طلال سلمان

الحب في غير وقته

قضينا المرحلة الجامعية معا. كنا جيرانا في الحي وأصحابا بالضرورة فأمه وأمي شريكتان في جهد تطوعي بحينا والحي المجاور. افترقنا بعد الجامعة المصرية، هو إلى جامعة أخرى وأنا إلى جامعة ثالثة. رحلنا في وقت واحد لمزيد من التحصيل العلمي. تباعدت بنا المسافات والسنون وذات يوم بلغت فيه من العمر ما يستحق الاحتفال تلقيت من صاحبي وجار طفولتي رسالة مطولة أنقل لكم منها أهم تفاصيلها.

أهنئك يا صديقي بالعمر الذي بلغت وحققت فيه إنجازات علمية وفيرة.  نستطيع الآن أنت وأنا أن نفخر بما فعلنا وبالقرار الواعي الذي اتخذناه بالرحيل عن الوطن لنحصل على ما لم يكن ممكنا الحصول عليه لو تفرغنا لوظيفة حكومية أو أخرى واكتفينا هناء ودفئا بأحضان الوالدتين. نعم افتقدنا هذا النوع الفريد من الأحضان، نوع لم تعوضنا عنه الأنواع الأخرى رغم غزارتها وتنوعها. عند الحديث عن الأحضان أريد أن أكتب لك بعضا يسيرا من كثير لم أبح به لك طيلة سنوات افتراقنا.

تبدأ الرواية برسالة تلقيتها بعد أيام قليلة من وصولي إلى هذه القرية الجامعية الهادئة. استغربت الرسالة فأنا لم أتصل بأحد من سكان القرية باستثناء مالكة الغرفة التي أقطن فيها في بيت ريفي ورثته السيدة عن زوجها وكان أستاّذا بالجامعة قضى فيها مع زوجته كل سنين زواجهما. كانت الرسالة بتوقيع اسم لم أتعرف على صاحبته للتو فزادت الدهشة مختلطة بالفضول. عدت بلهفة قوية إلى مقدمة الرسالة عسى أن أجد هناك ما يروي الشغف.

كانت الرسالة موجزة وجافة وباللغة الإنجليزية ترجمتها كالتالي: الأستاذ فلان. سمعنا عن وصولك وقرأنا في صحيفة الجامعة خلاصة سيرتك الذاتية ووفقا لعادتنا يسعدنا نحن بنات وأبناء أعضاء هيئة التدريس ومجلس الأمناء دعوتك لحفل راقص وعشاء يقام على شرفك بغية تعريفك كقادم جديد ببعض من هم في جيلك ويشاركونك  بعض اهتماماتك. تصلك غدا معلومات عن موعد الحفل ومكانه.

في اليوم التالي خرجت في جولة أتعرف من خلالها على أهم معالم القرية. مررت على موقف لسيارات الأجرة اصطفت فيه سيارتان. اقتربت منهما. خرج من إحداهما رجل في عمر متقدم يعرض أن يأخّذني بسيارته لنصعد معا الجبل الشامخ الذي يطل على القرية بحنان كهل يطل على أحفاده، طلة تكاد تحتضن القرية بكل أحيائها. اعتذرت للرجل بأنني جديد على القرية وأرغب في التعرف عليها وسوف أبدأ من عاليها وفي نيتي أن استقل المركبة الطائرة في صعودي وأعود مشيا على القدمين. وبالفعل تركته شاكرا وبناء على إرشاداته توجهت إلي محطة “التليفريك”. هناك في المحطة وقفت إلى جانبي في انتظار العربة سيدة في منتصف العمر سارعت بسؤالي إن كنت غريبا. استغربت السؤال فلم يختلف ملبسي عن ملابس غيري من شبان القرية كما أن لون بشرتي لا يشي بغربة. تبادلنا المعلومات. عرفت منها أنها ممرضة في مستشفى الجامعة القائم على نهاية الطريق الصاعد إلى قمة الجبل، وعرفت مني أنني عينت حديثا محاضرا في إحدى كليات الجامعة وعند أي عائلة أقيم وأنني دعيت لحفل يقيمه الشباب على شرفي. عرفت منها أن صاحبة الدعوة للحفل تنتمي لعائلة معروفة، بل هي العائلة التي ساهمت في تأسيس الجامعة، وأنها واحدة من أجمل فتيات القرية وأوفرهن نشاطا في خدمة المجتمع. تواصل حديثنا في العربة التي نقلتنا في رحلة بين القمم حتى وصلنا إلى محطة نهاية الخط عند سفح المستشفى. قضيت الصباح أتجول معجبا بالمكان والناس والبيوت المتناثرة بألوانها الهادئة في بطون الجبال المحيطة بالقرية.

