقتصادي قشرة رقيقة، وغلفت مجتمعاً متأخراً. التأخّر جرّ الى التخلف واتساع الهوة بين المجتمعات المتقدمة والمتأخرة. لم يكن التخلّف حصيلة سيطرة خارجية. وهذه كانت موجودة بالفعل. لكن السيطرة من الخارج ما كان لها أن تستمر لولا الاستبداد. وهو يعتمد على العسكر، وإن كان على رأسه حاكماً مدنياً، أو إذا كان هناك انتخابات ديمقراطية. يمكن للديمقراطية أن تكون نظاماً للاستبداد أو للحرية. هتلر وموسوليني وصلا للسلطة بالانتخابات. هذا إذا لم نتكلم عن الأنظمة العربية وعن غيرها من بلدان أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، التي شاع فيها الاستبداد بحكومات عسكرية انتخبت بعدها بالديمقراطية (الانتخابات المزورة).
الأهم هو أن التحرر الوطني وجه آخر للتبعية. كلاهما على علاقة مع الخارج. كلاهما يقدم موارد البلاد للخارج طوعاً أو قسراً. كلاهما يعتبر أن الناس بحاجة لمن “يرشدهم” أو يقودهم على طريق الفهم والتقدم والحضارة. التحرر الوطني يحرر الوطن ويستبدل سلطة المستعمر ونهبه بسلطة “قائد” حرب التحرر الوطني الملهم، الذي يبقي البلد المحرر بعد الاستقلال على حالة تعبئة عامة واقتصاد بالأمر وعزلة ثقافية لا تعترف بثقافة المستعمر الامبريالية. يبقي المجتمع على حالة من الاستنقاع الثقافي. التحرر الوطني عقبة في وجه الحرية، وهي المطلب الأساسي وشرط التحرر الوطني دون تبعية. في معظم الحالات يستمر الاستتباع عن طريق التحرر الوطني، إن لم يتزامن التحرر الوطني منذ اللحظة الأولى مع الحرية. ليست الحرية مرحلة ما بعد التحرر الوطني. غالبا ما يؤدي التحرر الوطني الى فقدان الحريات بحجة أن الوطن يتعرّض لمؤامرات خارجية. مواجهة حقيقية بنظرنا للتبعية والاستعمار تكون بالحرية الفردية، لا بالتحرر الوطني فقط. تُستلب الحرية في الداخل عن طريق حكم الاستبداد السياسي أو الاستبداد الديني (سيطرة المجتمع على الفرد). وغالباً ما يتحالفان أو يتنازعان على السلطة؛ والأمر سيان. التحرر الوطني يكون استبداداً إذا لم يقد مباشرةً الى الحريات الفردية واحترام القانون والدستور. وغالبا ما يطلب “محررو” الوطن من الناس التضحية بحرياتهم في سبيل عيش أفضل بعد هزيمة المؤامرات الخارجية. وغالباً ما يخسر الناس الإثنين معاً. ليس غريباً أن يخسر لبنان الحريات الفردية، وينهار الاقتصاد، وتصادر ودائع الناس بعد انتصار التحرر الوطني في أعقاب تحرير الجنوب. جعلوا القضية اعلى من الوجود، وغاية له. وبرروا الفساد واستلاب الحريات باسم محاربة الفساد، واعتبار الحرية إلحاقا بقضية المقدس تحت مسمى “الوفاء للمقاومة”، بدل أن تكون المقاومة وفاءً للناس. الثورة العربية لعام 2011 كانت ضد أنظمة التحرر الوطني، وبعضها اتخذ لقب الممانعة. ثورة 17 تشرين الأوّل 2019، كانت ضد التحرر الوطني أيضاً. التحرر الوطني ليس طريقاً الى الاشتراكية. ما قاله تقرير المؤتمر الوطني الثاني عشر للحزب الشيوعي اللبناني هو نوع من الخطأ أثبتته التجارب الواقعية في بلدان آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. هو وهم ما زلنا نكرره منذ استقلالات بلادنا، كما نكرر كل شيء آخر من تاريخنا القديم والحديث. طريق التحرر الوطني تقود الى شيء آخر هو الأصولية الدينية (أو غير الدينية).
إن ترادف تعبير التبعية مع التحرر الوطني يعني فيما يعنيه وضع جدار عزل دون الثقافة الغربية. ثقافة العصر. هي ثقافة العصر خاصة في عالم معوّلم تحكمه رأسمالية مالية. وصول الحداثة الى نخبة من الناس وغرق البقية في التقليد هو من سمات هذه العولمة. لكن التمسّك بالتراث والأصالة في وجه الغزو الثقافي، وفي وجه الثقافة الغربية، وهي عالمية تفرض نفسها على العالم، أمر يقود الى أصولية دينية، إذ تختصر المجتمع الى الدين، والدين الى التراث، والتراث الى الأصولية، والأصولية الى سلفية. الأصولية الدينية والسلفية المدعومة في جميع مناحي المجتمع تحوّل مزاج الناس الى ما هو ديني ثم الى ما هو أصولي. ومن هنا تنبت القاعدة وأخواتها.
