طلال سلمان

التمثال

أعترف بضعفي أمام التماثيل، كل التماثيل، صغيرها وكبيرها أجملها وأقبحها، حتى تلك التي قضى أهل الجاهلية قرونا يعبدونها قبل أن يحطمها محمد نبي الإسلام. كل التماثيل بدون استثناء نجحت في تحريضي على فعل شيء ما كنت أفعله في غير وجودها. أثارت فضولي منذ كنت طفلا أزور في صحبة أمي أقارب لنا يقطنون بيتا كبيرا في العباسية يستلقي راقدا فوق بوابة الدخول إليه تمثال لتمساح ضخم، ولعله كان ضخما بالنسبة لحجمي في ذلك الوقت، فضول لم يفارقني طوال سنين عمري. كان معي هذا الفضول في رحلاتنا المدرسية، السنوية تقريبا، إلى الأقصر وأسوان ومتحف القاهرة، وفي أيام نزهتنا العائلية وليالي سهراتنا الشبابية عند سفوح الأهرامات. كان معي في بلاد كثيرة زرتها عابرا أو عشت فيها سائحا أو أقمت فيها ضيفا لسنوات أو شهورا. يبدأ فضولي بالكيف. كيف نحتوا هذا التمثال؟ وينتهي بالسبب، لماذا نحتوه؟ وبين الكيف والسبب قضيت سنوات عمري أبحث عن إجابات منطقية لأسئلة تتكرر وتتجدد وتتفنن في تعميق فضولي.

***

جلست أمام شاشة التليفزيون منبهرا أشاهد فتنة اشتعلت في مدينة شارلوتفيل في الجنوب الأمريكي وهزت أمريكا إلى أعماقها. قال المذيع إنها اشتعلت بسبب رغبة بعض سكان المدينة الاحتفال بنقل تمثال أو تماثيل لرموز وقادة النظام العنصري الذي هيمن على ولايات الجنوب الأمريكي وشكل ما يعرف بالاتحاد الكونفيدرالي، نقلها إلى مواقع أفضل. هاج السكان من أصول إفريقية وكثير من المناهضين للعنصرية. كنت أعرف وأسمع عن بعث جديد لهذا التيار اليميني المتطرف لكني لم أكن أتصور أن تمثالا للجنرال روبرت لي أو غيره من رموز الزعماء البيض المتطرفين يمكن أن يثير نفس المشاعر المتناقضة التي أثارها الجنرال لي بشخصه قبل أكثر من مائة وخمسين عاما.

***

أمام التليفزيون مرة أخرى جلست أشاهد مراسم الاحتفال بنقل الجنرال رمسيس الثاني، أو لعله بلغة عصرنا كان لا بد أن يحمل لقب المشير. ظل هذا التمثال، بحكم وجوده في طريقي، يحرض فضولي لسنوات. ما زلت أسأل عن السبب الحقيقي وراء إعجاب الطبقة الحاكمة ومعها الطبقة المثقفة بهذا التمثال دون غيره من التماثيل ومنه إلى الإعجاب بهذا الفرعون أكثر من غيره. قرأت مثل كثيرين ما كتبه المؤرخون عن رمسيس الثاني، ولكن ما قرأت لم يشبع فضولي بشأن مظاهر الحب أو الإعجاب بتمثاله الذي اشتهر بحركته الدائبة أملا في العثور على موقع يعود فيه إلى حال الاستقرار الذي عاش فيه قرونا عديدة.

لا أحب أن أعترف في العلن كما أنوي أن أفعل الآن أنني كثيرا ما قارنت بين مشهدين، أيضا تلفزيونيين، مشهد المراسم الراقية والمتحضرة لنقل تمثال رمسيس والمشهد الذي خططت له ورسمت تفاصيله قوات الاحتلال الأمريكي للعراق ونقلته مهللة قناة الـ«سى إن إن»، وهي في حد ذاتها درة التاج، تاج الغزو الأمريكي البشع. أما المشهد فكان يغطي عملية إسقاط تمثال صدام حسين وتحطيمه. قارنت وما زلت أقارن وأتساءل عن حسن حظ تمثال رمسيس الثاني وتماثيل مصرية أخرى أفلتت من مصير تمثال صدام حسين رغم الغزوات الأجنبية العديدة التي تعرضت لها مصر على امتداد عصر الفراعنة وبعده. يبدو أن غزاة ذاك الزمن كانوا أقل وحشية من غزاة عصرنا الحديث.

***

لا أذكر أنني عشت في بلد لم ينحت تماثيل. اختلفت الشعوب فيما تريد أن تمجده. خرجت من مصر حيث التماثيل جزء من ثقافة حكم وثقافة حياة وثقافة موت. أظن، على ضوء جولتي في الخارج، أننا نتفوق على كل شعب آخر في الاحتفاء، وربما تقديس، ملوكه وقادته. عاملناهم منذ القدم كما نعامل الآلهة. سلمناهم قيادنا وأقمنا لهم التماثيل أملا في أن يعودوا إلينا يوم البعث في صورة أبهى. أحسد الهنود الذين اختاروا أن يمجدوا الحب فأقاموا له التماثيل. الهنود مزجوا بين الدين والحب في جميع فنون النحت ونحن مزجنا الدين والحكم. أما الصينيون فكانوا أروع من نحت للحرب جيوشا من التماثيل. لم يبرعوا في نحت تماثيل الأباطرة وأمراء الإقطاع وحكام الأقاليم المستقلة ذاتيا وإن أبدعوا في نحت جدودهم والكبار في عائلاتهم.