عدت مع الظهيرة إلى القرية. مشيت في اتجاه وسط القرية. هناك قررت بناء على توصية من صاحبة السكن يعززها رأي سيدة التيلفريك أن أتناول وجبة غذائي في مقهى تشرف على إدارته وعلى مطبخه عائلة هندية. انتهيت من تناول الطعام وطلبت القهوة وبدأت في إشعال سيجارتي عندما سمعت صوتا يغرد على مقربة حميمة من أذني مستأذنا لاقتحام خلوتي. رفعت رأسي من صفحة في دورية أسبوعية كدت أبدأ في قراءتها لأرى إلى جانبي فتاة فارعة الطول. تأهبت للنهوض من مقعدي لأداء فرض التحية فإذا بها تمد يدا تربت بها على كتفي وتضغط بما يقترب من الإيحاء بأن لا أتحرك، وفي اللحظة نفسها مدت يدا أخرى إلى المقعد المقابل لمقعدي تسحبه وتعده لتجلس عليه. لم تنتظر دعوتي لها بالجلوس بل جلست بعد أن قدمت نفسها “أنا صاحبة رسالة الدعوة. عرفت من صديقة تعمل بالمستشفى أنك قد تأتي إلى هنا لتناول الطعام. أعرف أيضا أنك من مصر حيث أنهيت دراستك الجامعية وفترة في الدراسات العليا وأنك حصلت على منحة من جامعة في أمريكا ومنها حصلت على الدكتوراه وما زلت في الخامسة والعشرين من عمرك. أنت الآن أصغر محاضر في جامعتنا وعديد الشباب في الجامعة يتطلعون للتعرف عليك وتسهيل إقامتك بيننا. أردت أن أكون أول من يعرض عليك خدماته.  أتمنى أن تقبلني مساعدة لك إلى حين يستقر بك المقام في قريتنا وجامعتنا”. لا أعتقد أنها انتظرت أن أجيب. واليوم وأنا أكتب لك أظن أنه لم يخطر على بالي أن أجيب أو أنها سوف تسمح لي بأن أجيب.

استدرت لأنادي على النادل عساها تنشغل به فأجد فسحة من الوقت أفكر في إجابة مناسبة. عدت من الاستدارة لأراها تنظر نحو النادل نظرة تحمل تعليمات. سألتها إن كانت تشرب الشاي كعادة أهل القرية في مثل هذه الساعة، أجاب النادل عنها، “السيدة لا تشرب سوى الماء الطبيعي، وبعد إذنك سوف أحضره لها”. أما هي فوضعت يدها فوق يدي وقالت “أراك محرجا. أرجوك تخلع هذا الحرج. ستكون أولى مهامي عندك أن أساعدك في هذا الأمر. اشرب قهوتك واستعد للخروج. سوف أكون مرشدتك السياحية لهذه المدة القصيرة في هذه القرية الصغيرة. خلال رحلتنا بسيارتي المتواضعة سوف أدلك على معالم القرية وأطلعك على أسرارها، وفي نهاية الرحلة آخذك إلى خزانة أسراري ولكني أحذرك بأنني لن أسمح لك بفتحها والاطلاع على ما في داخلها إلا إذا تأكدت من أنك رفعت الحرج وزال الخجل”.

