طلال سلمان

الأرخبيل الفلسطيني بين محمود درويش وأكرم هلال

دخلت »الوردة« بهدوء لافت تتقدمها ابتسامتها المضيئة فتزيد من وداعة قسماتها، وتكاد تضفي عليها ملامح المناضلة، او الأم، او كلتيهما… ومع التحية أطلت فلسطين، بصورتها الأصلية التي تُمسخ الآن وتشوَّه، فاحتلت المكان والوجدان ومتن الحديث وسداه.
قالت الصديقة الآتية من الارض  العائدة الى الارض، البسيط لباسها، البسيطة كلماتها، والعميق وجعها:
أنا عائدة غدا الى البرزخ. ففلسطين الآن، او ما تبقى منها، برزخ او ارخبيل من الجزر المقطعة أوصالها، والمقطوع بعضها عن البعض الآخر. كل مدينة او قرية معزولة عن الاخرى؛ معزولة بالمستوطنات واسوارها العالية (ستة امتار على الأقل، لحماية المستوطنين من عيون اهل الارض..)، ومعزولة بالطرق الالتفافية التي استهلكت ارض من تبقى من الفلسطينيين في ارضه… ثم ان العزلة نفسها تعمِّق جذورها في النفوس، فتغدو  مع تعقيدات الأذون بالخروج والمرور والعودة  سجنا عظيم التحصينات يصعب اختراقه او تخطيه، فنكاد نموت خلفه او في داخله.
وقالت »الوردة« التي كان العطر الآتي معها من الارض المقدسة يخيم علينا في المكتب المفتوح للمواجع:
لكي تصل من رام الله، مثلاً، الى بيت لحم، وبالعكس، تحتاج الآن الى ساعة او يزيد لمسافة بسيطة كنت تقطعها في عشر دقائق. والأهم انك مضطر، في انتقالك هذا، الى أن تقطع وادي النار… اي انك مضطر الى أن تهوي عميقا الى ما تحت سطح البحر (منطقة البحر الميت وأغواره) مرة اولى، وتصعد جبالا، ثم تهوي مرة ثانية الى ما تحت سطح البحر وتصعد من جديد الى الطريق في الاعلى لكي تصل بعد ذلك الى بيت لحم. لم يعد لكلمة »جيران« معنى. لم يعد أحدنا جار الآخر. اما الوصول الى القدس الشريف او الخروج منها الى البلدات المحيطة بها، فدونه خرق القتاد. فسور المستوطنات يعلو كل يوم، والإسار من حولها يكتمل. صارت القدس العربية جزيرة معزولة عن بقية الضفة بزنار من النار والبارود وجدران من الاسمنت المسلح والجنود المسلحين والحواجز المسلحة. السور يضيق على مَن في القدس العربية ويضيق من حولها يوميا، والعزلة تكاد تخرجها من الجغرافية لتحبسها في الذاكرة.
توقفت الصديقة التي انتبهت الى انني اعرفها من ألف عام، ثم عادت تتابع سردها بلهجة مثقلة بالايمان والحزن والتفاؤل الطارد للألم. قالت:
للعزلة امراضها. اننا مهددون بخطر الانشغال كل بنفسه وبمشكلاته اليومية الصغيرة التي تستهلك وقته وأعصابه، فلا يتبقى ما نعطيه للقضية، فتتهاوى القضية. فالقدس الآن غير نابلس، والخليل غير رام الله، وجنين غير بيت لحم، وغزة غير هذه جميعا. ولكل مشكلات مختلفة بجزئياتها عن الآخر. ثم ان اهالي فلسطين 1948 غيرنا جميعا. انهم، بنسبة ما، افضل حالا منا، وهم يتمتعون بمزيد من حرية الحركة كونهم »مواطنين اسرائيليين«. صارت مواطنيتهم المفروضة، والتي كانت مصدر عار وخجل، امتيازا لهم علينا.
سكتت لحظة قبل ان تضيف: املنا الوحيد في الثقافة. ان محمود دررويش زلزال دائم. ويحيى يخلف ومعه بعض الكُتّاب والمبدعين يفعلون ما يمكن اعتباره معجزات. لقد صدرت »الكرمل« مجددا، ومن فلسطين هذه المرة. ومؤخرا إحياء محمود درويش ندوة استمرت اربع ساعات متصلة، ثم فتحت الاذاعة الحوار مع المستمعين فانهالوا عليه بالاسئلة، واستمر يجيب لمدة ثلاث ساعات متصلة.. وكان يعوّض برقي الأجوية على تهافت الاسئلة احيانا، وتفصيلتها احيانا اخرى.
انتبهت، فجأة، فهتفت: احمل إليك سلاما خاصا. طبعا انت تتذكر اكرم هلال! لقد عاد. ترك الامارات، حيث العمل المريح والدخل الجيد، وعاد الى فلسطين. وهو يعمل الآن في فرن. لقد تحمل من العذاب ما يفوق التصور، لكنه نجح اخيرا ونال الهدية واستقر في رام الله.
أيُذكَر اكرم هلال؟! وهل يمكن ان يُنسى هذا الأكرم هلال؟!
كان أكرم هلال مصورا في »السفير«.. وكان يقاتل الحرب بالصور.. خلال حرب السنتين، وفي واحدة من المعارك قرب معهد هايكازيان، وبينما كان اكرم هلال يلتقط صورا للاشتباك، هوت قذيفة فأصيب بشظاياها العديد، وكان أحدهم مقاتلا رآه اكرم يهوي في منتصف الشارع وسط بركة صغيرة من دمائه سرعان ما اخذت تتسع.
لم يكن ثمة من ينجد او يغيث.
واندفع اكرم هلال الى منتصف الشارع لينجد الضحية، فانهمر عليه رصاص قناص كان كامنا في احدى البنايات القريبة.
برغم الاصابة، تمكن اكرم من سحب الجريح الى حيث يداريه مدخل عمارة جانبية عن رصاص القناص، بينما هو ينزف بغزارة. كان الرصاص قد اصابه في ساقه اليسرى، في الفخذ وتحت الركبة بقليل.
وفوجئ مَن في الصحيفة بأكرم يدخل عليهم والدماء تغطي الاسفل، وقميصه ممزق، وهو يحمل الى جانب كاميراته رشاش المقاتل الجريح.
سلّم الفيلم عن الاشتباك، وأوصى بأن نبلغ اهل الجريح باسمه والمكان الذي حُمل اليه، وعندها رضي ان نحمله الى المستشفى، وصدره نصف مكشوف، لأنه كان قد مزق قميصه ليجعل منه رباطا لساقه.
ليت فلسطين هي الفرن…
لكن اكرم هلال هو فيها الآن… يصنع الخبز للناس، ناسه، ناسها. وفلسطين تستحق دماء اكرم.
لكن اكرم يستحق الوطن، وليس وظيفة اجير الفران، بهوية في احدى جزر الارخبيل المهدَّدة هويته، كما ارضه المستقطَعة يوميا، بعدُ.

