طلال سلمان

»الحادث« دولي و»الخوف« عربي

للوهلة الأولى تبدّى، أمس، وكأن »حزب الله« الذي تعوّد منه الناس الدقة في تحديد الأهداف وفي التوقيت، قد غادر منهجه الصارم الذي ألزم نفسه به طوال سنوات جهاده في قيادة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، فقام برد فعل عصبي على الاعتداء الإسرائيلي الذي اقتحم عليه مربعه الأمني في قلب الضاحية الجنوبية من بيروت فاغتال واحداً من كادراته المميّزين.
وللوهلة الأولى كان رد الفعل الفوري، في الجنوب أساساً، ثم في سائر أنحاء لبنان عصبياً، طرح فيه الناس بحر الحزب أسئلة من نوع: هل تعمّد الحزب أن يتحرّش بإسرائيل، أم أنها بحت مصادفة ولكنها قد تكون مكلفة؟! وهل أعد الحزب نفسه لرد الفعل المحتمل، سياسياً في هذه اللحظة الموصوفة بالتراجعات العربية الموجعة، ومن ثم عسكرياً؟! وبينما قد خسرنا العراق، واشتدت الحملة الأميركية على سوريا بالحصار، وعلى »الأصدقاء القدامى« كالسعودية بالضغط والتشهير، وعلى الخصم الإيراني بالتآمر العلني؟! ثم… هل يتحمّل لبنان 2003، المحرِّر أرضه إلا أقلّها، أن يعود ساحة المواجهة الوحيدة في ظروف قاسية بشروطها الموضوعية؟! هذا مع الأخذ بالاعتبار أن الوطن الصغير يعيش أحوالاً أبأس بما لا يُقاس ممّا كانت عليه حاله في سنوات الجهاد الطويلة من أجل التحرير، سواء منها السياسية أم الاقتصادية وبالتالي الاجتماعية بمختلف تفاصيلها اليومية المنهكة؟!
لقد رأى الناس، المتعبون من ظروفهم الراهنة كما من ذكريات الأيام السوداء، في بضع رصاصات متفجرة تشظّت فوق مستعمرة إسرائيلية قريبة جداً من التخم اللبناني مع فلسطين، إعلاناً بالحرب على إسرائيل، بينما العرب يسعون وراء سراب سلام مفقود، لا تمانع الكثرة من أنظمتهم بتلبية شروطه الإسرائيلية ولو كانت تعني الاستسلام الكامل!
ذلك أن الناس، في لبنان كما في سائر أنحاء الأرض العربية، قد عوّدوا أنفسهم على أن يكونوا هدف الرصاص لا أصحاب المبادرة إلى إطلاقه… فمناخ الهزيمة السائد جعل الجميع يسلّمون بأنهم أهداف محتملة دائماً للرصاص (والقذائف والصواريخ طبعاً) والذي مصدره بالضرورة إسرائيلي أو أميركي بعدما انهمك الاحتلال الأميركي في تحرير العراق… بالديموقراطية!
صار الخوف يغلب على الحق وشرعية الدفاع عن النفس..
وبالتأكيد فإن كثيراً من الناس المسكونين بالخوف لم يتوقفوا طويلاً أمام رواية »حزب الله« للوقائع التي تنفي نيته في استدراج إسرائيل إلى حرب، لا هو يملك القرار فضلاً عن القدرة في شنها، ولا هو يبالغ في قوته إلى حد اعتبار نفسه مؤهلاً بقدراته الذاتية على مواجهتها… فالكل يعرف عن الحزب الدقة في الحساب وفي اختيار التوقيت (والأهداف) بما يخدم الهدف الوطني (اللبناني) مع إمكان استثماره من قبل الضحايا الآخرين للاحتلال الإسرائيلي وبالذات منهم شعب فلسطين، الذي يواجه في هذه الفترة واحدة من أقسى المراحل وأمرّها عبر تاريخ نضاله الطويل لتحرير »بعض« حقوقه في »بعض« أرضه!
