الفرق بين الليبرالية التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية والنيوليبرالية التي تحكم العالم الآن هو بين الحكم بالتفاوض والحكم بالأمر. ما سمي بدولة الرعاية الاجتماعية في ظل الليبرالية هو وضع قام على التفاوض بين السلطة الرأسمالية والفئات الشعبية، العاملة منها على الأخص، حول دور الدولة في المجتمع، وحول الحقوق التي يجب أن تنالها الطبقات الدنيا من أجل تفادي الفقر المدقع. تقديمات المعالجة الصحية المضمونة ومعاشات التقاعد والتعليم، ومختلف شؤون الرعاية الأخرى، كانت حصيلة التفاوض بين الدولة وسكانها. كان العالم يخرج من حرب عالمية ثانية الى حرب باردة. وكان على الرأسمالية أن تتواضع أمام شعوبها وأن تتخلى عن جزء من أرباحها لتقدّمها الدولة الى الطبقات الدنيا خوفا من تصاعد المطالب الشعبية الى احتجاجات والى ثورات. كانت شيوعية الاتحاد السوفياتي من ناحية، والنقابات في الغرب، تقف للرأسمالية بالمرصاد. كان على الرأسمالية أن تفاوض وأن تتنازل.
لم يعد الأمر كذلك بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وفكفكة النقابات العمالية في الغرب. صار ممكناً للرأسمالية أن تحكم، وأن توجه الاقتصاد بالأمر. خلال فترة الرعايا الاجتماعية، أي فترة السنوات الثلاثين التي تبعت الحرب العالمية الثانية، كان التعليم والتوجيه الايديولوجي عن طريق وسائل الاعلام قد أدّيا الى تشبّع العقول الشعبية بفضائل الرأسمالية. كيف لا، وقد سقط العدو الشيوعي. واعتبر السقوط انتصارا للرأسمالية. ليس فقط انتصاراً بل هو ما يعبّر عن ميزة لا يتمتّع بها أي نظام اجتماعي آخر. صارت الرأسمالية بمثابة طبيعة بشرية. انجرفت الشعوب في هذا الاتجاه وانتهت الى الاقتناع بأن حياتها ومصيرها يتقرران على أساس مصير الرأسمالية التي يجب الحفاظ عليها. صار بالإمكان توجيه الشعوب (حكمها بالأمر) لا التفاوض معها. والشعوب اعتبرت أن الرأسمالية مصدر عيشها، وهي مبرر وجودها ويحقّ لها أن تحكم بالأمر لأنها تعرف المصلحة العامة أكثر من غيرها. لم ينته عصر الايديولوجيا (كما روّج منتقد الرأسمالية) بل بلغ أوجه مع صعود الفاشية. صار الدفاع عن الرأسمالية أمراً محتّماً لدى كل الشعوب. وهذا يقضي بالتضامن القومي مع الرأسمالية لا النضال ضدها. وقعت الشعوب في الفخ. صار أرباب الاستغلال هم حماة الطبقات الفقيرة. وهذه تؤيدهم. نجحت الرأسمالية ليس فقط ضد الاتحاد السوفياتي (الذي كان سقوطه حتمياً بسبب الضعف الداخلي لديه) بل نجحت أيضاً في إعادة تشكيل وعي شعوبها والطبقات الدنيا.
مع صعود الرأسمالية النيوليبرالية فقدت الرأسمالية تواضعها. لم تعد بحاجة للتفاوض مع الطبقات الدنيا؛ بل شرعت بتدمير نقاباتها كما فعل ريغان بالعاملين في أبراج المراقبة في الولايات المتحدة، إذا أخرجهم من العمل نهائياً واستبدلهم بغيرهم. وكما فعلت تاتشر في أواخر السبعينات بالحركات العمالية، خاصة عمال مناجم الفحم، إذ شلّعت نقاباتهم، وأخرى غيرها. صار الرأسمال المالي ذا أولوية على الرساميل الصناعية والتجارية. شاع نظام الخدمات الذي أصبح مصدر العيش لأكثر من 80% من السكان في البلدان الصناعية (أصلاً) والمتقدمة. جرى تصدير كثير من الصناعات الى الخارج. خاصة الى أسيا والصين. تدمير النقابات في الغرب ساهم في إرسال الصناعات الى الخارج لاستخدام الأيدي العاملة الرخيصة نسبياً، والأهم كان الاستفادة من استبداد حكومات العالم الثالث، مما عنى الضغط على الأيدي العاملة بواسطة حكوماتها لإبقاء أجورها عند الحد الأدنى.