 

تهويمات في لحظة غياب

خيمة الحزن واسعة الجنبات، والصمت هاوية بلا قرار، وأنت فيها وحيد.
الحزن الشخصي أنانية مفرطة في زمن الأحزان الجماعية النبيلة.
سر الحياة الاستمرار.
الحياة هي الأقوى. ينهش منها الموت فلا هي تتوقف ولا هو يرتوي. لكأنها تغذيه بأسباب استمراره ليظل شهادة على استمرارها هي وعلى أنها الأقوى.
هل تأملت مرة ورود المقابر؟!
هل هم الناس يجمّلون الموت، أم يعلنون تحديه في عقر داره؟!
هل ينافقونه ويتوددون إليه، أم يقولون له إنهم باقون بعده، وإنه مهما أخذ منهم فلن يقدر عليهم جميعا، بل هم سيتكاثرون دائما حتى يتعب فيتقاعد أو يستقيل؟!
ولكنهم يعرفون أنه باق، وأنه يتوقف فقط بتوقف نهر الحياة عن الجريان، والنهر مستمر أبداً في التدفق؛ يذهب بعضه في الأرض، وقد يطوف أحيانا فيخسر الفائض من مائه، لكن الطبيعة تمده دائما بأضعاف ما يفقد عبر مسيرته الطويلة، فتستمر اللعبة ولا انتهاء: يجيء الآخرون فيملأون الأرض التي فرغت من بعض أهلها، ويضيفون المزيد من العبث والإنتاج والبهجة والضجيج.
وفي المسامرات التي تعقب وداع الأحبة، يكتسب الموت ملامح إنسانية. لكأنه يأخذ لنفسه ملامح الذين غابوا… فتهدأ النفوس، وتختفي نبرات الغيظ والحنق واللوعة، ويصير الموت أليفا، بل قد يبدو أحيانا في سمت ملاك الرحمة.
في البدء يتصرف الناس وكأن الموت قد جاءهم من خارجهم. ثم تهدأ الخواطر والعواطف، ويكتشفون أن الموت كان دائما يجلس الى مائدة العشاء معهم، ويركب في السيارة أو الطائرة إلى جانبهم، وأن له مسكنا في أعماق الصدور، وأنه يعرف أنهم في حاجة إليه، وأنهم لا بد سينادونه لكي يخلص الحياة مما يعتكرها، ويساعدها على استعادة صفائها، لتظل قادرة على الوفاء للآخرين بما التزمت لهم به من وعود وتعهدات بأن تمنحهم السعادة والقدرة على التمتع بطيبات أيامهم.
لا يموت إلا الميت.
لا يحيا إلا الحي.
وبالأحياء وللأحياء تستمر الحياة.
فخذ حياتك بيديك واعطها نفسك، كل نفسك، بلا تردد.
العمر واحد، لكن الحياة أوسع من فضاء الله لمن يعرف كيف يأخذها وكيف يحفظها وكيف يملأ أفقها الرحب حتى آخر ثانية فيها.

