طلال سلمان

الثلاثة الكبار

تكاد لا تفارق مخيلتي هذه الأيام صورة استحقت أن توصف بالتاريخية منذ أن تصدرت صفحات عديدة في صحف الأربعينيات من القرن الماضي وصفحات أخرى في كتب التاريخ الدبلوماسي والعلاقات الدولية، صورة زينت العديد من صالونات بيوت السياسيين وسفارات أوروبا وأمريكا خلال الشهور الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، صورة جمعت جوزيف ستالين وفرانكلين روزفلت وونستون تشرشل في لحظة من أهم لحظات التحول في النظام الدولي من حال القطبية المتعددة إلى حال القطبية الثنائية دون المرور بتجربة القطب الواحد، وهي التجربة التي كانت الولايات المتحدة مرشحة لقيادتها لولا أن الاتحاد السوفييتي عجل بإعلان امتلاكه السلاح النووي.

حدثت خلال الأسابيع الأخيرة تطورات عادت بذاكرتي إلى صورة الثلاثة الكبار وبصفة خاصة إلى مغزى نشرها في ذلك الوقت على نطاق واسع. حملت الصورة من وجهة نظري أكثر من مغزى وبعثت بأكثر من رسالة إلى شعوب العالم وإلى المسؤولين في الدول المستقلة وإلى المناضلين في الأقاليم الخاضعة للاستعمار. المغزى الأهم كان في الإيحاء بقرب انتهاء الحرب وانتصار الحلفاء على دول المحور، أما الرسالة الأهم فكانت عن النية المتوفرة لدى الحلفاء لصياغة نظام دولي جديد يعتمد المبادئ التي بشر بها الحلفاء خلال الحرب ووضع الأسس الكفيلة بمنع نشوب حرب عالمية ثالثة. لا أظن أنه فات على كثيرين استجلاء ما لم تكشف عنه الصورة. لم تكشف الصورة التاريخية عن حقيقة أن الهنود والصينيين والمصريين وعربا آخرين كانوا قد أدركوا بالفعل أن بريطانيا العظمى التي مثلها في الصورة رئيس حكومتها المستر ونستون تشرشل لن تكون، ولا يمكن أن تكون حتى لوشاء تشرشل وحزبه، طرفا في الصيغة الجديدة التي ينشغل بإعدادها الخبراء الأمريكيون والسوفييت وتحت رقابة ومشورة خبراء بريطانيين، صيغة تلائم النظام العالمي الجديد. لقد كشفت الحرب، منذ بدايتها في واقع الأمر، عن حقيقة ضعف بريطانيا العظمى ثم كشفت مباحثات السلم التي جرت بين الكبار عن المدى الكبير الذي تدنى إليه هذا الانحدار.

***

أقارن بين صورة تاريخية منشورة وصورة تصنعها خيالاتنا. الصورة التي يصنعها خيالي هي بالمثل لثلاثة رجال، كل من الثلاثة رئيس دولة. أحدهم رئيس دولة عظمى تنحدر، والثاني رئيس دولة كانت عظمى وانحدرت، بل وسقطت، والآن تنهض، والثالث رئيس دولة صاعدة إلى مرتبة الدولة العظمى. أتحدث هنا على التوالي عن دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة وفلاديمير بوتين رئيس الاتحاد الروسي وشي جين بينغ رئيس جمهورية الصين الشعبية، ثلاثة سوف يقررون فيما بينهم مصير النظام الدولي الراهن وشكل النظام الجديد.

الثلاثة، فيما نعلم، باقون معنا لسنوات قادمة. ترامب تنتهي مدته الدستورية بعد ثلاث سنوات ويحق له أن يرشح نفسه لولاية ثانية مدتها أربع سنوات. بوتين تنتهي مدته الربيع القادم وقد قرر ترشيح نفسه لولاية رابعة تمتد ست سنوات أخرى. يبقى شي وقد بدأ منذ أسابيع ولايته الثانية لمدة خمس سنوات وينص المبدأ الذي استنه الزعيم دينج شياو بينج على عدم جواز المد بعد الولايتين. معنى هذا أننا سنعيش في كنف الرؤساء الثلاثة معا مدة قد لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد نظريا عن خمس سنوات. يجب أن نعترف للحق والتاريخ أن الثلاثة، رغم كل مظاهر الخلاف ووصف ترامب لبلديهما كمنافستين لأمريكا، تعاونوا مع بعضهم البعض تعاونا وثيقا وطيبا إلى حد غير معروف سلفا في تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين أقطاب دول عظمى.

***

تابعت، أنا وغيري، تطور العلاقة بين الولايات المتحدة والصين منذ كان الرئيس باراك أوباما في السلطة وكان الرئيس شي يعمل حثيثا لتوطيد علاقة سلم وتعاون اقتصادي مع العالم الخارجي وإعادة تنظيم الدولة الصينية وإعدادها من الداخل لتكون جاهزة لتولي مهامها كدولة عظمي. حرص الرئيس الصيني على الالتزام بوصية الرئيس دينج أن يكون الصعود الصيني إلى القمة متدرجا وهادئا وبطبيعة سلمية تفاديا للنبوءة قديمة العهد قدم الإمبراطوريات الإغريقية والرومانية بحتمية الصدام العسكري بين قوة عظمي صاعدة وقوة عظمى منحدرة.
لفت نظر أغلبية المراقبين المدى الذي ذهبت إليه الولايات المتحدة في الاعتماد على الصين اقتصاديا لتفادي اتساع الفجوة التي تفصل بين البلدين وتزيد من احتمالات الصدام. أفلح الطرفان. استمرت الصين تصعد في ظل أبواب مفتوحة في السوق الأمريكية وعجز متزايد في نظام المدفوعات الأمريكي. لم تخش إقدام أمريكا على فرض عقوبات حمائية تحد من معدل الصعود الصيني. ولم تخش أمريكا إقدام الصين على إحراجها بإثارة متاعب عسكرية لها في مياه تايوان. كلاهما احترم مبدأ “صين واحدة” ولكن بدولتين.