فقدت الرأسمالية تواضعها. صارت تعتبر أنها هي النظام “الطبيعي” للمجتمع. فكأن طبيعة البشر تحتّم أن يكون النظام رأسمالياً، الى الأبد طبعاً. اعتبرت نفسها ذروة التطوّر التاريخي. كما اعتبرت أنها النظام العقلاني الوحيد. عقلانية تعتبر أن القيمة الإنسانية الوحيدة هي المال. المال عندهم، لا العمل، هو مصدر الثروة. الاستثمار في بلد آخر هو مصدر عيشه. سحب الاستثمارات من بلد أو بضعة بلدان يؤدي الى أزمة كما حدث في شرق أسيا سنة 1997. الثروة تتدفق من فوق الى تحت. من الطبقات العليا الى الطبقات الدنيا. كما اعتبر المحافظون الجدد أيام ريغان الى بوش الابن. تكرّس الإله الجديد وتكرّست معه الحروب أو الفوضى في كل مكان لتنفيذ الإرادة الرأسمالية المالية الكبرى، الأميركية في غالب الأحيان. تدمير العراق كان جزءاً من ذلك. نظّر المحافظون الجدد للاستثنائية الأميركية وللحرب الاستباقية. اعتبروا أن الولايات المتحدة هي الأسمى؛ وهي مدينة على جبل؛ وما على العالم إلا أن يحتذي مثلها، ويسير حسب توجيهاتها، ويطيع أوامرها، وإلا الحرب. رفعوا الموازنة العسكرية تبعاً لذلك. صارت الموازنة العسكرية الأميركية ضعف موازنات العالم مجتمعة. قوة فائضة بحاجة الى استخدام (جزء من ذلك بيع الأسلحة خاصة “لاسترداد” أموال النفط). كان العرب الضحية الأولى لذلك. من يخالف سياسة الولايات المتحدة يخضع لعقوبات تفرضها هذه الدولة من جانب واحد، وتجر معها أوروبا لمعاقبة العالم وجعله ينضوي في السير وراءها. ما حققه أوباما بالتفاوض، يريد ترامب تحقيقه بالأمر. لذلك يجري تمزيق تلك الاتفاقات ومحاولة فرضها من جديد بالأمر.
