طلال سلمان

الأشياء تحزن

عشت في مدن عديدة وسكنت بيوتا أكثر عددا. أكاد بالفعل أخطئ في تحديد عددها. الغريب أنني في الأصل نشأت في بيئة وتقاليد تحرض الشاب على أن يتزوج وينجب في البيت الذي ولد ونشأ فيه. قيل إن أمي، وهي العروس وقريبة أبي، انتقلت من بيت أمها الملاصق لتعيش في بيت أهل زوجها. هناك عاشت سنوات حتى انتهى والدي من مرحلة التعليم وأجبرته الوظيفة الحكومية على الانتقال من الحي الذي ولد فيه هو وأمي إلى حي قريب من “الديوان”. عرفت بعد حين أننا انتقلنا بشروط أهمها أن تقضي أمي وأولادها عطلة نهاية الأسبوع في بيت عائلتها وفي نفس غرفتها التي عاشت فيها مع أخواتها ولم تغادرها إلا لتتزوج. سكنت مع أهلي في البيت القريب من الديوان طوال مرحلة مراهقتي وانتقلنا منه إلى بيت آخر عشت فيه مدة عام رحلت بعدها إلى الخارج.


لا أذكر أن علاقة خاصة نشأت بيني وبين مسكن سكنته. لا أذكر أنني تركت آسفا أو حزينا مسكنا من كل المساكن التي سكنتها على امتداد سنوات العمل في الخارج أو في مصر. لاحظ أصدقاء هذا الأمر وناقشوه فيما بينهم ومعي أحيانا. سمعت منهم، وبينهم خبير وآخر متخصص، استنتاجا مثيرا. استنتجوا أنني تعرضت لصدمة أو أكثر عندما انتقلنا من مسكن تشاركني فيه عائلة ممتدة إلى مسكن ضمن عائلة محدودة العدد وقليلة الصخب والزوار والمفاجآت. تعقدت الحالة، في رأي هؤلاء الخبراء من الأصدقاء، عندما انتقلت إلى مرحلة أخرى في الحياة أهم سماتها التنقل غير المنتظم وأحيانا غير المبرر. سكنت مرارا، وبالتحديد في مدينتي روما وبيونس آيرس في شقق لا أملك معظم محتوياتها وبخاصة أثاثاتها. وفي إحدى المرات لم نمكث في بيت أكثر من أسابيع قليلة انتهت بصدور قرار من القاهرة بنقلي وعائلتي إلى عاصمة دولة أخرى، قرار لم يكن هناك ما يبرره أخلاقيا ولا مهنيا، وما تزال رواسبه وآثاره تذكرني بمرحلة هي بلا شك الأصعب في حياتي المهنية والسياسية. كانت أيضا بين المراحل الأصعب ماديا.


كان طبيعيا أن لا تنشأ علاقات من نوع خاص بيني وبين أشياء لا أملكها. علاقاتي بأغلب الأشياء التي تعاملت معها في بيوت سكنتها خضعت لقواعد باردة أشبه بقواعد حكمت علاقاتي بمعارف من البشر التقيتهم في رحلة قطار أو قاعة انتظار بمطار قضيت معهم وقتا طويلا أو قصيرا وافترقنا فراح كل منا إلى حال سبيله. شقق وبيوت عديدة سكنتها لم تتعلق بي ولم أتعلق بها. نعم هناك الذكريات. ذكريات ليست كالذكريات. لا أظن أن بينها ما تعلق بشيء معين كوسادة بعينها أو طاقم حديقة بعينه. كيف يكون بينها حنان إلى قطعة أثاث لم أمتلكها ولا حتى ائتمنتها على أسرارنا وخصوصياتنا. هذه الأشياء كانت دائما مثل رقيب أو دخيل مفروض علينا وعلى ضيوفنا. لم يختلف هذا النوع من الشعور كثيرا عن نوع يرافق إقامتنا في كل الفنادق التي نزلنا بها. لا يعني هذا أنني لم أعجب بلوحة رائعة كانت في شقة استأجرناها بشارع ليبرتادور في بيونس آيرس وأوصتنا بها خيرا مالكة الشقة. ولا يعني أننا لم نقض أياما سعيدة وبهيجة في روما في شقة بسيطة الأثاث في بناية تطل على شارع تسكنه شريحة من موظفي الطبقة الوسطى الإيطالية. قضينا فيها أياما حقا طيبة وأحلى كثيرا من شهور قضيناها في شقة أخرى مفروشة بأرقى أحياء العاصمة الإيطالية، كان يسكنها قبلي زميل وصديق عزيز. الأولى استضفت فيها أستاذا في جامعة القاهرة وعروسه في أوائل أيام شهر عسلهما. أما الثانية فكان من حظها السعيد أن يستخدم أشيائها زميل في قنصليتنا بميلانو ويلتقي فيها بعروسه في ليلتهما الأولى بعد أن تعذر عليه السفر إلى ميلانو في قطار الليل. عاشت العروس إلى يومنا تشيد بالراحة والاستعدادات التي وجدتها في انتظارها بشقتنا في حي باريولي الأنيق. لم أظن يوما أن قطعة من أثاث هذه الشقة أو تلك سوف تتذكر بالحنين أو بالشغف هاتين المناسبتين أو غيرهما من مناسبات عديدة. مثل هذه الشقق المؤجرة ومفروشاتها المستعملة عائلة بعد عائلة وضيوفا وراء ضيوف لم يكن يخطر على بالي أنها يمكن أن تحزن لرحيلي أو يمكن أن تتذكر لحظة حب بعينها كانت شاهدة عليها أو طرفا فيها. كيف تذكرني بعد أن فرقت بيننا من السنين خمسون سنة أو ما يزيد، كيف تذكرني وقد بلى من أطرافها وكسوتها ما بلى وتحملت من قسوة الزمان وغدر الإنسان ما لا يتحمله شيء آخر أو كيان عادي.


