طلال سلمان

“اقرأ يا نائل”

القماطية، هذه البلدة الوديعة المتكئة على سفح جبل بين عاليه وسوق الغرب، أي مسقط رأس فوزي صلوخ، حيث حبا وترعرع، ونشأ وشبَّ، هي محور الكتاب الذي بين أيدينا.

معها تعيش حياة القرية اللبنانية الهانئة، المضيافة، المُحبَّة. ومنها تطل على تقاليد لبنان وتراثه، على تاريخه الحديث، وعلى الأحداث التي مر بها الوطن، او مرت به، فتركت أثار بصماتها على عقلية ابنائه وقواعد العيش المشترك.

وقد شاء المؤلف استعراض كل ذلك على شكل رسالة بأسلوب سهل وشيِّق موجهة الى حفيده نائل، ومن خلاله الى أبناء جيله كدعوة للتعلق بالجذور، كما بالتراث اللبناني المجيد، وبالأصالة اللبنانية التليدة.

القماطية، محور هذا الكتاب، من أين لها هذه التسمية؟

في المعاجم، يقول المؤلف، القمْطُ هو كشدِّ الصبي في المهد، اذا ضُمَّت اعضاؤه الى جسده ثم لُفَّ عليه القِماط.

والقِماط هو حبل تُشدُّ به قوائم الشاة عند الذبح، او الخرقة العريضة من القماش التي تُلف على الصبي فتشد اليدين والرجلين معاً، فيُقال عنه انه مُقمَّط.

ويبدو بأن القماطية البلدة، اشتهرت بصناعة تلك القُمطُ التي تضعها نسوة القرى الجبلية على رؤوسهن، فتشد المرأة الصبية والمتقدمة في السن رأسها بقمطة، ثم تغطي هذه القمطة بمنديل.

إلا انه – بمعزل عن مصدر تسمية هذه القرية، كانت القماطية، بتنوع مجتمعها وتعدد طوائفها، صورة مصغرة عن لبنان الذي نحب. يروي فوزي صلوخ ان ابناء القماطية كانوا يمشون معاً في عيد الشعانين يحملون أغصان الزيتون المزينة بمختلف انواع الزهور.

يروي كيف ان أهالي القماطية من مسلمين ومسيحيين كانوا يذهبون الى دير الشير لتقديم التهاني الى رئيس الدير والرهبان في جميع المناسبات، وكان الراهب يمر بمناسبة عيد الغطاس على منزل آل صلوخ ويرش الماء المصلَّى عليه من أجل المباركة.

ويذكر المؤلف بكثير من الحنين حدائق البلدة الغنَّاء وأراضيها الخصبة المعطاء التي أصبحت بأكثريتها اليوم كتلاً من الباطون المسلَّح، وأبنية تباع بالشقة، ويتساءل بغصة اين بساتين “الحيارى”، اين هي اليوم كروم العنب والتين والزيتون ؟

كما يذكر بحزن ما أصاب المنطقة من تغيير وتبديل فزالت، أو تكاد، الصورة الجميلة ذات الألوان المتنوعة، المتقاربة خَلقاً وخُلقاً ومحبة، ليحلَّ محلها اللون الواحد، الباهت الحزين الذي لا تتقبله نفس مطمئنة ولا عقل راجح.

لم تكن القماطية بعيدة، في السياسة، عما يجري في لبنان، قديماً وحديثاً.

من طريف ما يروي الكتاب عن فترة الحرب العالمية الثانية ان البلدة شهدت مظاهرة كبيرة الحجم من مشايخ طائفة الموحدين الدروز، بلباسهم الموَحَّد تقريباً، لباس الرأس ولباس الجسد، تسير على الأقدام وتهتف مرددة:

درزي ممنَّع راسو كبير   ما بيرضى إلا بوزير

وقد تبين ان سبب هذه المظاهرة ان الحاكم الفرنسي (دانتز) ألّف حكومة عام 1941 برئاسة أحمد الداعوق لم تضم أي وزير درزي. لذلك استُنفرت الطائفة الدرزية، بجناحيها اليزبكي والجنبلاطي – ما اضطر الحاكم الفرنسي، من أجل احتواء هذا الحرمان، الى تعيين شخصية درزية محافظاً لمدينة بيروت.

لم تكن القماطية بمنأى عما يجري في لبنان من أحداث سياسية، بل كانت حاضرة دوماً – كما يتبين من الكتاب.

كانت حاضرة في الحرب العالمية الثانية وعاشت الصراع بين فرنسا “فيشي” برئاسة الماريشال بيتان وفرنسا الحرة بقيادة الجنرال ديغول، وفيما بعد الصراع بين فرنسا وبريطانيا، وما رافق كل ذلك من نزوح ومعاناة في العيش ومآسي.

كانت حاضرة أيضاً في معركة الاستقلال عام 1943 بالتصويت، صفاً واحداً، لمرشحي الكتلة الدستورية برئاسة الشيخ بشارة الخوري، وفي المظاهرات التي انطلقت من بيروت تدليلاً على الشعور الوطني، وفي احتضان الحكومة المؤقتة في بشامون بعد اعتقال الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح وزملائهما من قبل السلطة الفرنسية، وفي تقديم التهاني الى رئيس الجمهورية في مقره الصيفي في عاليه.

وبقيت القماطية حاضرة في الحياة السياسية بعد الاستقلال ترجِّح بأصوات أبنائها نائباً من هنا، وخطاً معتدلاً من هناك. واستطاعت خلال احداث العام 1958 المحافظة على هدوئها وأمنها واستقرارها، وعلى علاقات الجيرة الطيبة مع القرى المجاورة.

