الحرية.. والهوية
الحرية أن تكون أنت ولا أنت في وقت واحد. اللا أنت هو ما سوف تصير إليه؛ أن يكون التغيير جزءاً من هويتك، وأن تتجدد هويتك حسب ما تكتشفه من معرفة وما ينغرز فيك من وعي متجدد وعقل ينفلت من عقاله.
الهوية ليست مجرد معطى. ليست التراث الذي يتسلل إليك مع التربية في العائلة والمدرسة، بل هي ما تقرره أنت بفعل إرادتك على أساس المعرفة الجديدة التي تكتسبها بالممارسة. الهوية المعطاة “هبة” مفروضة من السلطة كي تبقى مرتهناً لها. من يقبض على هويتك يسيطر عليك. إغراق ذهنك بالمعلومات جزءاً من عمل السلطة. ترى التلفزيون على مدار الساعة. وغير المتحدث في الصورة، شريط أخباري فوق شريط. تشتيت الذهن بتدفق المعلومات وسيلة للتعمية، كي يختلط عليك الواقع وتغيب عنك الحقيقة، حقيقة ما يجري، وتعود جاهلاً لبواطن الأمور، غير مدرك إلا بعض الظواهر التي تقدم إليك، بينما الحقيقة تطبخ في أماكن محصورة لدى السلطة في بلدك وفي العالم.
معرفة حقيقة الرأسمالية، عندما تُعمم، وعندما تكتشفها العامة، كفيلة وحدها بإسقاط النظام الرأسمالي. احتكار المعرفة سبيل الى مصادرتها لدى نخبة تجيّر نفسها للسلطة. احتكار التعليم الجامعي، أو التمييز بين جامعات نخبوية وأخرى “عادية” أو ذات مستوى أقل جودة، يؤدي الى كفاءوية، يصطفي بحسبها النظام الطبقي ذوي الكفاءات العليا والأكثر ذكاءً (؟) لإلحاقهم بمراكز البحوث، وهذه تقتصر على نخبة النخبة. مراكز البحوث ودبابات التفكير هي أوعية لفبركة ايديولوجيا السلطة وإعادة تصنيعها بما يتناسب مع متطلباتها، بينما الجامعات غير النخبوية متروكة للعامة أو لعامة النخبة. فالنخب درجات، وما هو في المستوى الأعلى يستخدم لتجديد الدم الذي يسري في عروق النظام الرأسمالي. ما يجري في الجامعات يسري على المدارس الثانوية والابتدائية. كل نظام هو بحاجة الى نخب ثقافية، بالأحرى الى نخبة عارفة تحتكر ما لديها، وتضع ذلك في تصرف السلطة الطبقية.
عند كل منعطف ثوري، يجري التشكيك “بالنخب” الفكرية. هو من ناحية تشكيك السلطة بالنخب الفكرية غير الخاضعة لها. وهو من ناحية أخرى تبرئة الأنظمة نفسها من وزر ما تفعله بمجتمعها. ليس أسخف من تساؤل الموالين للسلطة وأحزابها عن تقصير النخب الفكرية في إيجاد أو صياغة برنامج لثورة ما أو حتى للنظام نفسه. أنظمة القمع وأحزاب السلطة تفعل بالمفكرين الأحرار ما تفعله من ملاحقة وسجن وتعذيب واغتيال، ثم تلقي اللوم على المثقفين بتهمة التقصير. لا يُعقل أن يسجن أحدهم خمس سنوات بتهمة “إهانة الشعور القومي”. لا يدان المثقفون على فكرهم وحسب بل على مشاعرهم أيضاً.
