غزة ـ حلمي موسى
وفي اليوم التاسع والثمانين، وكما في كل يوم من أيام هذا العدوان الطويل، نأمل أن تزول الغمة ويتحقق النصر لشعبنا والانكسار للاحتلال.
**
كان من الواضح منذ زمن بعيد أن إسرائيل تتحين الفرص لاغتيال نائب رئيس حركة “حماس” صالح العاروري. وهي لم تخف رغبتها هذه في يوم من الأيام، وذلك قبل وقت طويل من طوفان الاقصى في 7 اكتوبر. فقد اعتبرته دوما الرجل الأكثر فاعلية في تحريك المقاومة في الضفة الغربية، ورأت أن استهدافه يشكل ضربة قوية للعمل المقاوم فيها.
وبعد 7 أكتوبر، ازداد السعار والحماس الاسرائيليين لملاحقة قادة “حماس”، وفي مقدمتهم العاروري.
لكن هذه المقدّمة التاريخية ليست هي الأهمّ في توقيت استهداف العاروري في بيروت. ولفهم هذا التوقيت ينبغي إعادة قراءة بعض المعطيات.
وفي مقدمة هذه المعطيات، الإعلان الأميركي عن سحب حاملة الطائرات “جيرالد فورد” وتوابعها من المنطقة. ثم يجب استذكار إعلان وزير الحرب، قبل حوالي شهر، عن معنى الضرب في بيروت. وبعد ذلك يمكن التذكير بتحذير الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله من لجوء إسرائيل لاغتيال لبنانيين أو فلسطينيين في بيروت وتأكيده أن الرد سيكون قاسيا.
وقد أشار المعلّق العسكري لصحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل الى أن انسحاب حاملة الطائرات “جيرالد فورد” يحمل رسالة أميركية واضحة بأن واشنطن تسحب رعايتها لهذه الحرب. ومعروف أن الخلاف اشتد مؤخرا بين الولايات المتّحدة وبين اسرائيل حول مسائل مدة الحرب ووجهتها وحول “اليوم التالي”. وليس من باب الصدفة أن تتناقل وسائل إعلام كبرى تصريحات لمسؤولين أميركيين حول عدم علم الإدارة الأميركية مسبقا بعملية الاغتيال.
ومن المعروف أن أسبابا عدة كانت خلف الحشد العسكري الأميركي حول إسرائيل أهمها تعزيز ثقة إسرائيل بنفسها بعد هزة 7 أكتوبر، ومحاولة ردع إيران. وكانت الخطوة الأميركية ترمي أيضا إلى إبعاد إيران عن الحرب وحصرها في أضيق نطاق ممكن، وإبعاد الحرب عن لبنان أيضا.
ولم تكن سياسة واشنطن هذه تروق للإسرائيليين الذين كانوا يطمحون الى البدء بلبنان أولا، حتى قبل غزة، ويتوقون إلى مشاركة أميركية في حرب ضد إيران. ولكن مخططهم فشل.. حتى موعد اغتيال العاروري.
وهنا، يُطرح سؤال حول إذا كان اغتيال العاروري رسالة لواشنطن أولا مفادها بأن لا شيء يمنع إسرائيل عن الاستمرار في تحقيق أهداف الحرب، ليس في القطاع فحسب، وإنما أيضا في لبنان، حتى لو قاد ذلك الى حرب إقليمية.
وكانت النتيجة الأولى لاغتيال العاروري هي إعلان وزير الخارجية الأميركي بلينكن عن تأجيل زيارته التي كانت مقررة لتل ابيب والتي كانت تهدف لمناقشة وجهة الحرب وكثافتها واليوم التالي.
وبعد ذلك، يأتي الحديث عن موقف إسرائيل من “حماس” وسعيها لتوجيه ضربة معنوية لقيادتها. ومن الواضح أن استهداف الرجل الثاني في قيادة “حماس”، والنجاح في قتله مع آخرين في لحظة حساسة له دلالات هامة. وإذا لم تكن لذلك أهمية على مستوى مجريات الحرب، فعلى الأقل تكمن أهميتها في تأثيرها على الرأي العام الإسرائيلي.