اعتبر مثقفو النظام الرأسمالي (المالي) أن الديمقراطية سوف تنتشر بسبب سقوط الاتحاد السوفياتي. لكن انتصر الاستبداد وتوسّع. ازداد القمع والقهر في كل أنحاء العالم. جرى ترحيل “الارهابيين” الى الشرق لتعذيبهم هناك بدل محاكمتهم حيث ارتكبوا الجرائم. البلدان التي صدّرت إليها الصناعة للاستفادة من تدنّي الأيدي العاملة، صًدّر إليها الإرهابيون المقبوض عليهم. الاستبداد، الطغيان العسكري، هما الوسيلة التي اعتمد عليها النظام الرأسمالي المالي لا الديمقراطية. كان جزاء من الثورة العربية التي بدأت في 2010 ـ 2011 حكومات عسكرية . وهذا ربما كان مصير ثورتي الجزائر والسودان أيضاً. أثير الرعب في أوروبا وأميركا من الهجرة والإرهاب. كان صعود الفاشية وسيلة أخرى توازي العسكر في بلدان أخرى. أثيرت القوميات بشكلها الفاشستي لتشليع العالم. هذا في الغرب. عندنا أثير الدين. نشأ دين جديد. بل توسعت الوهابية بفضل أموال النفط والدعم الأميركي. للدين الجديد مهمة جديدة كانت سبب وجوده وتوسّعه. وكما الإثنيات في مختلف أنحاء العالم، فالأديان من الله. والقوميات تجليات ميتافيزيقية من السماء. كلها يمكن استخدامها لتجنيد الله في خدمة المال. لم ينته عصر الايديولوجيا. انتهى عصر ايديولوجيا اليسار. صعدت الايديولوجية الدينية. حروب إبادة جماعية. فوضى في كل أنحاء العالم. ليس الانتظام السياسي في الدول هو أداة الرأسمال المالي بل هي الفوضى في كل مكان كي يبقى الرأسمال المالي وحيداً. إله جبار. وكان للمنطقة العربية الحصة الكبرى في ذلك. فيها أهم مخزونات النفط (والغاز) تحت الأرض. ثروة لا يمكن تركها للشعوب ولا لتلاعب الديمقراطية بها. لم تعد الديمقراطية الليبرالية هدفاً للنشر في العالم كما ادعوا. نُشِرَ الطغيان والحروب الأهلية وحكم العسكر في كل مكان. التبرير الإلهي والفاشستي في كل مكان. تحوّل الفاشستية الى ما يشبه الدين. قومية الفاشستية منزّلة من السماء. خلق الله البشرية ليقبض الرأسمال المالي على مصيرها. ويهدد مصير الإنسانية بالزوال. التغيّر المناخي من صنع الإنسان. الرأسمال المالي تحديدا يهدد مصير الأرض، والقوى المسيطرة لا تأبه لذلك. تنكر، وتستمر في حالة الإنكار؛ تواجه العالم بمصيره. ومن الضروري بقاء النظام الحالي على ما فيه من ازدياد الفجوة في المداخيل بين الأكثرية التي تشكّل أكثر من 99% من البشرية وبين القلة الرأسمالية التي لا تتجاوز 1% من سكان الأرض.
الخصخصة وتراكم الدين العام على الدول الفقيرة بحجة الاستثمار من وسائل قمع ونهب شعوب العالم الذي كان ثالثاً. في زمن العولمة لم يعد هذا العالم ثالثاً. صار مجالا للاستثمار الدولي. خضوع من جديد. خسارة كل استقلالية نتجت عن حروب التحرر الوطني. الدين العام، الاستثمارات الأجنبية، وحكم العسكر، أوجه متعددة لشيء واحد.
لم يعد المال وسيلة، ولا حتى هدفاً. صار مصدراً للخلق. يقول منظرو الاقتصاد وتاريخ النقد أن المال وسيلة تداول أو وسيلة ادخار أو وسيلة تبادل؛ ليس له قيمة إلا ما يساوي السلع المادية التي يتم تداولها وتبادلها. لم يعد الأمر كذلك. حتى مهمة الادخار صارت ثانوية. المال صار مصدراً للاستثمار. الاستثمار يعني فرص العمل. الاستثمار يعني معيشة هؤلاء الذين يتم استئجارهم (عفوا، تملّك قوة عملهم) للعمل لخلق وتوليد سلع يحتاجها الأخرون. المال صار هدفاً بحد ذاته؛ الأهم من ذلك أنه هو أيضاً البداية. بداية الخلق، أو إعادة خلق الذين يعملون. هؤلاء لا يوجدون أو ما كان مقدراً لهم أن يوجدوا من دون الاستثمار. أي المال الذي أدى الى تشغيلهم وإعادة انتاجهم. المال هو البداية والنهاية. من المهد الى اللحد؛ يوجد الإنسان بالمال. ويعمل من أجل المال. ويموت بسبب المال. وتجري الصراعات لحيازة أكبر كمية ممكنة منه. المهم أن المال صار هو البداية. هو الخالق. إله جديد. هل كانت عبادة الله الحقيقي ممكنة لولا أن الناس وجدوا؟ أو أن الناس أوجدهم المال المًستثمَرْ. والذين يستثمرون يقبضون على ما هو مُستثمَرْ. إذن هم شركاء في عملية الخلق: خلق الإنسان. هم أصحاب إرادة أن يوجد الإنسان أو ان لا يوجد. الإرادة التي تملي الحياة وضروراتها.