لكنه الخوف المربع: الخوف من أن تستفرد إسرائيل لبنان، مرة أخرى، فتدمّر مرافقه الحيوية التي كلفته إعادة بنائها، وما تزال تكلفه الكثير الكثير من غير أن يقدر على استعادتها كما كانت في زمن مضى (خذ الكهرباء مثلاً)…
ثم إنه الخوف من الانقسام الداخلي، الذي يتجلى بشعاً فوق قمة السلطة التي كان الأمل فيها أن ترسخ وحدته، سياسياً، وأن تسرِّع تعافيه اقتصادياً بما يمكن من تفريج الضائقة المعيشية التي تعاني منها أكثرية مواطنيه.
كذلك فهو الخوف من اشتداد الضغوط العربية عليه، وكأنه »يورّطها« في ما لا قدرة لها على رده، بما يزيد من عزلته، ويحرمه من »العون« العربي حتى لو اتخذ شكل قدوم »المصطافين الكرام«… وليست مبالغة أن يقال إن بعض الأخوة العرب الذين جاءوا لبنان للاستجمام والراحة، خلال الشهر الأخير، ربما فكّروا بمغادرته تحسباً من عقاب إسرائيلي شديد قد يعكّر عليهم الصفو الذي جاءوا بطلبه، هرباً من ضغوط المشكلات (السياسية أساساً) في بلادهم التي كانت غنية، والتي صارت ثروتها موضع اتهام جدي من طرف الإدارة الأميركية، يتخذ في بعض الحالات طابع التحريض للشعوب على الأنظمة التي طالما حكمتهم بالاستناد إلى »التحالف« مع الصديق الأميركي الكبير!
وأخيراً فهو الخوف من خسارة »أصدقائنا في العالم«، وفي أوروبا بشكل خاص، والذين طالما تولوا الدفاع عنا ونحن في خانة ضحايا الاعتداءات الإسرائيلية، أما وأن إسرائيل هي »المعتدى عليها«!! فالأمر مختلف جداً!
لقد غدا »الأمن« المطلب الاعز لأي مواطن عربي، وللمواطن في لبنان على وجه الخصوص، لأنه قد عرف بالملموس ماذا يعني غيابه أو اهتزازه!
»الأمن« ولو بشيء من التنازل عن شيء من المبادئ!
يستطيع »الحق« ان ينتظر!. فماذا ان ننتظر سنة إضافية، أو سنوات أخرى، لعل الله سبحانه وتعالى يبدل في خريطة الدنيا وتوازنات القوة فيها…
وهذا المنطق ليس »صناعة لبنانية« بل انه يكاد يكون السائد عربياً: فإذا كان الأمل بمواجهة متكافئة معدوماً فلماذا المقامرة الباهظة الكلفة علينا، وعلى أبنائنا الآتين، الذين قد لا نترك لهم ما يخسرونه إذا ما ثابرنا على اعتماد مثل هذه السياسات التي لا تفيد إلا العدو؟!
ان مثل هذا المنطق يكاد يكون هو الغالب في العراق: »ان مطالبتنا بالمقاومة هي مزايدة رخيصة ستقودنا ان نحن تورطنا فيها إلى تدمير كياننا السياسي ووحدة شعبنا! (يقول كثرة من العراقيين الذين يصعب التشكيك في وطنيتهم).
بل ان مثل هذا المنطق قد اعتمد رسمياً من طرف حكومة محمود عباس في فلسطين. دعونا نكسب الإدارة الأميركية ولو بكثير من التنازلات، لعلنا ننقذ بعض ما تبقى… أما المقاومة المسلحة فقد اودت بنا إلى التهلكة! لقد خسرنا زهرة شبابنا، وخسرنا معظم الأرض التي كان يفترض ان تعطى لنا، وخسرنا الكثير من شرعية سلطتنا الوطنية (دولياً)، فضلاً عن خسارتنا الرأي العام العالمي، وأهم منه اننا خسرنا تعاطف »اليسار« وأنصار السلام في إسرائيل!..