***

واختلفت الشعوب في احترامها لتماثيلها والعناية بها والمحافظة على سلامتها. لا أستطيع أن أفخر بالمصريين في هذا الشأن، ولكني من المعجبين إلى حدود قصوى ببلاد عرفت شعوبها كيف تحرص على التماثيل حرصها على كنوزها التاريخية. تأتي إيطاليا في المقدمة تليها فرنسا واليونان. إيطاليا تستحق ما وصفته بها في نهاية أول عام من أعوام إقامتي فيها. وصفتها بالدولة المتحف، حيث لا تخلو مدينة من عشرات التماثيل والمباني التاريخية التي تحظى بعناية فائقة. تبقى لليونان مكانة خاصة في المقارنات التي أقوم بها بحثا عن عامل مشترك دفع قدامى الأمم للاهتمام بإقامة التماثيل.

***

ترددت في تفضيل عامل بعينه. الفتوحات الخارجية وحروب بناء الأمة تصلح لتكون عاملا رئيسا ولكن ليس العامل الوحيد. اقترح أحد الأصدقاء أن يكون وراء نحت التماثيل رغبة الحكام في تخليد أنفسهم. يستند هذا الاقتراح إلى قاعدة لم تتأكد علميا ولا تاريخيا تنص على أن الغالبية العظمى من الحكام لا يثقون في شعوبهم. يتخيلون أن الشعوب سوف تنساهم وتنسى إنجازاتهم، لذلك وجب تذكيرهم بها. توصل بعضهم بحكمة بالغة إلى أن الدين يبقى طويلا فراحوا يقيمون تماثيلهم داخل المعابد وإلباسها أحيانا سمات الآلهة. انتبهوا إلى حقيقة هامة. الماضي يتغير. بمعنى أنه سيأتي دائما إلى الحكم أو بين المؤرخين من ينصف مرحلة ويعيب في أخرى ثم يأتي آخرون فيمحون ما سجله الأولون. كم من ماض لم يثبت على حال، وكم من تمثال بقي على حاله شاهد على عظمة حاكم وعصر أو على سفالتهما. يعنيني بشكل خاص تمثال سيسل رودس الأب الروحى للاستعمار البريطاني. تمثال يمجد شخصا سافلا ومرحلة سافلة في تاريخ الإنجليز. في نظرنا هذا الماضي تغير ولن يعود ومع ذلك يوجد في الطبقات الحاكمة والمثقفة من يزال يمجد الرجل بتنشيط ذكراه وتخصيص جوائز ومعاهد ومنح تحمل اسمه وتعلي من شأن تمثاله. كثير من القادة الغربيين درسوا على نفقة منحة رودس ومنهم بيل كلينتون. هنا في مصر لم أعثر بعد على سياسي أو شخصية معمرة تؤكد لي حقيقة أن فندق سيسيل الشهير بالإسكندرية كان يحتفظ قبل تأميمه بتمثال نصفي لسيسيل رودس.

***

للتماثيل وظائف صعب إنكارها أو تجاهلها. أظن مثلا أن تماثيل فرنسا ساهمت في المحافظة على «السردية الفرنسية» الشهيرة. كنت دائما منذ أيام الدراسة الثانوية أتصور أن هناك فوضى في ماضي فرنسا. هذه الفوضى لمستها بنفسي في أول زيارة قمت بها لمدينة باريس عندما تجولت بين تماثيل مشاهير فرنسا في التاريخ. وجدت بين المشاهير تماثيل لأشرار وخارجين عن القانون وأبطال مقاومة وثوارا وجنرالات حرروا فرنسا وآخرون خانوا الوطن. هكذا تحافظ التماثيل على سمعة الفوضى، السمعة الموسوم بها ماضى فرنسا.

أعتقد كذلك أن التماثيل يمكن أن تضاعف آلام الناس في ظروف وتضاعف آمالهم في ظروف أخرى. في مصر مثلا كثيرا ما سألنا أنفسنا كيف أنجبت مصر هؤلاء القادة العظام والعباقرة في الفن والنحت والعلوم ثم توقفت، أو هكذا في أوقات الأزمة وفي عز التخلف والقمع والفقر نفكر. وبالعكس كثيرا ما فكرنا أن مصر كما أنجبت هؤلاء فإنها قادرة على إنجاب أمثالهم في المستقبل. وبمناسبة الحديث عن بلدنا أصارح بالقول إننى توقفت مليا أمام واقع التماثيل المصرية المعاصرة. تماثيل الأسرة العلوية العثمانية الأصل ورؤساء حكوماتها وأهم وزرائها في كل ميدان من ميادين القاهرة والاسكندرية، ولا تماثيل لحكام مصر الذين جاءوا بثورة 1952 أو لمن ورثوها من بعدهم ولا لرئيس وزارة أو وزراء خدموا في عهودهم أو حتى لشخصية لمعت في الأدب أوالفن أو غيرهما باستثناءات محدودة للغاية وتماثيلهم على كل حال تبقى دون مستوى قريناتها المنحوتة في عصر الأسرة الملكية. ما زلت أبحث عن تفسير.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version