هذا هو جوهر النيوليبرالية (إذا كان هناك جوهر في هذا الكون). عملية تبدأ من فوق الى تحت. من الرب الخالق الى الإنسان المخلوق. من الرأسمال المالي الخالق الى الإنسان الذي يعمل وينتج. صار الإنتاج، بما في ذلك إعادة الإنتاج البيولوجي للإنسان ملحقاً بالمال. والإنسان أحد عناصر الإنتاج. القيم الانسانية والأخلاقية والدينية ملحقة بالمال. هي كلها نتيجة له. ليس الانسان سبب المال. المال سبب الإنسان. الإرادة البشرية ملحقة تابعة مهانة مداسة معذبة. قول خاطئ: ذو عقل بلا دين، وذو دين بلا عقل. تعتبر النيوليبرالية: ذو عقل بلا مال، وذو مال بلا عقل. يقاس الإنسان وعقله وقيمته بما يملك من المال.
جوهر النيوليبرالية هو أن إرادة المال (إرادة من بيده المال) سبب لا نتيجة. هي تريد، أو تقرر من يحق له بالوجود أو العدم. الذات الوحيدة التي يعوّل عليها هي المال أو الرأسمال المالي. فقدت الذات القابضة على المال تواضعها. لم تعد مضطرة أن تفاوض مع الواقع الموضوعي. لم يعد لهذا الواقع أهمية. هو رهن الإرادة التي قررت وجوده. بين الذات والموضوع أو الواقع، صار الموضوع مجرد رؤى أو تمثلات أو خيالات (ظلال) للإرادة الخالقة للذات. النيوليبرالية تتزامن مع ما بعد الحداثة. مع التفكيك، مع اعتبار الوجود الموضوعي حقيقة افتراضية. افتراضات تقابل افتراض. ينتصر الافتراض مع الأقوى بالمال.
الاستبداد، استبداد الذات (المالية) بالموضوع (الواقعي) ينتشر حيثما كان يُفترض أن يتوسّع مجال الديمقراطية والحرية. الناس عبيد للخالق. يصير الناس عبيداً للخالق الجديد، المزيّف، الافتراضي. قطعان كانت تتجه نحو الحرية بواسطة الديمقراطية، فإذا بها تجد التناقض سافراً واضحاً بين الديمقراطية والحرية. تنسى نضالها من أجل الحرية، وتنسى مسألة التحرر، لتنضمّ الى قطعان لا تبغي شيئاً سوى البقاء على قيد الحياة. تسلم نفسها لمن يسلب حريتها. بعد سلب ونهب الإنتاج وما تبقى من أملاك الطبقات الدنيا.