الثورة.. والثورة المضادة
يطفح الكيل لدى الناس. تحدث الثورة. ليس مهماً أن تنجح أو تفشل. هي بالأساس عمل تلقائي فوري. ليس همّ أصحابه النجاح أو الفشل، وإن كانت لهم تصورات حول المستقبل لا يستطيع أحد التعبير عنها. لا تُصاغ الثورة في برنامج عمل. هذا مطلوب من الثورة المضادة. هي في السلطة ولديها فرق العمل من مستشارين وخبراء. إن كانت الثورة المضادة جدية في ما تقوله عن الثورة، فعليها يقع عاتق وضع برنامج العمل، الذي يستجيب أو لا يستجيب لمطالب الثورة. أن ينتظر الثوار برنامج عمل من قادتهم فهذا أمر مستحيل. كل ما يستطيعون ترقبه من جماعتهم هو الشعارات. وهذه أيضاً معبرة وشديدة الإيحاء عن مطالب الناس. ما يستطيع الناس توقعه وترقبه هو أن يكون لدى الثورة المضادة برنامج عمل، لسبب بسيط جداً، هو أن الوسائل لديها، والنخب عندها، ومطالب الناس أمامها. ترفض الثورة المضادة ذلك عادة، بسبب استكبار قادتها واستعلائهم على الناس. سلطتهم مبررة تاريخياً وسماوياً، فكيف يجرؤ أوباش الثورة على مناقضتهم؛ لا ينتظر من سلطات الاستبداد إلا الاستعلاء على الناس؛ المؤسسات الدينية تشاركهم في هذا الاستعلاء وتتحالف مع السلطة، حتى لو كانت علمانية كما تدعي، للخلاص من الثورة وأهلها. الثورة حدث لحظة. الثورة المضادة استمرار للسلطة. طبيعي أن تنتصر الثورة المضادة. لكن طريق الثورة، وإن انهزمت، وهي تنهزم حكماً بسبب موازين القوة، هي مسار مستمر، وإن كان متقطعاً. الحاكم الحصيف يعرف ذلك. يقدم التنازلات عاجلاً أو آجلاً. ومن لا يتعظ يُغرق بلاده في حرب أهلية. وما أكثر الحروب الأهلية في بلادنا العربية. لكنها دليل على فشل الأنظمة.
إذا نجحت الثورة المضادة، فلا يكون ذلك إلا مؤقتاً. تستطيع الثورة أن تفشل عدة مرات، ولا يستطيع النظام أن يسقط إلا مرة واحدة. الثورة حدث، غضب، زلزال، يحدث لحظة ويخبو، لكنه يعيد الظهور للحظات متقطعة. أنظمة لا تتعلّم إلا من أربابها أسياد الامبريالية. فهؤلاء لا يفهمون شعوبنا، ولا يقرون بحقيقة القومية العربية، وهي ليست أمراً خاضعاً للتحليل والمحاججة؛ القومية العربية هي رفض الخضوع والاستسلام. فيأتينا شرق أو غرب يريد تمديننا، كما ادعت سلطات الانتداب. ما لدينا من عراقة كفيل بأن يكون دافعاً للمدافعة، ولعدم القبول بشروط الامبريالية. شعوب تعرف أنها خاسرة في كل معركة تخوضها، لكنها ان ربحت في معركة واحدة، فهي تسقط الاستعمار. وشعوبنا تدرك أيضاً أن النصر النهائي لا يكون في معركة قتالية بل في تطوّر المجتمع ليكون نصره دائماً.
حققنا انتصارات كثيرة وتراجع وضعنا بعدها. الضعف الاجتماعي هو جوهر كل خسارة. الاستبداد مهمته بناء النظام السياسي، أي نظام القمع والاستبداد. مهمتنا هي إعادة تشكيل المجتمع كي تكون ثورتنا مستدامة، لا بمعنى أن تكون دائمة على الطريقة التروتسكية، بل مستدامة بمعنى أن تحل بذور الحياة في مجتمعنا. بذور الحياة ما بعد الثورة هي العمل والإنتاج لبناء مجتمع متماسك. الحرية هي في العمل. تتأكّد في الإنتاج. تستمر بتماسك المجتمع. تعابير مختلفة عن شيء واحد هو الزخم والعزيمة في المجتمع. هذا لا يتأتّى من خطابات الكلامولوجيا، بل من سلطات تعتبر نفسها والناس شيئاً واحداً. سلطات متواضعة لا تتعالى على الناس اجتماعياً أو سياسياً أو أخلاقياً. سلطات تصعد الى الشارع ولا تنزل إليه. سلطات لا تهتم بشكلانية الخطاب بل بمحتواه. تبتهج لأن ترى الناس يصفقون لأنفسهم لا لزعيم عندما يسمعونه يخطب. جمهور لا يهتف “بالروح نفدي الزعيم”، ولا يرفع شعار الوفاء للقيادة حتى ولو كانت مقاومة، بل شعار وفاء المقاومة للشعب. لا ينتظر أهل الثورة أن يكون الشعب وفياً لهم. يتوقعون أن تكون القيادة والمقاومة وفية لهم. كل مقاومة إنتقائية في معاركها. الشعب في مقاومته هو كلي الجهد والمعارضة والرفض. المقاومة المنتظمة لا تفهم شعبها. الشعب الرافض يفهم مقاومته. يرفض الخضوع والخنوع سواء لاستعمار في الخارج أو استبداد في الداخل.
