طلال سلمان

الجمهورية الطروب!

مَن يتابع أخبار لبنان من الخارج، عبر الفضائيات أو الرئاسيات، يكاد يحسدنا على عيشنا،
} في أسبوع واحد »حضر« مجلس النواب بعد طول غياب أو تغييب، وتجاوزت الحكومة خلافاتها الداخلية والاتهامات المتبادلة بين أطرافها، وعلى مرأى ومسمع من »الشعب« الذي خرق الحصار فجاء إلى ساحة النجمة ليملأ بصوته فراغ الخراب فيها، أنجز أخيراً وبعد مخاض عسير، وبعملية قيصرية زايد فيها الكل على الكل، قانون الانتخابات البلدية والاختيارية المعطَّل والمعطّلة معه الإرادة الشعبية في محاولة التغيير أو إراحة الأموات من أعباء الخدمة العامة.
…ولسوف يكون للبنانيين، أخيراً وبعد طول معاناة، »رؤساء« و»مخاتير« في كل بلدة وقرية ودسكرة إضافة إلى المدن، فيتخفّفون من أثقال »الترويكا«، ويخفِّفون عن أهل الحكم والخزينة المثقلة بالديون فينفقون »من كيسهم على ضرسهم« وينشغلون بأنفسهم وبعصبياتهم العائلية التي ستقدم نموذجاً فريداً للديموقراطية في »الدولة قيد التأسيس« المزدحمة بالحساسيات المذهبية والطائفية ومناخ الحرب الأهلية.
} مع الميلاد، وفي أجوائه البهيجة، وصلت »البسترينة« على شكل »قرض حسن« قدمته السعودية من دون سابق إعلان، فانفرجت أسارير الحكومة، وخفّ الضغط على صناديق مصرف لبنان التي كاد يفرغها الاستنزاف اليومي الناتج عن وفاق الرؤساء وطهارة الوزراء وصلاح الادارة في المجالس والصناديق والمؤسسات العامة كالكهرباء والمرفأ والهاتف (خليوي وأرضي)،
بالطبع حاول أصحاب الأغراض والنوايا السيئة، وخصوم العهد، وأعداء السلم الأهلي، أن يقرأوا هذه المبادرة الأخوية ذات الطابع الاقتصادي بلغة السياسة، وأن يربطوا توقيتها بالاستحقاق الرئاسي ومن له حق »التصويت« فيها ومَن هو بلا صوت، في حين ذهب بعض الخبراء في الشك والتشكيك إلى الادعاء أن »القرض الحسن« لن يحدث انقلاباً في واقعنا المأزوم، خصوصاً وقد كانت تجيء تحويلات بمثل هذه القيمة في أسبوع واحد، قبل حين،
على أن أصحاب النوايا الحسنة ردوا بأن الدولة لا بد ستستخدم هذا القرض الأخوي في مشاريع تنموية في المناطق المحرومة من الإنماء المتوازن ومن الأنفاق والجسور والأوتوسترادات وقصور المؤتمرات، فتنعش بها »بلاد« بعلبك و»بلاد« الهرمل و»بلاد« عكار، و»بلاد« جبيل، و»بلاد البترون« الخ، بدلاً من استخدامها في زيادة الاحتياطي، أو في سد بالوعة خدمة الدين، أو في النفقات الجارية والتي تجري معها مليارات الموازنة فيرتفع العجز بحيث لا يطاله علاج من نوع وقف الهدر أو عصر النفقات أو إلغاء مخصصات المستشارين.
} أمس، نهاراً، عاش اللبنانيون يوماً رياضياً طويلاً وبهيجاً، إذ ازدحم في الملعب البلدي وجواره في قلب بيروت، أكثر من عشرين ألفاً، بطبولهم وأعلامهم والزمامير، احتلوا السطوح والشرفات والشوارع المحيطة بالملعب والمتفرّعة منه ليشهدوا مباراة السنة…
ومع أن الطوائف والمذاهب وسائر العصبيات الجهوية والكروية كانت تحتشد معهم وفيهم وبينهم، فقد توالت الأهداف داخل الملعب، من دون أن يحوّل الجمهور بعضه بعضاً إلى »أهداف«، وعاد جميع المناصرين إلى قواعدهم سالمين، مقدمين نموذجاً ثانياً عن رقي العلاقة بين الناس والشارع في لبنان، وذلك بعد تظاهرة الاحتجاج التي زعقت بهتافاتها الصاخبة أمام أهل الحكم المحتشدين في مجلس النواب، قبل أيام، من دون أن يسمعوا جواباً، ومن دون أن يخدشوا لوح زجاج، وحده حياء الحكم أصيب ببعض الجروح.
وثبت بالدليل الحسي أن اللبناني لا ينزل إلى الشارع ليخرّبه، أو ليحوّله إلى متراسين متقابلين يقتتل خلفهما المواطنون من أجل أن يحيا الوطن!
