لو أن للفقراء من بسطاء الناس الكادحين من يؤرخ لسيرهم الذاتية، لكان «أبو جهاد» الذي صار حاجاً في شيخوخته، قد غدا علماً وبطلاً لرواية عن مواجهة المستحيل بالإرادة.
في البدء، أراد ابن الدركي أن يكون دركياً، لكن «الواسطة» خذلته، فانتسب إلى الجيش جندياً… وحين انتفض الشعب ضد سياسة الانحراف ومحاولة ربط لبنان بالأحلاف الأجنبية، قرر «توفيق» مع نفر من رفاقه أن ينضموا إلى «الثورة». فلما جاءت «التسوية»، ظل «الثوار» خارجها، وأقصى ما عرض على واحدهم وظيفة حارس بلدي.. فكان طبيعياً أن يرفضوا، بأغلبيتهم، هذا العرض، وأن يعيدوا تأسيس حياتهم بعرق الجباه.
جاب «توفيق سلمان» الآفاق. سافر إلى الكويت فتعلم ومارس مهناً عديدة… وعاد الى موطنه ليبدأ من جديد. تعلم مهناً كثيرة حتى أتقنها، بينما عائلته تتزايد عدداً وأكلافاً، خصوصاً وقد ضم إليها ابن عمه الذي كان قد دهمه اليتم قبل أن يشتد عوده فصار له الأب، وصار في منزلة ابنه. ثم عاد فسافر إلى الخليج مرة أخرى، وبذل من عرق الجبين الكثير الكثير. وحين كبر الأولاد، انتشروا في الأرض حيثما تيسرت لهم فرص الرزق، بينما انطوى على نفسه في سيارة أجرة حتى هدّه التعب، واعتلّت صحته، فعجز عن المشي، لكنه ظل يكافح بسيارته العتيقة، مستعيناً على العجز بدراجة متحركة. وعندما منعه أبناؤه عن العمل، ساءت حالته الصحية أكثر فأكثر، فهو كان يعرف أن البطالة تقرّب منه الموت.
في الحقبة الأخيرة، اهتم بأن يزيد في عمارة البيت الذي أنبت بيوتاً كثيرة بأولاد عديدين وأحفاد أكثر عدداً، تربوا وفي يقينهم أن اليتيم الذي كبر معهم «أحمد علي» هو الشقيق الأكبر، وهو «نائب الملك» في المسؤولية عن «القبيلة».
وحين هدّه المرض، توافد الأبناء من ديار «غربتهم» ليكونوا إلى جانبه يحاولون التخفيف من آلامه، حتى جاءه الأجل وهو غائب تماماً وعلى وجهه طيف ابتسامة: انه لم يوفر جهداً. إنه حاول وجرب ألف مهنة. طارد اللقمة بعرق جبينه، وظل وفياً لما آمن به دائماً: هو مواطن وليس رعية.
وداعاً «أبا جهاد»، الــحاج توفيق، شيخ قبيلة الحارة الفوقا.
طلال سلمان