طلال سلمان

الحاضر في ذكرى غيابه: بهجت عثمان.. سلاماً!

لأن “بهاجيجو” حاضر لا يغيب، قررنا استعادته مكتوباً بعدما أخذ ريشته ومضى.

***

كمثل الشعاع الأخير للشمس، كمثل تلاشي الصدى المبهج لضحكة طفل رقراقة الصفاء، كمثل ريشة وصلت بخط الضوء إلى نهاية الشفق فطوت نفسها على فكرتها بصمت جليل يليق بالدعاة والمبشّرين بغد أفضل، كذلك جاء انسحاب بهجت عثمان من الميدان بغير أن يلقي السلاح.

حتى الرمق الأخير، حتى النفس الأخير، حتى الوجع الأخير، ظلت الأحلام تطوف في جنبات الصدر الذي ضاق بقلبه الأوسع من الدنيا… لا، ليست الأحلام بل هي الإرادة على تسليم الراية والأمل للأجيال الجديدة المتروكة في صحراء القهر والهجانة والشعور بالضآلة، وكأنها تأتي من الفراغ وفيه تضيع ومن بعدها يضيع الطريق.

أي بهجت عثمان هو ذلك الذي انسلّ من بيننا ملتحقاً بـ”بدره” التي تجاوزت دور مصدر الإلهام والشجاعة لتكون النور لعينيه والفكرة لريشته، المتكتمة على ضعفه ومباذله، الأم الراعية لأسرته التي بلا حصر ولصداقاته البلا حدود ولرفاق سلاحه تستحضر الغائب وتقيل عثرة الحاضر، تكفكف دموع العشاق وتعطيهم من عمرها حتى إذا ما تلاقوا في جنة حبهم علقت على الباب آية الكرسي ووقفت تحرسهم بالدعاء وتستدرج أطفالهم بالعرائس المغزولة من تمنياتها.

تافهة هي الألقاب والتوصيفات: مَن بهجت عثمان؟! رسام كاريكاتور متقاعد، عاش سنواته الأخيرة في عزلة عن ضوضاء التفاهة، وأخرج نفسه من المطبوعات السياسية التي لم يجد فيها القضية، وتفرّغ لبث الأمل في صدور الأطفال.

حاول، بالحكاية والمشاهدة والتجربة، أن يعرّفهم بغنى أنفسهم، بعظمة بلادهم، بروعة الشعر الذي زهر في صحارى جاهليتهم، بمجد علمائهم الكبار وهم يضيفون إلى الحضارة الإنسانية صفحات من الإنجازات الباهرة.
حاول ونجح في أن يؤسس لحزب الغد.

حتى على فراش مرضه الأخير ظل بهجت عثمان يحاول أن يزرع على طريق الغد ورداً وأملاً وابتسامات ومقاومة لا تلين.

ولقد ذاب جسد بهجت عثمان لأنه لم يكن يحتاج جسده، وشعّت روحه التي ملأت دنيانا فرحاً وتحريضاً على مقاومة القهر والعنت والغلط والتخلي والهرب من الساحة.

هذا الفنان المبدع الذي وُلد في القاهرة وانتشر كالضياء لمدة ستين عاماً من العطاء متعدد المجالات، ظلت روحه دائماً أعظم من ريشته، وظل إيمانه بالإنسان العربي أعمق من أن يتلاشى بالهزائم، بل كان يستولد جبهة جديدة لا يستحيل فيها مباشرة الإعداد للخروج من ليل الهزيمة ولو بعد بعد بعد غد!

هذا “العربي” بامتياز الذي له مريدون “بهجاتيون” في المغرب كما في اليمن، وفي السودان كما في الخليج العربي من الكويت حتى سلطنة عُمان مروراً بالإمارات العربية المتحدة ومطبوعاتها التي أعطى بعضها مبرّر الصدور، ومن موريتانيا إلى العراق، ومن الجزائر إلى سوريا… أما لبنان فكان “مركز الدعوة” ينوب عن القاهرة في حال تغييبها قسراً بالاستسلام إلى الصلح المنفرد، ويكمل الرسالة وينشرها فيعمّمها مبتعداً عن يأس العجائز والمتهالكين إلى الفتية الذين آمنوا مثله بأن لله رجالاً إذا أرادوا أراد.

لم يكن بهجت عثمان قائداً سياسياً، أو قائداً من أي نوع، لكنه ترك أثراً أخطر من مجموع منتحلي صفة “القيادة” في كل “الجاليات العربية” المتبقية جزراً أو محميات قومية في مختلف أنحاء الوطن العربي، تحاول حماية الأمة وقيمها من الاندثار.

وكانت لديه ميزة اكتشاف الصح في بحر من الغلط، في الفن التشكيلي كما في الموسيقى، وفي الكاريكاتور كما في الأدب.

سيفتقد نجيب محفوظ والبقية الباقية من “الحرافيش” بهجت عثمان، مساء الخميس، كما افتقدوا من قبل محمد عفيفي.

وسيفتقد زياد الرحباني الزائر السنوي بهجت، كما سيفتقده عبد الكريم الشعار ونبيه الخطيب و”أبو علي” وريما خشيش.

وسيفتقده جيل من الفتية الذين درّبهم ورعى خطواتهم الأولى في الإبداع الفني، والذين حاول أن يعوّضهم غياب الرواد والاستشهاديين من صلاح جاهين إلى ناجي العلي، مروراً برجائي واللباد وحجازي وجورج وكل من تخرجوا من مدرسة روز اليوسف وإحسان عبد القدوس ودار الهلال في عصر أحمد بهاء الدين.

كما سيفتقده جمهور مكافحة الأمية الفنية والسياسية الذين قاتلوا بالسخرية والتحدي »أمبراطورية بهجاتوس العظمى« وكل أنواع الدكتاتورية في الحكم، وما أكثرها وأعتاها في الوطن العربي.

يا صديق “إبراهيم” و”ألما” و”ورد” وكل الأجيال، يا رفيق كل الناس، يا ناثر الفرح والأمل على الطرقات من “12 ش محمد خيري المتفرع من ميدان الباشا بالمنيل” إلى آخر قارئ على نور شمعة في أعالي الجرود وفي أعماق الصحارى.

بهاجيجو: سلاماً عليك وأنت تغيب فتغدو أكثر حضوراً أيها الذي تسكن صدورنا ومنازلنا ولغتنا اليومية وآمالنا التي سنظل نسعى بعناد المؤمن إلى تحقيقها.

نشرت في “السفير” في 4 حزيران 2001

Exit mobile version