منذ أن بدأتُ مطلع الستينات كصحافي متابعة القضايا المصرية ميدانياً أحياناً في القاهرة وصولاً إلى جبهة السويس، ورصداً دائماً دقيقاً من بيروت لما يجري في المحروسة سياسياً وإجتماعياً وفكرياً، وهنالك قضية جوهرية أراها تشغل بال أهل الحُكْم وإلى درجة أن رئيس الدولة شخصياً يتحدث حولها على الملأ خلال إلقاء خطاب في الجماهير، وأحياناً تمتزج عبارات الرئيس النُصحية بالمرارة. فهو من جهة أمامه كرئيس للدولة مسؤولية تأمين الدواء والغذاء والتعليم والنقل والعلاج وخلاف ذلك، وهو من جهة أُخرى يرى هذا الفيض النسلي يربك الخطط الحكومية ويحبط حماسة رئيس الدولة المتطلع إلى تنمية تشمل الإنسان وأرضه. وعلى مدى الثماني والستين سنة من عمر مصر الجمهورية بتنوع حُقبها الرئاسية الأربع كانت مشكلة زيادة النسل بنداً مقلقاً في أجندة أهل الحُكْم. وعند إستحضار ما في الذاكرة وفي الأضابير من مواقف وأقوال لأربعة جنرالات تعاقبوا على رئاسة مصر نلاحظ كيف أن زيادة النسل تصل إلى مرتبة متقدمة في قائمة هموم رئيس الدولة وإهتماماته خصوصاً أنها عصية على الحل حتى إشعار آخر. ثم تميز الرئيس الخامس كونه مدنياً وإخوانياً عن الرؤساء الجنرالات طارحاً رؤية تشجع ضمناً على حيوية زيادة التناسل لزيادة عدد السكان، معتبراً هذه الزيادة “قيمة مضافة تستوجب حُسْن التوجيه على نحو ما يحدث في دول العالم المتقدم”.
لم يضع أول الرؤساء جمال عبد الناصر الإصبع على جُرح هذه المشكلة إلاَّ بعدما وجد على مكتبه، وقد مضى على قيام ثورة يوليو 1952 أقل من سنتيْن، تقريراً أولياً في هذا الشأن، فأطلق في خطاب ألقاه يوم 31 مايو/أيار 1954 أمام الجماهير المبتهجة بثورة 23 يوليو إشارة أولى إلى المعضلة النسلية التي تنتظر مشروعه، وتتمثل في عبارة “ما بين اﻠ 22 مليوناً هناك 18 مليوناً فلاحون يعيشون عيشة الكفاف”. ولأنه يقدِّر حساسية مجتمع الفلاحين من كثرة الولادات كونهم يعتبرون المواليد أناثاً أو ذكوراً نواة مساعدين لهم في الأعمال الزراعية حرثاً وبَذراً وجنْياً، فإنه أرجأ إلى مناسبة أُخرى إطلاق جرس تحذير خفيف الوطأة في هذا الشأن، وكان ذلك بعد بضعة أشهر في خطاب ألقاه يوم 5 يوليو/ تموز 1956 وأورد فيه العبارات الآتية: “إن تعدادنا يزيد كل عام نصف مليون من المواطنين. بعد عشر سنين سنكون 30 مليوناً بدلاً من 22 مليوناً. كل هؤلاء لا يريدون عملاً وأكلاً ودخلاً. فإذا لم نعمل فإن الدخل الموجود سيُقسَّم علينا جميعاً، على الموجودين وعلى الذين سيزيدون عليهم. مستوانا سيهبط. إذاً لا بد من عمل مضاعف لنواجه رفع مستوى معيشتنا والقضاء على الحالة السيئة التي كنا نشكو منها منذ سنين…”.
على رغم محبتهم لرئيسهم إلا أن المصريين وبالذات الشرائح النشيطة في الموضوع النسلي لم يأخذوا بالذي قاله، ثم كان الإنشغال بقضايا سياسية على درجة من التعقيد من بينها الوحدة مع سوريا ثم صدمة الإنفصال والمساندة الحربية للإنقلاب في اليمن على الإمام البدر وإعلان الجمهورية. لكن التقارير في الحالة السكانية المقلقة كانت في إستمرار على مكتبه، ليفاجىء المصريين عام 1965 بتضمين خطاب ألقاه رقماً صاعقاً وهو أن مصر التي كان تعدادها السكاني عشرين مليون نسمة مطلع الخمسينات باتت ثاني أكبر نسبة في العالم من حيث زيادة عدد السكان تتقدم عليها باكستان، وإزاء ذلك إفترض أنه من خلال “إنشاء مجلس أعلى لتنظيم الأُسرة” يمكن الحد من القلق المتزايد.
إستوعبت دول الخليج وليبيا القذافي وعراق صدَّام حسين بضعة ملايين من المصريين. وبطبيعة الحال فإن نسبة التناسل إنحسرت قليلاً. وبعد إضطراب أحوال العراق وليبيا وعودة النسبة الأكبر من هؤلاء الملايين إلى مصر فإن زيادة ملحوظة في التناسل حدثت مع المتزوجين، كما أن غير المتزوجين باتوا وقد حققوا في سنوات غربتهم الخليجية والليبية والعراقية رصيداً مالياً يجعلهم يتزوجون في بلدهم ويصبحون بذلك من ذوي منتجي النسل. وهكذا نشط عدَّاد التناسل وإلى درجة جعلت الرئيس أنور السادات الذي ورث من عهد عبد الناصر تكدساً سكانياً إلى جانب تداعيات حرب 5 يونيو 1967، يفضل سياسة محاصرة التكدس البشري بإنشاء مدن سكنية بادئاً بواحدة لم تكتمل. وكان في صدد المضي في إنجاز رؤيته هذه بعدما حقق النصر النوعي على إسرائيل ومن أجْل ذلك لم يُكثر في الخطب التي كان يلقيها التركيز على ظاهرة حيوية التناسل الأمر الذي لقي من عموم أهل الريف المصري الرضى. ثم يقضي الرئيس السادات مغتالاً وقد وصل عدد السكان إلى 64 مليوناً ليزيد في عهد حسني مبارك كما الحال مع عبد الناصر والسادات طفلاً أو طفلة كل 15 ثانية. ثم يتسلم الرئاسة عبد الفتاح السيسي بعد محمد مرسي، ويسجل العدّاد يوم الثلاثاء 11 فبراير/ شباط المئة مليون الذي كان عندما يخْطر ثلثه في بال عبد الناصر ونصفه من بعده في بال السادات ومبارك ينتاب كل منهم القلق، إذ أن معنى ذلك تأمين مستلزمات العيش الكريم. ومثل هذا الأمر يحتاج إلى المال الوفير والأرض الزراعية وإلى الدواء والمستشفيات ثم التعليم وفرص العمل لاحقاً. والقلق المشار إليه موصول إلى عهد السيسي الذي بدأت في ظل رئاسته المئة مليون الثانية تكتمل كإفتراض مستند إلى المواليد كل عام على مدى سبعين سنة.
لم تُجدِ الخشية الرئاسية من بقاء كفة الرقم المتصاعد للسكان لا تتعادل مع كفة مشاريع التنمية، بل إن الحيوية النسلية تقضم الكثير سنوياً من المشاريع التي تتم تحت وطأة العدد المتزايد للسكان. وبسبب ذلك إنحسرت نسبة ملحوظة من الأرض الزراعية من أجْل بناء مشاريع سكنية بعضها بغرض الإستثمار الذي لا بد منه وبعضها الآخر بغرض تأمين مساكن للملايين الذين لا مساكن لهم وتحويل رؤية الرئيس السيسي في شأن الحياة الكريمة لكل مواطن إلى تنفيذ.
وإزاء ذلك تبقى التوعية الدينية مقرونة بتنشيط التوعية الاجتماعية والتركيز على مخاطر إستنزاف الكثافة السكانية للجهود التنموية، والتسليم برؤى أهل الخبرة والإقتصاد ومنها على سبيل المثال لا الحصر رؤية سبق أن بلورها الدكتور بطرس غالي بعبارة يوم كان إلى جانب السادات “إن المشكة الإقتصادية التي تعيشها مصر هي نتيجة للإكتظاظ السكاني وفقر الموارد الاقتصادية”.
وأما بالنسبة إلى التوعية الدينية فإن التأمل في رؤى عدد من الأزهريين ومن المفكرين المستنيرين من شأنه أن يفيد. وثمة رؤية سبق أن أوجزها المفكر الإسلامي خالد محمد خالد بعبارة “لا أمل لنا مطلقاً في تحسين مستوى المعيشة بيننا ما دامت نسبة المواليد تتزايد تزايداً فاحشاً”. ومن شأن هذه الرؤى جعْل الحالة العسيرة على الحل منذ زمن مصر عبد الناصر ذات العشرين مليوناً وحتى مصر زمن السيسي ذات المئة مليون، لا تبقى بالعسر التي هي عليه والتي لم تنفع فيها الإقتراحات والوصفات الرئاسية.
وهكذا فإن زيادة النسل جزء من إهتمامات مثلث التحرش بأوطان الآخرين ومعطِّيله إستقرارهم (إيران وتركيا وروسيا) وأحد هموم المحروسة مصر التي تسعى إلى أن يسود السلام على أرضها وفي أوطان الدول الشقيقة.