إن المسألة لا تتعلّق بادعاء إسلام صحيح وآخر متطرّف، بل الأمر يتعلّق باتساع الجنوح الى الدين والأخذ بمقولات الانعزال عن الثقافة العالمية المستمدة من مفهومي التبعية، إذ فيهما بذور الأصولية التي تجد أرضاً خصبة في تراب المجتمع، خاصة مع توالي الهزائم وحاجة الناس الى الاحتماء النفسي بالدين لمواجهة ما يسمى الغزو الثقافي. ليس صدفة إضافة تعبير “الله أكبر” الى العلم العراقي في زمن صدام حسين. المسألة ليست نظرية في التبعية مع تثبيت مقولة التحرر الوطني وحسب. إنها أيضاً مسألة الوعي والثقافة وجدران العزل بيننا وبين الثقافة العالمية، والتقوقع حول ثقافتنا الموروثة، ورفع تراثنا الى مستوى القداسة، بدل أن نجعل منه تاريخاً ونخضعه لمناهج النقد والتقييم. ذلك لا يتأتى إلا بالخروج من هذا التراث كي نستطيع نقده وتقييمه، والخروج من الماضي والسكن في الماضي، الى صنع التاريخ وولوج طريق التقدم. على أساس ذلك لا يكون النقد الثقافي كما الاقتصادي والسياسي خروجاً على الماركسية بل تطويراً لها. مراكمة فكرية على ما هو متاح، من أجل فكر يتجاوز الحاضر، ويطلّق الماضي، ويصنع المستقبل.
حركة التحرر الوطني العربية سوف تقترن بعدم الحرية منذ البداية، مع انعدام الحرية الفردية. وسيؤول الأمر الى الاستبداد والحكم العسكري والمخابراتي. وهذا سيؤدي بدوره الى التنافس، في غالب الأحيان، أو التحالف مع القوى الدينية الأصولية. وإذا ظهر الخلاف بينهما سيكون ذلك نزاعاً على السلطة. تتحوّل السلطة الى دولة عندما تترسّخ قيم الحرية، أي عندما يقرر الفرد رأيه على أساس ضميره، لا على أساس ما يُملى عليه، وعندما يتمتّع بحرية الرأي لا بحرية إبداء الرأي وحسب. بالرأي الحر يشارك الفرد في السياسة. تتحوّل الجماعة الى مجتمع سياسي، وتتشكّل الدولة من أفراد. وهي لا تتشكّل إلا من أفراد أحرار يشاركون في أمور الدولة وسياساتها. يتجاوزون كونهم رعايا. يتحولون الى مواطنين في دولة. تصير الدولة وعاءً لهم. تتجاوز كونها مفروضة من الخارج، سواءً كان هذا الخارج استعماراً أو حكماً داخلياً استبدادياً. الاستبداد، حتى الذي جاء في أعقاب أو في أحضان التحرر الوطني، لا يكون إلا تابعاً للخارج، سواءً كان الخارج شرقاً أسيويا أو روسياً أو غربياً؛ علما أن الصين وروسيا وغيرهما هي أيضاً رأسمالية كالامبراطورية الأميركية أو أذرعها في اوروبا.
إن التحرر الوطني يعني تحرر الجماعة أو المجتمع، أما الحرية فهي تحرر من تسلط المجتمع الى الفردية والمواطنية. التحرر الوطني يقود الى تعبئة المجتمع في وجه الخارج. وأن يكون ذلك بزعامة أبطال التحرر أو زبانيتهم بعد إبعاد الأبطال الحقيقيين أو قتلهم. التعبئة ضد الخارج اقتصاديا وثقافيا وسياسيا حجة الطاغية لتجديد حكمه وتأبيده، ونجاحه في “الانتخابات” الديمقراطية، واحدة بعد أخرى. الديمقراطية أيضاً تقود الى الاستبداد. نقيضها هي السياسة حين تكون مجالاً مفتوحاً للجميع، حيث الفاعل الاجتماعي هو الفرد لا المجتمع الديني؛ الفرد المواطن لا مجتمع الرعايا. والسياسة الحقة لا تمارس إلا في مجتمع مفتوح. ليس بالضرورة ليبرالياً بل مفتوحا على النقاش والسؤال والمساءلة والشك بكل ما يعتبر بديهياً، ونزع القداسة عن الذين اكتسبوها بفعل زعامتهم، والخروج من الاختناق بين الحلال والحرام مع إهمال المباح والمستحب والمكروه. الخلط بين نظرية رفض التبعية وبين نظرية التحرر الوطني يؤدي الى أصولية من نوع آخر.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق