طلال سلمان

اكلة دولة ديموقراطيا

أضعف »مؤسسة« في لبنان هي: الدولة!
»كلهم« أقوى منها، مع أنهم من دونها لا يكونون شيئù مذكورù!
الرؤساء، عمومù، و»القادة«، و»الفعاليات«، و»المرجعيات الروحية«، و»السوبر وزراء«، وإجمالاً: أمراء الطوائف منفردين ومجتمعين أقوى من الدولة بذاتها وبمؤسساتها المختلفة والمتعددة، مدنية وعسكرية وبين بين!
وهم يتباهون بقدرتهم ويعيبون على الدولة عجزها متناسين أنهم السبب فيه، ولا يدارون »عزيز قوم ذل« ولو حفظا للمظاهر!
من أين مصدر قوتهم، وأين يكمن السر في ضعف الدولة المسكينة؟!
هم أقوياء لأنهم »طائفيون« والدولة »علمانية«!
والدولة »مؤسسة عامة« يدين لها الجميع بواجبات كما لهم عليها حقوق، في حين أن كلاً من »الأمراء« و»القادة« يحتفظ »بدولته« مستقلة ذات سيادة، ثم يحاول أن يُدخل الدولة في سم »دولته«، فإذا ما تعذّر عليه ذلك ادعى الغبن ورمى الآخرين بالتعصب واحتكار السلطة!
* * *
لأن لبنان »كيان« سياسي وليس وطنù طبيعيù، بالارتكاز إلى الجغرافيا والتاريخ والعرق (مثلاً)، فنظامه توافقي يرتكز إلى »صيغة« مضمونها طائفي حتى وهي تتلطى تحت شعار الوحدة الوطنية المقدس (بأقل مما يعطى حاليù للسرية المصرفية من قداسة!!).
و»الكل« يعامل الدولة وكأنها أمر طارئ في لبنان وعليه،
فالكيان هو الأساس، بما هو الاطار السياسي للتمايز الطائفي عن سائر العرب، ولعل ذلك هو مصدر الهجانة التي تأخذ بعض اللبنانيين إلى وهم »الغربوية« عبر الفينيقية المقطوعة عما قبلها وعما بعدها والموصولة بسحر ساحر بأوروبا عمومù وفرنسا خصوصù مع انعطافة غير مبررة (سياسيù) في اتجاه الفاتيكان!
وهكذا فإن الكيان »الخالد« أهم بما لا يقاس من الدولة الطارئة!
والنظام بما هو تجسيد ل»الصيغة«، أي للتوازنات وبالأحرى التراتبيات الطائفية والمذهبية، أهم طبعù من دولة أنشئت بمسوغات طائفية.
تسقط الدولة، فيبقى النظام، وتتهاوى المؤسسات فيكون الحل تجديد الصيغة على حساب مشروع الدولة »البلا صاحب«، بينما لكل دويلة طائفية »رب« يرعاها!
لذلك فالدولة تقع في »أسفل سافلين«!
إنها »تحت« الكيان، و»تحت النظام«، و»تحت« الصيغة، وبالتالي »تحت« الطوائف!
على هذا فمنطقي أن تبقى المرجعيات الطائفية فوق مرجعيات »الدولة«،
للبطاركة آراؤهم التي غالبù ما تكون ملزمة، كذلك لكبار المشايخ والمفتين، وهم يعاملون أنفسهم ويتعاملون مع الآخرين أنهم إذا ما تواضعوا في مستوى الرؤساء، لهم بروتوكولهم الخاص، ولهم حق إبداء الرأي بالموافقة أو بالاعتراض على مجريات الحكم وتقاليد الحياة السياسية اللبنانية، وفي الاعتقالات القضائية والمحاكمات السياسية،
أكثر من ذلك: فهم يملكون حق النقض في حالات معينة، غالبù ما تكون هي الحالات المؤكدة أو النافية للدولة.
ولقد بات من المسلمات أن يقرّر رجال الدين، رفضù أو قبولاً، في مسائل الانتخابات النيابية والرئاسيات، في التعيينات كما في الرقابة على الكتب وإجازة المسرحيات إلخ…
* * *
صيغة ولا دولة، أم دولة ولا صيغة؟!
اتحاد لدويلات الطوائف أم دولة لمواطنين يهجرون طوائفهم إلى حلم الوطن؟!
هل يمكن أن تعيش الدولة في بطن الصيغة أم أنها تختنق وتغطس؟!
كنا برئاسة واحدة صرنا بثلاث، وربما زاد عدد الرئاسات غدù إلى ست (الطوائف الأساسية)، أو إلى سبع عشرة رئاسة طائفية، تحقيقù للعدالة وتكافؤ الفرص بين المعمَّمين جميعù بمختلف أزيائهم الفولكلورية،
وحين يبهت دور المعمّمين (مسلمين ونصارى) فلا يكون ذلك لحساب الدولة بل لحساب المرجعيات السياسية الطائفية أو المذهبية التي تتوسلهم حتى تتمكّن، فإذا ما تمكنت جعلتهم خلفها بانتزاعها تمثيل الطائفة في الدولة أو مصادرة دور الدولة لحساب الطائفة التي يمثلون… وباختصار المساهمة في إلغاء الدولة من خلال انتحال صفة رجالها!
وهكذا، فغالبù ما نجد بطاركة ومفتين في دست الحكم، بينما نجد »رجال دولة« في مواقع المرجعيات الروحية!
* * *
أية دولة هذه التي يمكن أن يبنيها أعداء وجودها، أعداء مضمونها، أعداء وظيفتها كمؤسسة عامة وبالمطلق؟!
أية دولة هذه التي يمكن أن يبنيها المتضررون من قيامها؟!
دولة بالطائفيين والمذهبيين؟!
هؤلاء يدمرون الدول والمجتمعات، فمن يطلب من الذئب حراسة الشاة؟!
الأطرف أنه يطلب أو يتوقع منهم بناء الديموقراطية، وحماية النظام الديموقراطي البرلماني، وتأمين سلامة »الجمهورية« واستمرارها؟!
هل نستغرب بعد ذلك كله أن يضيق صدر السلطة في لبنان بكتاب، أي برأي ووجهة نظر واجتهاد، حتى لو كان مخطئù؟!
وهل نستغرب أيضù أن يكون حرص »البطريرك السياسي« لهذه الطائفة أو تلك، هذا المذهب أو ذاك، على توظيف مرتش وترفيع فاسد أهم لديه من الدولة جميعù؟!
من ضمن هذا المنطق يبدو السعي للتمديد والتجديد للرئاسات والوزارات والنيابات في إطاره الحقيقي كمحاولة اغتيال برصاصة الرحمة للدولة أو مشروعها اليتيم،
وذلك حديث آخر في أي حال، ستكون لنا إليه عودة… ممددة!نبيلة هي أحزان الرجال الصابرين والمعتصمين بإيمانهم في مواجهة المحن الشخصية، والذين يقدمون الأمة على البيت، والوطن على الأبناء مهما غلوا،
ولقد وقف الناس مع حافظ الأسد في فجيعته بفارسه فارسهم، وبكوا معه »باسل« وكأنه ابنهم جميعù، واستحضروه بعد غيابه بأكثر مما كان حاضرù بينهم في حياته القصيرة والهائلة الغنى.
ولأن الناس أحبوا في »باسل« الصفات التي يحبونها لأبنائهم، فهم قد اندفعوا يحيطون حافظ الأسد وبيته وأسرته وبالذات منها »الرائد« الذي تقدم لتعويض »الرائد« الذي غاب، بأرق ما في حناياهم من مشاعر،
وهكذا فلقد أضاف »باسل«، بعد غيابه، إلى رصيد أبيه، مثل أو ربما أكثر مما أضاف إليه وهو حي،
لم يأخذ »باسل« من الناس. هم الذين أعطوه بقدر ما أحبوه، وليس بقدر ما عرفوه.
لم يفرض »باسل« نفسه على الناس، لكن الناس رفعوا صوره في صدور بيوتهم بقوة عاطفتهم وبتقديرهم لصفاته التي يفتقدونها في مجتمعات السلطة عمومù.
ولقد حمل الناس عن حافظ الأسد بعض حزنه البلا ضفاف على »باسل« خوفù عليه من أن يضعف، ففاجأهم بأنه غدا بعد مصابه أقوى وأصلب، وأنه قد اتخذ قراره بإرجاء الحزن ليعطي فكره كله وجهده كله للمواجهة مع العدو واستنقاذ المصير الوطني والقومي.
حافظ الأسد أكبر اليوم من أي يوم مضى، وهو مجلّل بحزنه الذي شحذ إرادة المقاومة فيه،
وباسل الأسد أكبر اليوم وهو يستوطن وجدان الناس الذين لا يخطئون في فهم الرجال، ولا يعطون عاطفتهم إلا لمن يستحقها.
ولعل الرائد بشار أمام امتحان جدي اليوم وهو يتقدم ليضيف إلى الرصيدين، مقتديù بقدوته ومثله الأعلى الغائب الحاضر.

Exit mobile version