لا يفُسّر بالثقافات انتقال شعوب ناضلت طويلاً من أجل التحرر الوطني الى الاصطفاف وراء الطغاة. ولا يُفسّر بالثقافات انتقال شعوب العالم الصناعي (المتقدم) الى الاصطفاف مع الفاشية والاستبداد السياسي. ثقافات هذه الشعوب تحولت وتعدلت وتبدلت على مر العصور؛ الثقافة (بمعنى التراث) لا تفسّر شيئاً. التاريخ لا يقرر الحاضر. النظام الاجتماعي ـ الاقتصادي ـ السياسي يقرر الحاضر. مهما يكن الأمر، الرأسمالية المالية لن تترك للتاريخيين أو الوظيفيين مهمة تحديد العلاقة بين التاريخ والحاضر. هي التي غزت العالم وسيطرت عليه، وهي من يكتب الحاضر، انما بشكل يختلف عما يقوله الأكاديميون. هي تقود العالم بما يختلف عن التوقعات السابقة. وهي تقرر الحاضر بما لا يتناسب مع أي اتجاه مدرسي يُدرّس في الجامعات. وهي تستخدم التراث بسخرية تامة لإرضاء أصحاب القومية، وتهتم بالفنون، وتشتري اللوحات ولا تعرضها، بل تخزّنها وكأنها تخزّن العملة. تهتم بتطوّر العلوم بما يفيد زيادة أرباحها. وتحارب علم البيئة الذي لا يناسبها. تهتم بكل ما يزيد أرباحها وتهمل كل ما يتناقض مع ذلك. تُدار الأمور من مؤتمر دافوس السنوي، لا من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي أو منظمة التجارة الأميركية. والآن جاء ترامب في سبيل المعالجة بالصدمة. يُقال عنه بأنه يفعل ما هو غير متوقع. رأسمالية مأزومة لا تهدأ. كيف يمكن أن تهدأ أو تفكّر؟ ناهيك عن الاستنتاجات المتناسقة الأفكار والتطيبقات. تريد حرباً، تمزّق كل الاتفاقات السابقة، تفتش عن من يبدأ الحرب في الخليج والمتوسط، وفي شرق الصين وفي أميركا اللاتينية. بقية العالم لا يريد الحرب. فائض القوة العسكرية يدفع الى الحرب. هذه ستكون كونية. هي حرب عالمية في منطقتنا العربية. مأزق النيوليبرالية أن أصحابها لا يستطيعون إخضاع العالم بالقوة العسكرية وحسب. ذلك يتطلّب استخدام المخزون النووي. على الدول الكبرى اقتصادياً أن تقبل بوضع ليست هي فيه الأولى. يؤلمها ويحرج الكرامة الوطنية أنها ليست الأولى اقتصاديا، ولا يتجاوب معها الآخرون في نشوب حرب كونية. رقصة التانغو تتطلّب اثنين. لا يجدون الشريك المناسب ليحاربوه. رغم ذلك، وقوع غير المتوقّع، كخطأ بشري مثلاً، ممكن أن يقود الى الحرب.
يصعب على الرأسمالية الاقتناع بأن لكل شيء حدودا. لذلك تنشر الفوضى حيثما استطاعت، خاصة في منطقتنا العربية. في الصحراء العربية الكثير من النفط، ووهابية النفط، ودين يوجّه لإنتاج الفوضى والإرهاب والهجرة. تدعم هذه الرأسمالية أنظمة الصهيونية، وتدّعي صفقة القرن. لم تعد تريد حلاً عن طريق الفلسطينيين، بل عن طريق عرب النفط. لا تعرف أن المشاعر العربية، وهي جوهر قضية فلسطين، لا تحلّ بالنفط وعرب النفط وبضعة مليارات من الرشاوي للشعوب. يعرف سكان المنطقة أن الأمر متعلّق بعروبتهم، وأن فلسطين هي الظاهر لا الجوهر. تؤيّد الرأسمالية المالية جيوش النفط في كل مكان، والطغاة في كل مكان آخر في العالم. الشعوب العربية تحمل قضية المصير البشري الآن. الهجومات عليها من كل مكان، من كل الدول الكبرى والوسطى والإقليمية.
