طلال سلمان

الجمهورية المشروخة!

يفتقد اللبنانيون الأساس السياسي للوفاق الوطني بقدر ما يفتقدون الثمار الاقتصادية والاجتماعية لقيام هذه “الجمهورية” التي لا يعرفون كيف يصنفونها ولا كيف ينتمون إليها.

جمهورية “الزمور” يقول البعض،

فهي قد جاءت بـ “زمور”، وعاشت مذعورة من “زمور”، وكاد يصدعها ويطيح بحكومتها، بعدما أطاح بعيد استقلالها والاستعراض، “زمور” مجرد “زمور”!

ذلك إن الطوائف “تزمر”، ولكل طائفة “زمورها” الخاص، وإذا علا بوق “زمور” على بوق “زمور” آخر كان ذلك إنذاراً بتعمق الشرخ وتزايد الفجوة بين الطوائف!

كذلك فلكل مذهب “زموره”  وإن تعددت النغمات بتعدد “الفعاليات” أو “المرجعيات” أو “القيادات” التي أخذت المذاهب من المسألة إلى الحرب، ثم أعادتها إلى وهدة اليأس بعدما كبدتها أغلى الضحايا وأبهظ الأثمان وأعز الأحلام التي كانت تلوذ بها لاستيلاد الأمل في غد أفضل!

ففي حكم لا يتفق فيه رئيس مع رئيس، ولا حدود فيه بين رئيس و”أمير”، أو بين “أمير” ووزير، ولا مسافة تفصل بين الاستنساب الخاص والمال العام، وبين المصلحة الشخصية و”المصالح الوطنية العليا”،

وفي ظل حكم ما التقى من أطرافه اثنان إلا وشتما ثالثاً، وما اجتمع أربعة إلا ولعنوا عشرة من زملائهم الغائبين، وما دافع مرتكب عن نفسه إلا بكشف تورط أقرانه وزملائه في فضائح أخطر وأشنع من فعلته.

وفي أفياء حكم ضاعت فيه التخوم بين الوزارات والعصابات وبين الإدارة والمافيات، وانتفى الحياء، بعد الخوف من أية محاسبة أو مساءلة أو حتى مناقشة،

… يجرؤ مسؤول على التوجه إلى الجمهور قائلاً: “إننا جادون في حل الاشكالات التي تبرز أحياناً!! ولن نتساهل لا مع أنفسنا ولا مع الغير”؟!

من الصعب أن تجد بياناً رسمياً في أي مكان أو زمان، يتضمن مثل هذا القدر من الأضاليل والترهات، ويصل في استغباء مواطنيه إلى هذا الحد واعتبارهم مجرد قطيع من الهبل والمعاقين، أو، وهذا هو الأخطر، مجموعات من المتواطئين والضالعين أو المنتفعين من عصر الفساد المستشري كالسرطان أو الجرب البلدي!

كل وزير لص إلى أن يثبت العكس، ومن الصعب أن يثبت، كما يقول الناس،

وكل “رئيس” متستر على عصابة من الأقارب والمقربين أو أكثر، حتى تظهر براءته، ومن شبه المستحيل أن تظهر مثل هذه البراءة،

ثم إن الحكم، بأطرافه جميعاً، يرى في نفسه قدراً للبلاد والعباد لا غنى عنه ولا بديل منه، إذ هو ذهب ذهبت واندثروا، وبالتالي فلا تهم عيوبه أو مباذله طالما إنه ضمانة الوجود والمصير!

بعيداً عن مباذل الحكم وارتكاباته، أو نتيجة لهذا كله، تتفاقم في البلاد مشكلة الانتماء إلى البلاد والاهتمام بوحدة أرضها وشعبها، ويتضاءل الإحساس بالمسؤولية عن المصير،

وبالتأكيد فإن الشروخ في “المجتمع المدني” هي اليوم أعمق وأفدح آثاراً مما كانت حتى في زمن الحرب الأهلية.

إن الحكم المتربع على القمة لا يدرك تماماً مدى الضرر الذي تلحقه ممارساته بالثوابت والبديهيات الوطنية التي كانت الحصن الأخير لوحدة لبنان واللبنانيين،

إن “الاشكالات التي تبرز أحياناً” قد أعادت قسمة اللبنانيين واستثارت غرائزهم الطائفية والمذهبية بحيث تحول “الزمور” إلى قضية!

إلى من ترفع الشكوى والظلامة؟!


إن الكل يجار بالشكوى: رئيس الجمهورية، رئيس مجلس النواب، رئيس الحكومة، الوزراء، النواب …

وكل يرمي الآخرين بدائه وينسل،

الطريف إن الجمهور فقط لا يجد من يستمع إلى شكواه وظلامته، فكلما ذهب إلى مسؤول أثبت له إن الشركاء الآخرين هم المسؤولون عن التعطيل، إما لأنهم متعصبون لطوائفهم أو لمذاهبهم. وإما لأنهم منتفعون ومتواطئون مع أصحاب المال والمستغلين وأبطال الفضائح ذات الرائحة أو تلك المعقمة.

على إن الجميع يطمئنون الجمهور إن لا حل، وإن لا خيار أمامه غير الاعتصام بحبل الصبر لأن الصبر طيب والشكوى لغير الله مذلة ولا بد سيأتي الفرج ذات يوم إذا صبر لأن الله مع الصابرين.

وهكذا ينصرف المواطن راضياً مرضياً، فيضع يده على “الزمور” تعبيراً عن سعادته بالوفاق الوطني الميمون وخيراته العميمة!

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 27 تشرين الثاني 1991

Exit mobile version