 

أنده على حرس الحب

كيف استطاع السوس أن ينخر الضوء؟
كيف استطاع السم أن يتسلل إلى منبع الحب؟
أليس بالحب نحمي الحياة ونمنحها المعنى، كيف إذاً، يضعف الحب أو تخدشه مخالب القطط المتوحشة؟!
من أين تهب الريح الصفراء، وهل غفلنا عن إقفال المنافذ، أم أنها اخترقت مكمن القوة فينا، وكنا نحسبه الحصن ونستريح آمنين في جنباته؟
ولست أملك أن أدعوك إلى أن تُنقصي فيض حبك رحمة بقلبك، فكيف يحيا قلبك إذا ما أخلى الحب فجوة فيه للعدم أو للتحسر على ما فات؟!
يا ممتلئة حباً: هل لي أن آخذ عنك بعض أحمالك؟! هل تسمحين لي ببعض نعمتك؟
كيف تحملين على وهنك هذا القلب المترع بالحب؟
أدور داخل نفسي فأصطدم بجدران الأسئلة، ثم أرتمي صريعاً، حتى تخجلني التفاتة منك فأنهض لأكشح تلك الغابة التي انتصبت كثيفة أمامي بعلامات الاستفهام القميئة، الملوية الرؤوس كالمقهورين، الواقفة بساقها الهزيلة فوق نقطة هاربة من حرف لم يُكتب بعدُ..
أنده على حرس الحب. أصيح في أودية القلب طالباً النجدة. أمد بيني وبين السماء سلالم الأدعية. أكدس الأسماء الحسنى درجاً، وأطلب الشيطان إلى المبارزة وأنا الذي لم يمتشق سلاحاً غير دمه وبعض الكلمات المنذورة للشهادة.
أسقط في الخطيئة ذاتها كرة أخرى، مثلنا جميعاً. نبدأ بك وينتهي حديثنا بنا. نتذرع بك لنستعرض فضائلنا والهواجس. ندعي أننا نعطيك بينما نأخذ منك بلا انقطاع، وأنت لا تصدين طالباً ولا تتذمرين ولا تتدخلين لإيقاف اللعبة السمجة.
كيف استطاع السوس أن ينخر الضوء؟
لعلنا لامسنا قلب الشمس فاحترقنا.
لعلنا قد تجاوزنا…
ولكن أليس شرط تحقيق الذات أن نتجاوزها؟ أليس شرط الوصول إلى الله أن نتجاوز الإيمان؟! أليس شرط الحياة أن نتجاوز الموت؟ أليس شرط الحب أن نتجاوز قدرة القلب على الحب؟

 

من أقوال »نسمة«

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أبغض تعريفات الحب وكلمات الغزل تلك التي تجيء من بازار الحياة والاستهلاك اليومي: حبيبي الغالي، يا كنزي، يا ثروتي، كيف تبيعني وأنا شاريك؟!
وقال لي »نسمة« الذي أعرف أنه لا يتابع أغاني المحطات المرئية أو المسموعة: أحيانا تتعذر عليك حماية نفسك من الرداءة والابتذال، حتى لو أقفلت على نفسك باب بيتك… الرداءة كالوباء في الهواء، يصلك حيث أنت. هل سقط الحب نفسه في مستنقع الابتذال، أم أن محبي هذه الأيام بلا مخيلة؟!
وقال لي »نسمة«:
الحب سمو. الحب ذروة الارتقاء الإنساني. ولا يمكن أن يكون حباً هذا الذي تكون طريقه مثل هذه الكلمات الهابطة.
لا يعلّم الناس الحب إلا الحب. لم يدرس قيس بن الملوح الحب في المدرسة، ولكن حبه ليلى هو الذي يأخذ الناس إلى ذروة إنسانيتهم: إلى الحب.

Exit mobile version