طلال سلمان

اعتذار من عيد

الدم يغطي وجه الأرض، ويكاد يطمس المعالم والملامح ويسد الطريق على الفرح، فمن أين سيأتي العيد إلى العرب الذين بالكاد اتفقوا على »هلاله«؟!
في لبنان تملأ دماء رفيق الحريري، ومعه باسل فليحان وسائر الرفاق الذين صحبوه في رحلته الأخيرة، ثم الذين تعاقب اغتيالهم بعد المذبحة، الشوارع والسرايات، الصحف وشاشات التلفزة، صحون الإفطار والسحور، المنتديات المحلية والعربية، وتفيض فتغطي منبر مجلس الأمن الدولي مصطنعة خطابه بدل المرة مرات.
في العراق تكاد دماء الضحايا تجرف الحدود بين الصح والغلط، إذ يتبرع أهل الفتنة بالتغطية على الاحتلال الأميركي وآلة القتل الجهنمية التي يديرها للفتك بالمدن والقرى، الأطفال والنساء ورموز الإشراق والنهضة بالثقافة والعلم وقد انطلقت أنوارها من بغداد أبي جعفر المنصور وهارون الرشيد والأمين والمأمون ليعم إشعاعها العالم كله.
يُسقط الاحتلال الدولة ويتبرع أهل الفتنة بتفكيك عرى الوحدة بين أبناء الشعب الواحد، ويتعاون الطرفان على إعادة العراقيين إلى صورة خلقهم الأولى: عرباً وأكراداً، أشوريين وكلداناً، يزيديين وصابئة… وبعد الفرز العرقي لا بد من ضرب اللحمة وتفتيت العرب أنفسهم فيتم الفرز بينهم سنة وشيعة، بما يضمن السيادة للاحتلال على الأرض بثرواتها التي عنوانها النفط، وعلى »الشعب« الذي تأخذه لوثة الدم إلى افتقاد هويته ويساق إلى تدمير مستقبله بعجزه عن حماية حاضره.
ينهمر شلال الدم العراقي غزيراً فيشق في الأرض الرخوة مجاري إلى محيطه، ويكاد يندم الذين سهّلوا للاحتلال تحت شعار الخلاص من الطاغية حين يكتشفون متأخرين أن الاحتلال لم يأت لنجدتهم وإنما لتثبيت هيمنته على المنطقة جميعاً، بعدما خلعوا عليه ثياب »المحرِّر« موجهين إلى العراقيين إهانتين معاً: الاستسلام للطغيان والتسليم بالاحتلال طريقاً إلى الديموقراطية وضمانة لوحدة الكيان السياسي.
أما في فلسطين فلم تصمد الكذبة الإسرائيلية عن الجلاء عن غزة طويلاً، إذ فجرتها الغارات بالطيران والصواريخ والمدفعية على الجهات الفلسطينية الأربع، ما خلف جدار الفصل العنصري وما أمامه… وبإغارات القتل المتصلة، يومياً، على المجاهدين في المدن والقرى والدساكر، لعلها تستأصل إرادة المقاومة، في ظل تواطؤ السلطة العربية و»المجتمع الدولي« الذي أضاع »خريطة الطريق« إلى فلسطين، فتركها تسقط قصداً بين يدي الاحتلال الإسرائيلي.
كيف تستطيع استشراف المستقبل عبر شلالات الدم العربي المراق، وعبر التيه في أدغال الخطأ السياسي الذي يأخذ إلى التهلكة؟!
في مجلس الأمن يقف بعض العرب في قفص الإدانة بتهمة شنيعة: اغتيال أحد كبارهم، رفيق الحريري.
من زمان لم يقف العرب أمام هذا المجلس في موقف الادعاء، وها هم يقفون الآن متواجهين، ولو عبر الأقوياء وبواسطتهم!
وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي كانت للعرب الملاذ والمنبر المفتوح للتشكي وطلب النجدة وعرض العضلات الخطابية، يسقط القرار باعتبار الصهيونية حركة عنصرية، ويتم التصويت على جعل السابع والعشرين من كانون الثاني من كل عام يوماً عالمياً لذكرى المحرقة (الهولوكوست)، ولا اعتراض، فالجريمة هي الجريمة، حيثما وقعت، وضد أي شعب أو دين أو عنصر أو فئة.. ولكن يصعب الفصل بين المناسبتين، خصوصاً أن إسرائيل لأول مرة في تاريخها تتولى موقع نائب الرئيس في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي استولدتها قيصرياً قبل ثمانية وأربعين عاماً على حساب الحق التاريخي لشعب فلسطين في أرضه التي ضاعت كما ضاع الحق خلف جدار الفصل العنصري الذي تمارسه الصهيونية… ولا مَن يحاسب؟!
ليس ثمة مَن يطرح أمام مجلس الأمن جريمة احتلال العراق وما نجم عنها من دمار وتخريب للعمران وتقتيل للبشر في مجازر منظمة، يصدر المحتل الأميركي بيانات رسمية بعدد الضحايا فيها، وتتبرع وسائط الإعلام العربية (مرئية ومسموعة ومقروءة) بنشرها من دون نقاش أو تدقيق…
مجلس الأمن الذي منه، وبفعل أكاذيب علنية غير مسبوقة، تصدى لعرضها، أمام عيون العالم أجمع الجنرال وزير الخارجية الأميركية، آنذاك، صدرت »الفتوى« بضرورة احتلال العراق لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل.
(أليس بقوة بعض هذه الأسلحة تم تدمير العراق على يد الاحتلال الأميركي).
مَن يجرؤ على محاسبة الأميركي عن تدمير بلد عربي عظيم بتاريخه كما بحاضره، كالعراق، وتفتيت شعب بجره إلى الفتنة الطائفية، وشطب كيان سياسي بالتقسيم العنصري؟!
مَن يجرؤ، بعدُ، على محاسبة السفاح الإسرائيلي أمام مجلس الأمن؟
بل مَن هي الدولة العربية التي تجرؤ على »التنديد« مجرد الاحتجاج اللفظي بالجرائم الإسرائيلية في فلسطين التي دمرت طاقات شعبها واغتالت أمله في وطن، ثم انتزعت منه أرضه بقوة السلاح والتأييد العالمي، مدعمة جدار الفصل العنصري بقاعدة صلبة من قرارات مجلس الأمن هذا، ومعه قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة؟ ذهبت كلها طعماً للنسيان!
من أين يأتي العيد والدماء العربية تسد الأفق، والغلط يسد الطرقات والمنافذ، والفتنة تتعاظم نارها مهددة بالتهام ما تبقى من الأحلام والأماني والشعارات المجسدة لإرادة التغيير؟!
يعتذر العيد عن القدوم… في انتظار عودة العرب إلى وعيهم بعد غياب طال أكثر مما يجوز!

Exit mobile version