طلال سلمان

التشطيب سلاح للديموقراطية

لم يتبق من رموز أو معالم الحياة السياسية في البلد الذي تميز تاريخه الحديث بأنه كان بؤرة العمل السياسي والشارع الديموقراطي المفتوح لصراع العقائد والتيارات والأحزاب والأفكار، الا… سلاح التشطيب!
يكاد التشطيب يختزل الممارسة الديموقراطية في الانتخابات التي تدور رحاها ويثور غبارها حتى يكاد يحجب الأفق على امتداد الأرض والأمزجة والاهواء والمصالح والتقاليد الموروثة للعمل السياسي في لبنان.
لا مرجع للمواطن يثق به ويحترم رأيه الى حد الالتزام به ويسلِّم بصحة قراره ليبني عليه اختياره.
ما هو معيار الاختيار وسط هذا الطوفان من المرشحين الذين تجيء غالبيتهم الساحقة من خارج العمل السياسي، إن بذريعة »البراءة« من الحرب الاهلية وآثامها الفظيعة، او بعذر انعدام الفرصة لتقديم الذات بصورة طبيعية وتدريجية خلال العقود الثلاثة الماضية؟!
بعض المرشحين يتخذ من دوره في الحرب، على هذه الجبهة أو تلك، جواز مرور الى الوجاهة، وشهادة الجدارة باستحقاق الموقع المتقدم، سواء أكان نيابة أم وزارة، أم قيادة للبلاد والعباد جميعاً،
وبعض آخر يقول علناً وبكثير من التباهي انه انما يجيء لاخراج لبنان نهائياً من الحرب الأهلية وادخاله عصر السلم الأهلي، ويقدم نفسه بوصفه البديل المدني والراقي لرجال الميليشيات وامراء الحرب، موجهاً اليهم أخطر التهم وأشنعها من تهديم الدولة ومؤسساتها الى نهب ثروات الجماعات والافراد الى المذابح الجماعية وتسميم البلاد بالعصبيات الطائفية والمذهبية المدمرة،
ثم تكون المفاجأة بعقد التحالفات المتينة بين هؤلاء وأولئك، فاذا في اللائحة الواحدة ابطال الحرب واعداء الحرب، المقاتلون ومقاتلو المقاتلين القائلون بالمجتمع المدني والسلم الاهلي والمتهمون بتخريب هذا وذاك..
الناخبون على استعداد للتسامح والنسيان، خصوصاً أنهم لا يستطيعون، بكتلتهم العظمى، ادعاء البراءة المطلقة من لوثة الدم التي اجتاحت البلاد في زمن الحرب، والتي تعددت اطوارها وشعاراتها وتكاثرت جبهاتها وانقسمت قياداتها على بعضها البعض، وانتقلت من »قتال ضد الآخرين« على قاعدة طائفية الى »قتال ضد الذات« على قاعدة مذهبية أو ربما شخصية وداخل كل طائفة أو كل مذهب..
لكن هؤلاء الناخبين يحارون أشد الحيرة أمام هذا الخليط المتنافر من المقاتلين والمسالمين ومن يدعي تمثيل المقتول (بلغة الراحل الكبير تقي الدين الصلح)،
كذلك فان الحيرة تتفاقم فتصبح ضياعاً شبه مطلق امام هذه التحالفات التي لا منطق لها بين الخصوم العقائديين تاريخياً، وبين المتحدرين من صلب تنظيمات يسارية مع اولئك القادمين حديثاً او الهابطين على الحياة السياسية من سماء المقاولات وأرباحها الهائلة، او من دنيا المال والاعمال، والذين كانوا يسمونهم في الزمن القديم »الطغمة المالية«؟!
ويصل الضياع الى التيه المطلق حين يرى الناخبون في قائمة واحدة، وعلى قاعدة التحالف الثابت والممنوع خرقه او اختراقه، مجموعة من رموز الاحزاب العقائدية (ذات المنحى اليساري) جنباً الى جنب مع رموز الطغمة المالية يتصدرهم رموز الاقطاع السياسي القديم، المعاد اليه الاعتبار الآن بحجة »براءته« من الحرب التي طالما اتهم بالتسبب فيها بسبب فسادهم وسوء ادائهم وتخلفهم عن مواكبة روح التقدم الانساني في هذا العصر.
كيف يكون الاختيار؟!
على أي قاعدة ووفق أي معيار؟!
اذا تداخلت المعايير الحزبية العقائدية المالية السياسية بالمعنى التقليدي، مع المعايير الشخصية الطائفية المذهبية، فكيف يكون الاختيار؟!
وماذا يتبقى غير التشطيب سلاحا لاثبات الوجود وتأكيد الارادة الذاتية؟!
»انا أشطب، اذن انا موجود..«
هل فرغت البلاد من المرجعيات، الزعامات، القيادات، ام ان الناخبين يرون في الانتخابات فرصة للتحرر من هؤلاء الذين فرضتهم عليهم »الظروف«، او طبيعة السلطة القائمة تحت لافتة الطائف، والتي تعكس في بنيتها طبيعة التحالف غير الطبيعي بين ذلك الخليط المتنافر ذاته من المحاربين وبناة السلام، من المتمولين والآتين الى النظام باسم الفقراء والمظلومين والمناطق المحرومة، من العقائديين المتقاعدين ورجال الاعمال والمتمولين النشطاء والذين يغدقون الآن لتسكين او تدجين قدامى المناضلين الذين عملوا لتغيير النظام كجزء من الطموح لتغيير العالم؟!
هل التشطيب اعتراض عملي على محاولة الفرض التي يمارسها من يرون في انفسهم أنصاف آلهة يأمرون فيطاعون، ويستطيعون الاتيان بالعصي وفرضها نوابا؟!
ام ان التشطيب الطريق الوحيد المتاح لاستنقاذ معنى الانتخاب؟!
في هذه الحالة يكون هذا الناخب الحائر، المضيّع، المدوخ بالصور الفاقعة الالوان والشعارات الباهتة المعنى، قد أنقذ السلطة نفسها، فأكسب الانتخابات صورة شبه طبيعية باعتبارها لحظة مفاضلة واختيار وقرار شخصي حر، يوفر شهادة بديموقراطيتها، ولو نسبيا.
ان التشطيب هو »بطل« الديموقراطية والدليل الأبرز عليها،
واذا كان اللجوء لسلاح التشطيب قد بدأ خفيفا في الجبل، وتعاظم الى حد فرط اللوائح المركبة صناعيا بين متماثلين، والتي تقدم مواجهة شكلية بين معارضة موالية وموالاة معارضة، فان هذا السلاح نفسه سيلعب دورا اساسيا غدا في بيروت ومن ثم في الجنوب والبقاع.
لقد تردت الحياة السياسية فكادت تتلاشى،
لكن الناخب في غياب المؤسسات السياسية يجتهد في استنقاذ ذاته من ان يتحول الى سلعة او الى صوت صارخ في البرية،
وهذا ليس حلا، ولا يبني الديموقراطية، ولكنه يؤشر الى مرحلة جديدة تتأكد فيها، مع الأسف، مقولة زياد الرحباني من ان اللبنانيين مجموعات، من الافراد: واحد + واحد + واحد، يصعب ان يكوِّنوا رأيا عاما، ويكاد يستحيل ان يكونوا بواقعهم هذا مصدرا للقرار، او حماة للديموقراطية.

Exit mobile version