ثبت أيضاً أن ليس ثمة عداء دفين بين اللبناني وبين إشارات المرور والواجهات النظيفة للمحلات الأنيقة ذات البضائع الأغلى من لابسيها، أو بينه وبين الشرطي، أو السيارات المستفزة بفخامتها والأوتوبيسات الفارغة التي يرفض أن »يمتطيها« هذا الشعب العنيد والمكابر بحيث يعتبر توصيفه بالفقير أقذع شتيمة يمكن أن توجَّه إليه ولا بد من الرد عليها برصاص لا يخيب (حتى لو كان قد استدان ثمن الرشاش الذي به وحده تُستعاد الكرامة المهدورة).
} أما أمس ليلاً فقد أمضى اللبنانيون »سهرة ميلادية« فريدة في بابها.
في القصر الطروب احتشد »أحباب وريس محبوب وجمهور وجمهورية«، من حول جوقة جامعة الروح القدس في الكسليك، فتداخل أهل الدين مع أهل السياسة مع أهل الطرب في مزيج ممتع من الأنغام والمغنى وهو »حياة الروح«.
نجح الرئيس الياس الهراوي في أن يقدم بنفسه، وفي القصر الجمهوري، القدوة لمواطنيه الرازحين تحت أثقال همومهم المعيشية والمخاوف من أشباح الأزمات الاقتصادية والديون داخلية وخارجية والتعارضات السياسية والسنة الرئاسية، بأنه لا شيء ينفعهم كاختلاس لحظات من الصفاء والمتعة مع الموسيقى والغناء، خصوصاً إذا ما اختلط فيه الروحاني بالزمني، وتوشحت التراتيل الدينية بالدلعونا والشروقي والعتابا والقرادي و»مرمر زماني يا زماني مرمر… أيامي حلوه بتشبهك يا أسمر«!
مرمر زماني: لعله الشعب الوحيد الذي حوَّل »المرمرة« إلى طرب شجي!
بلغت الجوقة ذروة نجاحها، مع أن »جمهورها« الاستثنائي لم يعرف عنه تذوق الفن، ناهيك بالتديّن العميق، وهو في غالبيته يميل إلى متع أخرى حسية ومباشرة وملموسة لا داعي لتسميتها هنا.
»حفلة ملوكية«، في قصر جمهوري، و»لبنان بلبل ناعم وسلمي« في لحظة تعثر العملية السلمية، ولا بد من دعوة غنائية للسامع »حوِّل ع زحلة عروس الشعر، حيث عهد البطولة انكتب، ووادي العرايش حيث نظم أحمد شوقي القصدان وغناها عبد الوهاب«..
»درسنا كلنا بذات الكتاب«، و»غير المجد ما لبست ثياب«، ربما لأن المجد غير مكلف، أقله بالمال، فهو لا يُشترى ولا يُباع في الدكاكين التي لا تجد الآن زبائن.
أربع تظاهرات تقدم صورة عن لبنان »أجمل من أن تكون حقيقة« لكنها جميعاً »أحداث« وقعت فعلاً، وعاشها اللبنانيون مباشرة أو عبر شاشات التلفزة.
لقد دبّت الحيوية، فجأة، في مجلس النواب وفي مجلس الوزراء، في الشارع وفي الملاعب، وفي القصر الجمهوري على وجه الخصوص،
زخّت الديموقراطية على الشعب كالمطر، وسرى »مناخ السلم الأهلي« كالسحر فجمع اللبنانيين بعد شتات، وطربت الدولة فغنى لها المبدعون من جوقة جامعة الروح القدس في الكسليك، »أهلاً وسهلاً يا هدايا قلوبنا«.
جاء المال وفيراً، وقد كنا في حالة إملاق، ندور باحثين عن جهات دولية تقرضنا بفائدة تكاد تصل إلى الربا،
هدأ البال واستقر الحال، وبات ممكناً التفرغ والاهتمام بما هو آت… من انتخابات رؤساء البلديات إلى »اختيار« رئيس البلاد.
»أحباب وريس محبوب وجمهور وجمهورية«
جينا وغنينا وانتو سمعتونا
»حفلة ملوكية وأحلى سهرية«.
فقط في لبنان يمكن أن تشهد مثل هذه الظواهر، ويمكن أن تحتشد كل هذه التناقضات التي تأتيك بالفرح من حيث تتوقع الغمّ، وتأخذك من غمّك إلى فرح تصطنع الطرب فيه جوقة ممتازة ومتميّزة، فينطلق الصوت الرخيم من داخل الثوب الكهنوتي، وتأتيك غنة الناي من فيه ذلك الذي تعوّد على أن يترنم بالنغمات القدسية،
عشتم وعاش لبنان وحكمه الذي يستعين على همومه بالطرب ولو جاءه بثياب كهنوتية وفي مناسبة دينية اجتهد في أن يحوّلها الى »وطنية« فلم يسعفه المدعوون!

Exit mobile version