زارتني صديقة تعرف عما يحدث وراء الطبيعة أكثر من كثيرين بحثوا وتعمقوا وتفلسفوا. قالت “جئت أساعد في لملمة أوراقك ورفع معنوياتك وأنت تستعد للانتقال إلى بيت آخر في الضواحي. تفهمت مبرراتك في المرة الماضية، أي قبل أربع أو خمس سنوات. أذكر أنك تعللت بالحاجة إلى أن تبتعد عن أشياء في البيت لبعض الوقت. أتفهم أيضا مبرراتك هذه المرة. أسمعك تتعلل بالضجيج الذي تصدره آلات الحفر والغوص في بطن شارع جامعة الدول العربية وتشكو من الحال الذي تدنى إليه حي المهندسين.

أقدر يا صديقي أسبابك وشكواك ودوافع بحثك عن مكان هادئ تعيش فيه “أحلى أيام عمرك” كما تسميها. أنت جئت إلى هذا الحي عندما كانت أرضه مزارع وأغلب كائناته قطعان ماعز وبدويات ممتطيات ظهور حمير وبدا من الخريطة الأولية أن حي المهندسين مخطط له أن يكون نموذجا لما يجب أن تكون عليه ضاحية من ضواحي عاصمة محترمة كالقاهرة. أنت تقارن بين عصر وعصر، تقارن بين حلم ووهم، بين الممكن والمستحيل، بين الجمال والقبح.

جئت إليك أملا في تخفيف عبء النقل عليك، ولكني جئت لسبب يخصني وربما لا يهمك. جئت عندما نقلوا عنك رغبتك في الاستفادة من خبرة سباك يستطيع إصلاح مواسير مياه مثقوبة ومواسير مسدودة. وفي اليوم التالي أبلغوني بحاجتك إلى فني كهرباء يشفي علل شبكة الكهرباء التي توقفت عن العمل بدون سابق إنذار. وفي مساء اليوم ذاته جاءت نتيجة تقرير مبعوث شركة البرادات عن براد توقفت مروحة الفريزر الخاص به. وبينما كنا على الهاتف نقيم الوضع سمعت صوت السيدة التي تساعد في منزلك تعلن أن جهاز التكييف الذي عمل طول اليوم كان يسمح للمياه التي ينتجها بالخروج إلى داخل البيت بدلا من التساقط خارجه فوق رؤوس المارة.

عزيزي سوف اسمعك ما لن يعجبك. ما يحدث في بيتك الآن لا يخرج عن كونه تمرد “أشياء” خدشت كبرياءها. أنت في نظرها تخون عشرتها. تتركها لأنها شاخت وتذهب لتعيش في كنف وأحضان أشياء أصغر سنا وأقوى احتمالا وأحلى نضارة. قد يتحسن الوضع في بيتك لو أنك اعترفت بأن للأشياء نصيبا في عالم الأرواح ودورا في صنع الذكريات. لا تنكر أن أكثرها ائتمنك على حياته وصحته وحافظ على عهده فكان كتوما وصادقا وأمينا.

يا صديقي، “أشياؤك حزينة.”

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version