طلال سلمان

الأزمة الحكومية في المسامرات العربية!

صار السؤال، في بيروت، عن «الحكومة الجديدة» نكتة سمجة!
أما خارج بيروت، وفي أي عاصمة عربية تقودك إليها المصادفات أو دواعي العمل، فإن مثل هذا السؤال يغرقك في عرق الخجل من ذاتك، ويكاد يدفعك إلى إطلاق اللعنات والشتائم على «الطبقة السياسية» جميعاً باعتبار أنها من يفرض عليك هذا الموقف المحرج الذي لا تعرف له تفسيراً من خلال «الوقائع الظاهرة»، ويصعب عليك بالتالي أن تشرحه للآخرين وسواء أكانوا مهتمين أو معنيين أو تدفعهم إلى السؤال غرابة الموقف أو وجوه الطرافة فيه!
للحظة، تستشعر شيئا من المهانة: لقد صرنا موضوعاً للتندّر!
وقد يندفع بعض إخوانك العرب ممّن صيّرتهم الظروف خبراء في الشأن اللبناني إلى الغوص في التفاصيل التي لا تنتهي لهذه اللعبة العبثية التي تتوالى مشاهدها المكرّرة والمعادة فوق المسرح السياسي في بيروت، والتي لا تقدم النص الأصلي والكامل للرواية الجاري تمثيلها، ثم ينتهي إلى صدمتك باستنتاجاته المنطقية:
ـ كيف تعجزون، وأنتم النخبة بين العرب، كقادة رأي وفكر، كتاباً وشعراء وبحاثة وأساتذة جامعيين، وكرجال أعمال ناجحين واقتصاديين أكفاء، وخبراء في التقنيات الحديثة ومديري مصارف تكاد تتفوّق في مساحات نشاطها وتعدد فروعها على المؤسسات الغربية العريقة… كيف وكل منكم سياسي محترف يستند إلى خبرة عقود في العمل النضالي والحزبي، يميناً ويساراً ووسطاً، ثم إنكم المجلون في المقاومة إلى حد تحقيق النصر على العدو الإسرائيلي الجبار… كيف، بعد هذا كله، تعجزون عن تشكيل حكومة، لن تكون أكثر من مجرد حكومة أخرى يحكمها التوازن الداخلي وتضبط إيقاعها التوازنات الخارجية، عربية وإقليمية ودولية؟!
مع وصول محدثك إلى هذه النقطة تشعر بشيء من الارتياح: لقد أعطى نفسه الجواب عن أسئلته الغزيرة… لكنه لم يحل لك مشكلتك!
فإن أنت سلّمت بصحة تحليله كان عليك أن تلغي نفسك.
أما إن حاولت التصدي لمنطقه فلسوف يجب عليك أن تنقضه، وهذا أمر متعذر في ظل الوضع القائم في لبنان وفي المنطقة من حوله.
واقع الأمر أن «المحليات» قد انتفت أو تكاد، ليس في لبنان فحسب، بل في المنطقة العربية جميعاً، وحكاية «الحكومة اللبنانية» الجديدة شاهد وشهيد!
يكفي أن تستمع إلى مزارع في قرية قصية حتى تكتشف أن لبنان «جرم صغير» لكن فيه انطوى العالم جميعاً: إنه يخبرك ببساطة أن تشكيل الحكومة يقتضي تفاهماً سورياً سعودياً، وبالتالي إيرانياً أميركياً، لكن «الفيتو» المصري يعطل الدور السعودي، و«الفيتو الإسرائيلي» يعطل الدور الأميركي إلا إذا جاءه بـ«التطبيع العربي»، أي شطب «القضية الفلسطينية»!! وهذا يعني فرض توطين الفلسطينيين حيث يقيمون، ولا مشكلة في هذا إلا في لبنان، إذ انه يخل بالتوازن المختل أصلاً فيه بسبب غلبة المسلمين عدداً على المسيحيين.
هكذا، ببساطة مطلقة، يصبح تشكيل حكومة مفلسة حكماً، وعاجزة أصلاً عن الإنجاز، في بلد صغير بعديد سكانه عظيم باختزانه الأزمات المتفجرة في هذه المنطقة الغنية أرضها بأكثر من قدرة أهلها على حمايتها، «أزمة عالمية» لا بد من أن تشارك دول الكون جميعاً في توفير الحلول لها، عبر مساومات قاسية، تمتد ما بين أسعار النفط والسيطرة على منابعه، إلى حماية مستقبل إسرائيل بتمكينها من أن تبقى «الدولة» الوحيدة في قلب صحراء غنية تتوزعها قبائل وعشائر متنازعة على الأرض كما على السماء، فإلى «تدجين» إيران ـ الثورة إن تعذر شطب نظامها الإسلامي المختلف.
يمكن لعباقرة التحليل البوليسي للتاريخ أن يمدوا أبصارهم إلى الأمام أكثر، فيتنبأوا بأن تقوم، في غد قريب، إسرائيل الكبرى لتكون دولة اليهود في العالم، وهي هي «أميركا الصغرى» المرتبطة بالدولة ـ الأم في واشنطن بحبل الوريد، وأن يطرد شعب فلسطين، أو من تبقى منه في أرضه الأصلية جميعاً، وأن يطارد في منافيه حتى يذوب تماماً وتذوب معه قضيته المقدسة، وأن يتحرر منه «العرب» في دولهم الكرتونية القابلة في أي لحظة للانهيار عبر الصراعات القبلية والعشائرية معززة الآن بالمسوغ المذهبي.
[ [ [

يجب أن تكون أزمة الحكومة الجديدة فخمة التعقيد وعظيمة النتائج ومهولة التداعيات كي يصبح مفهوماً أن تطول وتطول وتطول حتى ليستحيل حلها!
احتراماً لما تبقى من عقولنا فضلاً عن كرامتنا، نتمنى أن تصدر بيانات فخمة عن المسؤولين الكبار، أصحاب الألقاب المعظمة، تقول ما مفاده أن أزمتنا كونية!! وأن حلها يتوقف ـ مثلاً ـ على انتصار الخير على الشر، وانتصار الحق على الباطل، وأن لا علاقة لهذا الشعب اللبناني البريء من أسباب التعقيد التي تجعل تشكيلها مستحيلاً!! يكفي ما لحق بهذا الشعب من إهانات ومظالم.. خصوصاً وقد برهن أنه يستطيع أن يعيش بلا حكومة!! بل ان ما أصابه من ازدهار ورواج وازدحام لطلاب المتعة فيه خلال شهور الأزمة يشهد له بأنه يحقق دخلاً استثنائياً بالعمـــلة الصعبة ويساهم في التخفيف من عجز الخزينة، إن كانت سراياته نظيفة من شاغليها ومجلس نوابه في عطلة، وإداراته في غيبوبة مستديمة!…

نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 7 ايلول 2009

Exit mobile version