صديقي، هل ما زلت معي؟ إذا فلتنتبه إلى الآتي. قلت لها وكنا في السيارة هي تقود وتتكلم وأنا أركز على تفاصيل وجهها الممتزجة أحيانا بخصلات شعرها المائجة بفعل الريح المندفعة من فتحات الشباك المجاور لمقعدها. لم أعرض عليها الاعتماد على الشباك المجاور لمقعدي إن فتحناه. ترددت فالهواء العاصف كان سيحرمني من صوتها، فالصوت كما سبق وأدركت كاشف جيد للشخصية تتبدل موجاته مع تبدل أحاسيس المتكلم وأهوائه. لن أستطيع أن أنقل لك كل أبعاد اللحظة التي عشتها حين مدت يدها لتمسك بيدي وتحنو عليها بضغطة خفيفة ولكن فاعلة. كانت تقول بهذه الضغطة، “أنا أقدر اهتمامك بتفاصيل وجهي ورقبتي وبعض جسدي وأقدر حرارة وصدق مشاعرك وتفاعلاتها وأنا أتكلم. كدت أطلب منك أن توفر بعض هذه المشاعر للحظات أو لأيام أخرى قادمة”.  بدا لي، يا صديقي، أنها تخشي أن أستهلك طاقة الإعجاب قبل أوانها. من ناحيتي كدت من فرط حرجي أجاهر بالقول أنا لست واحدا من رجال يخرون صرعى أمام أول بسمة تعاطف أو أول لمسة يد. منعني عن الجهر بهذا التصريح خشيتي من أن أكون ظهرت أمامها بالفعل كواحد من هؤلاء الكثيرين. ألم أتصرف طوال لقائنا الأول تصرف المنبهر والمستسلم في مواجهة جمال أخاذ وذكاء ناعم كالحرير وجاذبية نادرة في نطق الحروف واختيار الكلمات. أنا نفسي تساءلت ساكتا أليس لي حق أن أجزع أن يكون كل ما رأيت وسمعت بعد ظهر اليوم معدا ومدروسا بعناية؟. درايتي بالنساء ليست بسيطة. أدري مثلا أن المرأة عادة، حتى وإن أحبت، لا تكشف عن كل ما في عقلها وفي قلبها في مرة واحدة وبالتأكيد ليس في أول مرة. الرجل على العكس بسبب ندرة صبره وتضخم ذاته مستعد في أي وقت وفي كل وقت لإفشاء كل أو أغلب ما ائتمنه عليه قلبه وعقله. تعرفني يا صديقي أنا لست هذا الرجل ولن أكون. ولكني أعترف لك أن بعض انفعالاتي الداخلية يمكن أن تخون طباعي فتنعكس على قسماتي الخارجية. فجأة وجدتني أحاول الهرب. وجدتني أطلب منها أن تذهب بي في اتجاه البيت الذي أقيم فيه متذرعا بالتعب فجاء ردها مرطبا ومهدئا، قالت “طلبت منك في بداية المشوار أن ترفع الحرج وتعزل الخجل. عرفت طباعك وطريقة تفكيرك ومستقبل علاقتنا في اللحظة التي مددت فيها يدي أربت بها على كتفك وأمسح بها العرق من على جبهتك”.

ما إن دخلت غرفة نومي حتى ألقيت بنفسي على الفراش مرهقا. لم أكن أعرف أن العاطفة ترهق إن جاءت في شكل عاصفة. لم أنم جيدا. قضيت بعض الليل أفكر فيما يخبئه الزمن لي في هذه القرية. جئت إليها متحمسا لأداء واجبات شاقة من أجل وضع أسس مستقبل أكاديمي مبهر فإذا بي وفي أوائل أيامي هنا أجد نفسي على مشارف حياة بمعان مختلفة.

صديقي العزيز. استيقظت مبكرا صباح اليوم التالي وكلي ثقة بضرورة توخي الحذر. أدركت أنني شخص مختلف عن الشخص الذي وصل إلى هذه القرية قبل ساعات معدودة. عرفت أنني لن أتخلى عن هدف تركت بلدي من أجل تحقيقه، عرفت أيضا أنني لن أتخلى عن علاقة أو شراكة عاطفية لاحت لي أولى علاماته. أملي الآن أن يتكاملا: الهدف الذي جئت من أجله والعلاقة التي وجدت من أجلي.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version