ويمر الكتاب على “العهود” الرئاسية التي تعاقبت على لبنان، فيتوقف أولاً عند عهد الشيخ بشارة الخوري في مرحلة تثبيت دعائم الاستقلال على أساس الميثاق الوطني. ثم ينتقل الى مرحلة تجديد الولاية بعد انتخابات نيابية مزورة، هذه المرحلة التي يصفها المؤلف بالصعود نحو الهاوية، والتي انتهت باستقالة الرئيس تحت ضغط معارضة الشارع.

كما يتوقف طويلاً عند ولاية الرئيس فؤاد شهاب، والسياسة الحكيمة التي انتهجها بالإنفتاح على العالم العربي مع التمسك بسيادة لبنان واستقلاله. هذا مع الاشادة بما تحقق على يديه من إصلاحات في الداخل، ومن وضع قانون للإنتخاب رفع عدد النواب من 66 الى 99 نائباً – ما ساعد على خلق أجواء هادئة واستقرار أمني.

ولا يُغفل المؤلف الاشارة الى ان هذا العهد شكَّل نقطة الإنطلاق لدخول كفاءات من أبناء القماطية في الادارة والتربية والسلك الخارجي، ولو ان عدد هؤلاء ما زال قليلاً بالنسبة لإزدياد عدد المتعلمين فيها من أهل الإختصاص.

.. كل ذلك، الى ان وقعت الواقعة، وحلَّ في لبنان ما لم يكن يتوقعه أحد، فدخل البلد عام 1975 في حرب سُميت، تأدباً وتهذيباً، أحداث لبنان الأليمة التي استمرت خمس عشرة سنة.

هذه الحرب التي فجَّرت الغرائز وتحوَّل فيها الإنسان اللبناني من حَمَل وديع الى ذئب كاسر يقتنص ضحايا بريئة.

بحجة التوجه الى حفيده نائل، يخصص فوزي صلوخ للكلام عن هذه الحرب القذرة فصلاً كاملاً، تختلط فيه ذكريات العام بالخاص في وصف لمعاناة اللبنانيين التي لم تترك عائلة إلا وأصابتها بمآسيها.

إلا ان الأهم هو ان المؤلف يتعرَّض، بجرأة تستحق التقدير وبموضوعية لأسباب الإحتقان الذي تفجَّر حرباً أهلكت، كما يقول، الزرع والضرع، وهي أسباب كثيرة. منها أسباب هي نتيجة تراكم عوامل قديمة: كمطالبة المسلمين بالمشاركة الصحيحة في الحكم، والإنماء غير المتوازن بين المناطق اللبنانية والوضع الاجتماعي السيء الموروث من أيام الانتداب الذي أدى الى النزوح نحو العاصمة وإقامة ما يُسمى حزام البؤس.

أما الأسباب المباشرة ففي طليعتها ما نتج عن القضية الفلسطينية من نزوح الى لبنان حيث ضيَّع البعض البوصلة فكادوا، يقول المؤلف، ينسون فلسطين ونخسر نحن لبنان. وقد انقسم اللبنانيون يومئذ جبهتين على أساس طائفي.

من هذه الأسباب أيضاً اتفاق القاهرة عام 1967 الذي أعطى الفلسطينيين حرية العمل الفدائي إنطلاقاً من جنوب لبنان.

منها أيضاً أحداث متفرقة ثمة رابط فيما بينها كإطلاق النار في بلدة الكحالة على موكب فلسطيني، وخطف الشيخ بشير الجميل من قبل مسلحين فلسطينيين ومقتل الزعيم الصيداوي معروف سعد الى حادث بوسطة عين الرمانة ومقتل ركابها من الفلسطينيين الذي أدى الى الانفجار الصاعق في 13 نيسان 1975.

*******

أرجو في ختام مداخلتي ان يسمح لي الوزير الصديق فوزي صلوخ بأن أتوجه بدوري، من دون سابق معرفة، الى حفيده نائل، لأقول له – مقتبساً من خطاب أندريه جيد الى الفتى إيمانويل:

.. والآن، عزيزي نائل، دَعْ جانباً كتاب جدك. ابتعد عنه، تحرر منه بعد ان زوَّدك بمعلومات ثمينة عن تاريخ لبنان وحاضره.

من الآن فصاعداً يعود لك ولأبناء جيلك تحقيق ما عجز جيلنا عن تحقيقه: أي بناء دولة تؤمِّن المساواة لمواطنيها، وتوفر لهم أسباب العيش الكريم.

ليس من حقنا، نحن – جيل جدك ووالدك -وقد تركنا لك ولأبناء جيلك وطناً أشبه بـ”مزرعة طوائف” ينخرها الفساد ان نرشدك وندلُّك على الطريق القويم.

كل ما أرجوه هو ان تتعلم من أخطائنا، فتتجنبها، للحفاظ على بلد يكون فيه الولاء مباشرة للوطن، لا ان يأتي في المرتبة بعد الولاء للطائفة او للمذهب. بلداً يعتبر ان صيغة العيش المشترك والإعتدال والتسامح واحترام الرأي الآخر هي التي تضفي عليه أصالته وفرادته.

بلداً، كما يختم جدك كتابه إليك، سيداً حراً مستقلاً ينعم بالرفاهية والإزدهار والسلم والأمن والأمان.

بهذه المهمة الصعبة الملقاة عليك وعلى أبناء جيلك، لك مني عزيزي نائل، دعائي بالتوفيق وتمنياتي، وكل محبتي.

 

* مداخلة في حفل مناقشة كتاب السفير فوزي صلوخ في دار الندوة – بيروت بتاريخ 9 آذار 2017

Exit mobile version