وهي أيضا رسالة موجهة لحماس بأن الحرب لن تتوقف وبأن لا شيء يمنع إسرائيل من مواصلة استهداف قادة حماس، وهو واقع مستمر بشكل أو بآخر منذ اليوم الاول لحرب 7 اكتوبر. فقد وضعت إسرائيل قائمة شبه معلنة لمن تستهدفهم من القيادات السياسية والعسكرية لحماس. حتّى أنها أطلقت على لسان كبار قادتها، تهديدات باستهدافهم في أي مكان في العالم.
وذكرت وسائل إعلام صهيونية إنه يمكن النظر إلى العملية على أنها بداية التزام إسرائيلي بالقضاء على كل من شارك في تخطيط وتنفيذ هجوم 7 أكتوبر في الداخل وفي الخارج.
ولكن يبدو أن الأكثر أهمية في التوقيت، هو البعد اللبناني ذاته.
فقبل أسابيع قليلة، قال وزير الحرب يوآف غالانت خلال مؤتمر صحافي: «عندما تسمعون أننا هاجمنا في بيروت، ستعرفون أن نصر الله تجاوز الخط الأحمر».
وإذا قرأنا تصريح غالانت بأوجهه المختلفة، يتبين أن معناه هو أن إسرائيل تستهدف، عبر اغتيال العاروري في بيروت، توصيل رسالة إلى حزب الله، وإيران أيضا، مفادها بأنها لا تخشى المواجهة وجاهزة للذهاب الى الحد الأقصى، أي الحرب الشاملة. وإذا لم تقد هذه العملية الى هذه الحرب، فإنها على الاقل تخلق ردعا في مواجهة مكونات محور المقاومة وفي مقدمتها إيران.
ومن البديهي أن هذا التهديد يضع حزب الله أمام اختبار صعب: هل سيرد بالمنطق والقواعد التي كان قد حددها، أم سيقرر احتواء الموقف والرد موضعيا؟
وكما سلف أعلاه، فقد هدد نصر الله إسرائيل من أن تتجرأ بالرد على السابع من أكتوبر باستهداف كبار مسؤولي حماس على الأراضي اللبنانية. وأوضح أنه إذا نُفذت مثل هذه الاغتيالات في لبنان فإن حزب الله سوف يرد تبعا لذلك.
وكان حزب الله قد حدد قواعد للرد بينها عسكريين ضد عسكريين ومدنيين ضد مدنيين والعمق بالعمق. ولذلك فإن رد حزب الله سيوزن بميزان من ذهبٍ عند كل الاطراف.
وفي إسرائيل، ثمة من يعتقد أن اغتيال العاروري هو في جوهره محاولة لاستعادة هيبة فُقدت في 7 أكتوبر، وعملية ترمي إلى الإعلان عن اجتيازها لحاجز الخوف من ردود الفعل، وجاهزيتها للتصرف كـ “زعيم الحارة” من جديد.
كما أنها تترك الانطباع بأن العملية هي نتاج اختراق استخباراتي رفيع المستوى، وأن سهولة تنفيذ عملية اغتيال في الضاحية في بيروت، التي تعتبر المعقل الأكثر حماية لحزب الله ينبغي أن تبدد الثقة التي يتعامل بها عدد كبير من القادة اللبنانيون والفلسطينيون هناك.
وخلاصة لا بد منها: تعمل إسرائيل، بنوع من المقامرة، إلى استدراج الحرب مع لبنان وتقول لواشنطن أنها لا تخاف من توسيع الحرب “حتى من دون وقوفكم الى جانبنا”. ومن المنطقي الافتراض بأن هذه المقامرة شديدة الخطورة، متعدّدة العواقب، وتقترب من باب الجحيم.