في أي حال فإن المشهد في مجلس الأمن الدولي سيكون كاريكاتورياً، غداً حين يدعى للنظر في شكوى إسرائيل ضد لبنان (ومعه سوريا!!) الذي اعتدى على طائراتها الحربية الاسرع من الصوت والأعلى ارتفاعاً من الغلاف الخارجي
للأرض، بينما كان طياروها يتنزهون كعادتهم كل يوم في سمائه وفوق بحره، يرصدون انفاس الناس وحركة الحياة فيه… ويتأملون جمال القمر.. عن قرب!.
المفارقة ليست في أن تلبس إسرائيل لبوس الضحية والمعتدى عليها، وهي »الدولة« الوحيدة التي يحفظ مجلس الأمن في أدراجه، ذلك الكم الهائل من الشكاوى المقدمة ضدها من دول الجوار الفلسطيني (مصر وسوريا والأردن ولبنان… بغير أن ننسى العراق ومفاعله الذري، وتونس واغتيال القادة الفلسطينيين اللاجئين إليها إلخ) على امتداد تاريخ »إيجادها« بقرار من هذا المجلس وحتى اليوم..
كذلك فإن هذا المجلس يعرف بالدقة أن معظم التوتر الذي يحرم المنطقة العربية من حياة طبيعية، ناتج عن أن قرارات الإدانة الصادرة عن »الشرعية الدولية« ضد اعتداءات إسرائيل المتكررة منذ العام 1948 وحتى اليوم، ذهبت جميعا مع الريح… وكانت كبرى الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن تمنع عنها العقوبة وتجيز لها أن تتمادى باعتداءاتها وان تواصل احتلالها لأراضي »جيرانها« العاجزين عن ردعها بقوة السلاح. (وحتى خروجها من لبنان قد تم بضغط المقاومة وصمود الشعب والدولة في لبنان خلفها وليس تنفيذا لأي قرار من مجلس الأمن..).
ولقد يكون الانشغال الأميركي بالعراق بين الأسباب التي لجمت إسرائيل عن الرد على الرد الذي صدر عن »حزب الله« على طريقة »وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى«.
ولقد يكون بينها أن إسرائيل المشغولة »بتدجين« الفلسطينيين، في ظل تأييد أميركي مطلق تعامى عن »جدار الفصل العنصري« وعن »الاستمرار في مصادرة أراضي الفلسطينيين لإقامة المزيد من المستوطنات، وعن مواصلة سياسة القتل اليومي والاعتقال الكيفي للفتية والرجال والنساء أحيانا… قد سعت بشكواها إلى تحويل الأنظار عن جرائمها اليومية لتبدو ولو مرة في صورة »الضحية«، حتى ولو كان ذلك نتيجة مصادفة قدرية جعلت الرد على عدوانها اليومي مكلفا (نوعا ما) يوم أمس.
ولقد يكون بين الأهداف التكتيكية »محاصرة« سوريا سياسيا وهي تشغل رئاسة مجلس الأمن، وإحراجها لإخراجها، مفترضة أن المندوب السوري الرئيس سيرتبك في مواجهة الشكوى، مما يجعلها تحقق عليه »نصرا بالنقاط« أمام المجتمع الدولي.
لكن ذلك كله لا يبدل من طبيعة الموضوع: إنه »حادث« وليس إعلانا بتجديد الحرب من طرف لبنان، و»حزب الله« على وجه التحديد.
أما من طرف إسرائيل فالحرب مفتوحة ومستمرة ضد لبنان كما ضد سوريا كما ضد مصر، كما ضد السعودية، كما ضد العراق الذي فتحت الإدارة الأميركية أحشاءه أمام الإسرائيليين ليساعدوها على العبث بها… تمهيدا لبناء نمط جديد من الديموقراطية فيه، لم يعرف العالم مثيلا له، وهو نمط معد للتعميم على العرب والمسلمين جميعا.

Exit mobile version