الحرية كائنة في حنايا كل منا. الرغبة في أن نكون نحن. الرغبة في أن نتغيّر لا لنصبح أسياداً، ولا ليصبح بعضنا أسياداً، بل لنصير جميعاً سواسية في المجتمع وأمام القانون والدستور. ولنصير جميعاً مشاركين في الدولة والنظام، ولنصير جميعاً أصحاب قرار ومواطنين لا رعايا.
الثورة.. والحرية
تُبنى الثورة على تمرّد أصحابها. هو تمرّد ليس فقط على أصحاب السلطة. تمرد على ما نحن فيه. تجاوز للتراث. عصيان على سلطات الاستبداد. خروج على المجتمع. احتواء للدين. الثورة بعض مظاهر الحرية. الحرية مرجل يغلي في داخل الروح الفردية والمجتمعية. لا ندري متى ينفجر. هي مرجل المعرفة والإرادة والأمل بالمستقبل، والرأي غير المنضبط، والفكر غير الخاضع، والتمرّد الظاهر والخفي. وهذا المرجل لا ينتج إلا بعد أن كان يغلي داخلياً. هو/هي الروح المتوثبة. التي تسأل وترفض الجواب. وتشكك وتنكر اليقين. الحرية روحٌ فوّارة. فورانٌ يتبع فوراناً. غضبٌ يتبع غضباً. تجددٌ يتبع هزيمة. مرة أخرى، يجدر القول إن الثورة تحدث مرات عديدة متقطعة، والنظام لا يستطيع أن ينهزم إلا مرة واحدة، وإلا يكون قد سقط ولا قيامة له بعد ذلك. الأنظمة التي لها قيامة بعد تدخل الخارج لنجدتها، ولا قيامة للأنظمة إلا بدعم خارجي، أو ما يسمى السفارات، تنتج حروباً أهلية. وهذا ما يحدث في بلادنا العربية. تكون قد سقطت معنوياً وإن لم تسقط مادياً. والسقوط المادي يتبع.
أن يكون المرء حراً هو أن يكون رافضاً لما هو عليه. الرفض أو التمرد يحدث في داخل النفس وفي قاع الروح أولاً. يحدث حيث لا يستطيع نظام سياسي استبدادي أو منظومة دينية الدخول. تستطيع كل أجهزة استطلاع الرأي أن تحضّر برامج احصائية لمعرفة رغبات الناس. لكنها لا تستطيع الغوص الى جوانية الناس. الحرية هي في هذه الجوانية وإن فرض نظام الاستبداد السياسي والديني نفسه. لا يخاف نظام الاستبداد من مظاهر المعارضة، فهي على الغالب مجيرة للنظام وإن بتعابير مختلفة عنه. يخاف نظام الاستبداد من جوانية الناس. هناك حيث تسكن الحرية وتستعد للظهور في كل لحظة.
الحرية لا تكون إلا جوانية. تختبىء وراء المظاهر. تبقى جاهزة مستنفرة. مستعدة للانفجار في أي لحظة. ما لدى الناس من معرفة، ومشاعر، ورفض، وتمرّد، وشك بالمعرفة السائدة، وسخرية من الآراء المفروضة، وهزء بالموروث من العلم، وترحيب بالجديد من العلم، واحترام للبدع والإبداع، الخ..، كل ذلك يجعل الثورة في أمر الراهن كل يوم. جاهزة للانفجار وحدوث الزلزال. لذلك يخاف أصحاب الاستبداد لا من ظواهر الأمور بل من بواطنها. بواطن النفس. بواطن الروح. الروح الجماعية التي ما إن تبدأ بالاشتعال حتى يعم الغضب جميع أرجاء المجتمع.
تنشر بالتزامن مع موقع 180