جدير بالذكر أن شكوكا نشأت حول هذا الفهم لتطور العلاقة الصينية الأمريكية عندما هدد الرئيس أوباما بتحويل بؤرة اهتمام الاستراتيجية الأمريكية من الشرق الأوسط لتصبح شرق آسيا. لم تنفذ أمريكا التحول لسببين بسيطين هما: أن الرئيس ترامب لم يقتنع، وظل يفضل سياسة الانسحاب المتدرج والمكلف، أما السبب الثاني فيتعلق فيما أظن باكتشاف المؤسسة العسكرية الأمريكية صعوبة تحقيق هذا التحول بينما القوة العسكرية الأمريكية مجمدة والقوة العسكرية الصينية متطورة. واقع الأمر يكشف لنا بكل الوضوح الممكن عن أن وجود الرئيس ترامب في الحكم يمثل ضرورة حيوية لاستمرار الصين في الصعود المتدرج والهادئ، وبدون هزات عنيفة في العلاقة.

***

يبدو الأمر لي واضحا أيضا على الجبهة الأخرى، جبهة العلاقة بين الرئيسين بوتين وترامب. لا أظن أنني، وأمام الأنباء العديدة المتدفقة حول اتهامات في الكونجرس والإعلام الأمريكي لحكومة الرئيس الروسي بالتدخل في السياسة الأمريكية إلى حد مساعدة الرئيس ترامب على تحقيق الفوز في الانتخابات التي أتت به رئيسا للولايات المتحدة، في حاجة لمزيد من الإثباتات على المدى الذي يمكن أن يذهب إليه الرئيس ترامب في اعتماده على الرئيس بوتين. إنما نحن في الحقيقة نتحدث عن علاقة تبدو على القرب أشد تشعبا وأخطر عاقبة. نقرأ عن اختراق روسي في عمق الحياة السياسية الأمريكية وليس مجرد تدخل عادي. إن صحت الاتهامات يكون الرئيس بوتين قد حقق بعضا من حلم الزعماء السوفييت ببدئه تفكيك أمريكا سياسيا وإفقارها إيديولوجيا وإخراجها من معادلة القيادة الدولية. ترامب مستفيد من علاقة الحب القائمة مع بوتين وبوتين أيضا مستفيد. لا مبالغة كبيرة في الرأي القائل بأن المؤسسة الحاكمة في أمريكا في حال متردية من الانقسامات والشكوك بل والكراهية المتبادلة كتلك التي تفصل الطبقة الحاكمة عن أجهزة الإعلام والإعلاميين عموما. لا يوجد بعد ما يؤكد وجود دور روسي ولكن السائد الآن في واشنطن وفي أوروبا أيضا أن حربا سرية تكاد تطيح بالاستقرار السياسي في أكثر من دولة أوروبية وجميع أصابع الاتهام متجهة نحو موسكو.

لدينا أكثر من دليل على أن ترامب أعتمد على بوتين في سوريا أو على الأقل سهل له حلم إقامة إمبراطورية نفوذ ومصالح لروسيا في الشرق الأوسط تبدأ من سوريا وتتمدد في أنحاء الإقليم. كذلك ساهمت روسيا البوتينية في تحقيق حلم الرئيس ترامب بتخفيف العبء الأوروبي الملقى منذ نهاية الحرب العالمية على أكتاف أمريكا. في الوقت نفسه لم يتردد ترامب في الاعتماد على الرئيس شي لأنه الزعيم الذي حافظ على الاستقرار العالمي فلم يتسبب لترامب وحكومته في أزمات محرجة. يعلم ترامب أيضا أن لا حل ممكنا لمشكلة كوريا بدون مساهمة بكين ولا أمن في بحري الصين الشرقي والجنوبي إلا بوجود قوة عظمى في الصين. كلاهما، بوتين وشي يوفران أموالا طائلة على الخزينة الأمريكية بالأدوار التي يقومان بها في سوريا والشرق الأوسط من ناحية وجنوب شرقي آسيا من ناحية أخرى.

يبدو ترامب للكثيرين في واشنطن وعواصم أوروبية كمن يترنح ضعفا أو كرئيس لن يتمكن من إتمام ولايته الأولى. إلا أنه لا يبدو هكذا لكل من بكين وموسكو، أو على الأقل، لن تتركه أي منهما ليسقط فيخسر ثلاثتهم الرهان ويترك منصبه لنائبه بنس، شخص غير معروف للدولتين الأعظم وغير مأمون الجانب بسبب تطرفه الديني والسياسي.

الاقتباس

يعلم ترامب أيضا أن لا حل ممكنا لمشكلة كوريا بدون مساهمة بكين ولا أمن في بحري الصين الشرقي والجنوبي إلا بوجود قوة عظمى في الصين. كلاهما، بوتين وشي يوفران أموالا طائلة على الخزينة الأمريكية بالأدوار التي يقومان بها في سوريا والشرق الأوسط من ناحية وجنوب شرقي آسيا من ناحية أخرى.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version