هو صراع غير متوازن بين مشاعر وإرادة الشعوب العربية ونظام العالم. ألا يسترعي الانتباه أن كل ثورات العرب منذ 2010 ـ 2011 سلمية، وأن هناك من وضع الجيوش في مواجهتها، ورمى السلاح في الساحات العامة من أجل نشوب الحرب الأهلية. أمر غير مسبوق. أنظمة توزّع السلاح على خصومها، وتطلق من السجون مجرمين لتأسيس داعش، بعد القاعدة. هناك ما يشير الى عجز تام لدى الأنظمة العربية. المشكلة أن الشعوب العربية لم تتعلّم بعد كيفية اسقاط الأنظمة وإرجاع العسكر الى الثكنات، أو حل الجيوش العربية. القوى العسكرية العربية، جميعها تقريباً، تأخذ أوامرها من قادة النظام العالمي. القمع كما يبدو لن يدوم. الشعوب تتعلّم بسرعة كيف تسقط الأنظمة. انقاذ العالم من عسكر العرب هو إنقاذ للعالم. مهمة كبرى ملقاة على عاتق الشعوب العربية. لم تعد الثورات الشعبية ناجحة رغم أهميتها. ولم تعد الانقلابات واردة لأنها تعيد الأمور الى ما كانت عليه. من جنوب البحر المتوسط الى المحيط الهندي منطقة عربية فيها الكثير من الإثنيات التي يحقّ لها الاستقلال، لكن المشكلة العربية لن تحلّ إلا على طريقتها. أسباب كثيرة تمنع اكتشاف الأساليب الصحيحة. نشبت الثورات العربية على طريقة الثورة الفرنسية عام 1791. ثورة شعبية، مرة تلو الأخرى، تصاب بالفشل مرة تلو الأخرى. تمسك قيادة العالم النيوليبرالية الأمر بيدها. تسوّق لما يُسمى صفقة القرن ولا تدري أنها ماتت قبل أن تولد.
استعصاء العروبة هو أزمة القرن. تشخيص قادة العالم هو أن الأزمة في مكان آخر. لا يدركون أن لا صفقة من دون حق هذه الشعوب بكرامة العيش. هذا ممنوع عليهم. لا يستطيع قادة العالم تقبّل ذلك. العروبة ليست في خبر كان. هي جوهر الأزمة العالمية. تلعب اللغة هنا دوراً كبيراً. إبادة الشعوب العربية يتطلّب إبادة لغتهم. الأمر مستحيل. الحل مستحيل لأن قادة العالم لا يفهمون ذلك.
الإله القديم خلق العالم وتركه لمصيره؛ ربما لا. لكنه إذا تصرّف يعرف أكثر من النيوليبرالية التي لا تعرف حدودها، ولا تعرف حدود سيطرتها. معروف أن المواجهة بين الشعوب العربية والنظام العالمي غير متكافئة. لكن من قال ان حروب التحرر الوطني كانت متكافئة؟ حسمتها السياسة. وهذه انقلبت بإدارة النظام العالمي من التحرر الى الانقلابات والعسكر. معروف أن كل انقلاب عسكري، أنتج سلطة في بلد عربي، هو مدبّر ومخطط خارجياً أو بقي على قيد الحياة بفضل هذا التدبير.الأنظمة العسكرية التي جاءت بعد الاستقلال، والحروب الأهلية بعد ثورات 2010 ـ 2011 أنهكت الشعوب العربية. وهذه منهكة منذ قرون؛ بل متأخرة منذ قرون.
الشعوب العربية تطالب بالحكم المدني، وبالمشاركة في تقرير مصيرها. المصير حدّدته ثورتا تونس ومصر بالعيش والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. النظام العالمي يعتبر الحل في صفقة تدعمها بلايين الدولارات في فلسطين. لا يعرف قادة النظام العالمي أن جوهر قضية فلسطين هو القضية العربية وما يطالب به الشعب. يختصرون المسألة الى القول ان جوهر القضية العربية هو فلسطين. لا أيها السادة. تستطيعون عقد صفقة القرن إذا أبيدت الشعوب العربية؛ الحروب الأهلية العربية الآن مقدّمة لحرب إبادة القرن؟
إذا أخذنا بالاعتبار أن النيوليبرالية ليست بمنتهى الغباء، يمكننا أن نلمح بصيص أمل. لكن ما يجري على الأرض يشير الى غير ذلك. حرب الإبادة واقعة لا محالة، ولو تدريجياً. فهل ستكون نهاية العالم أم نهايتنا نحن؟ ما لم يتغيّر العالم ستكون نهايتنا نحن.
(يتبع)
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق