طلال سلمان

اعادة انتشار سياسيا

بقرار عسكري »بسيط«، أحدثت دمشق ما يشبه »الانقلاب السياسي« في لبنان.
فالقرار القاضي بإعادة الانتشار، أو وفقاً للمنطق الرسمي السوري »استئناف ما كان توقف تنفيذه لدواع غير سياسية من الخطة الهادفة إلى إعادة تمركز بعض الوحدات العسكرية« في بيروت الكبرى ومناطق محددة من جبل لبنان، استولد ما يشبه الخريطة السياسية الجديدة التي ما زالت قيد التشكّل لكنها توحي بأن ما كان قبله من اصطفاف سياسي لن يكون بعده بالتأكيد.
لكأنه قرار »بإعادة الانتشار« سياسياً، يشمل إضافة إلى مواقع الحكم ومرجعياته، مراكز الاعتراض فضلاً عن منطق المعترضين الكثُر وغير المتوافقين إلا على اتخاذ الوجود العسكري السوري منطلقاً لحركتهم الاحتجاجية.
فواقع الأمر أن هذا »الوجود« كان قد غدا في الآونة الأخيرة موضوع استثمار مجزٍ، وعلى الجانبين، لمعظم القوى والمراجع والأطراف السياسية والطائفية والمذهبية، فأفاد من إثارته كثيرون، وتضررت منه جهات كان يفترض أن تبقى خارج دائرة الصراع، وأعاد إلى »الحلبة« لاعبين كانوا قد سُحبوا من التداول أو أسقطتهم تجاربهم الفاشلة والمكلفة فاستعادوا شيئاً من الاعتبار، وعلى حساب لبنان وسوريا معاً.
ليس بين مواقع أهل السلطة ومراكز الاعتراض من بقي أو سيبقى على حاله: لا رئيس الجمهورية ولا رئيس المجلس النيابي ولا رئيس الحكومة، وكذلك لا البطريرك الماروني ولا وليد جنبلاط، ولا »تجمع قرنة شهوان« وامتداده بالواسطة إلى »الضفة الأخرى« عبر »المنبر الديموقراطي« فضلاً عن الشيوعيين خارج الحزب أو داخله.
وإذا كانت النتيجة الأولى والمؤكدة أن جو العلاقات اللبنانية السورية سيشهد انفراجاً واضحاً، فإن الثمرة السياسية المباشرة سيجنيها الحكم في لبنان ممثلاً، بشكل أساسي، بشخص رئيس الجمهورية.
فالقرار »العسكري« في ظاهره سيمكّن الرئيس إميل لحود من فك الحصار السياسي الذي كان »خصومه« الذين تزايدوا بانضمام بعض »شركائه« إليهم، قد فرضوه عليه، مستثمرين نتائج »هزيمته« في الانتخابات النيابية، واضطراره إلى التسليم بحصيلتها وقبول »المساكنة« مع من كان يرفض التعاون معهم، برغم أنهم قد سلّموا برئاسته، بصرف النظر عن حقيقة عواطفهم.
إذاً، فرئيس الجمهورية سيعيد »انتشاره« هو الآخر، في مدى يتجاوز الحيز الضيق الذي كان قد حوصر فيه وجعله يتبدى في صورة المعطِّل للحوار، الساعي لإلغاء »الطبقة السياسية التي يحتقرها«، كما كان يقول خصومه، والذي يُنسب إليه أنه فكّر أو أنه هدد أو لوّح بمشروع حكومة عسكرية، أو حكومة طوارئ، رداً على الحملات التي تعرض لها من قلب الحكم ومن خارجه.
وعلى سبيل المثال وليس الحصر، فإن العلاقات بين الرئيس لحود وكل من البطريرك الماروني الكاردينال صفير ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، بالذات، ستشهد فترة صفاء بعد جفوة كادت تتجاوز حدود القطيعة إلى الحرب.
بالمقابل، سيعيد كل من رئيس المجلس ورئيس الحكومة النظر في »الانتشار« الذي كان قد بلغا به حدود الذروة خلال مناقشة مشروع الموازنة فقفز النقاش المبرمج من فوق الأرقام المفجعة ومن فوق الوقائع الثقيلة للوضع الاقتصادي المأزوم، ليتركز على شكل حملة واسعة على رئيس الجمهورية و»الأجهزة« متخذاً من موضوع التنصت على الهاتف مدخلاً ممتازاً إلى محاسبة سياسية لشريكهما الذي كان غائباً عن البلاد، ولكنه لم يكن غائباً عن »السمع« ولا عن الرغبة في »رد التحية بأحسن منها«… ولعل ما حصل في جلسة المصارحة التي عُقدت بحضور »شاهدي العدل« السوريين، في القصر الجمهوري، يأتي في هذا السياق.
ومع أن الكثير من وجوه الخلل في العلاقات اللبنانية السورية ستبقى قائمة ومعلقة في انتظار قرارات أخرى سياسية واقتصادية أساساً، تتناول موضوعات مزمنة مثل »العمالة السورية« والمزاحمة السورية للإنتاج الزراعي اللبناني وشبكات التهريب، فضلاً عن دور دمشق في لعبة السلطة في لبنان، فإن قرار إعادة الانتشار العسكري يولد مناخاً صحياً للمعالجة الجذرية المطلوبة، والتي باتت ضرورة سورية فضلاً عن كونها مطلباً لبنانياً ملحاً.
ومفهوم أن قرارات من هذا الوزن تتطلب علاجاً على مستوى القمة، يستهدف تصحيح الخلل في العلاقات النموذج، بين البلدين الشقيقين، كما أشار إليها الرئيس السوري بشار الأسد في خطاب القسَم، في مثل هذه الأيام من العام الماضي.
إن العديد من المرجعيات والقوى والأطراف السياسية والطائفية والمذهبية، سترى نفسها مجبرة على قرار »بإعادة الانتشار«.
فبعض الذين احترفوا الإتجار بالوجود السوري، ونصّبوا أنفسهم محامين فاشلين في الدفاع عنه، بالصح والغلط، ستشهد تجارتهم شيئاً من البوار، وسترتد عليهم بعض مواقف المزايدة بل النفاق التي كانت تحاول تجميل الخطأ، وترفض النقاش الموضوعي، وترد على أي معترض وكل معترض ولو بدافع الحرص بشن حملة اتهامات كاسحة تمس المعترضين، جميعاً، في وطنيتهم… ومثل هؤلاء كانوا هم المزوِّد الفعلي لأعداء العلاقات الأخوية الطبيعية بين لبنان وسوريا، بالذخيرة وبالغازات السامة.
فليس أكثر إساءة إلى سوريا، ومعها لبنان، من تصويرها نصيرة لطائفة على طائفة، ولمذهب على مذهب، وطمس الرابط القومي والمصالح المشتركة فضلاً عن علاقات الرحم. إن النماذج الفاقعة للانتهازية السياسية التي جعل بعض رموزها من أنفسهم »الوكلاء الحصريين« للوجود السوري في لبنان، قد آذت صورة سوريا ودورها في لبنان أكثر بكثير من أشرس خصومها من محترفي السياسة أو المغامرات العسكرية في لبنان.
بالمقابل، فإن كثيراً ممن دفعتهم المزايدات أو ردود الفعل الطائفية أو الانتهازية السياسية إلى مخاصمة سوريا، ومن ثم مناكفة العهد مرة من الباب السياسي ومرة من الباب الاقتصادي، ودائماً من خلال التشكيك بالموقف الثابت والمحدد من الصراع العربي الإسرائيلي وترابط المصيرين وحماية المقاومة في لبنان، سيضطرون أقله إلى تعديل مواقفهم أو التفتيش عن ذرائع مختلفة يمكن تسويقها شعبياً.
لقد بلغت الحملة على سوريا والسوريين، في الفترة الأخيرة، حدود »العنصرية«، مما شكل إساءة بالغة إلى لبنان واللبنانيين ربما بأكثر مما أصابت سوريا كدولة راعية وضامنة للسلام الأهلي، والسوريين كأشقاء بالنسَب وشركاء في المصالح.
وسيكون على »تجار« الحملة العنصرية ومسوّقيها أن يعيدوا »انتشارهم« الآن إلى مواقع جديدة غير مستهلكة. ويتوقف على الحكم تحقيق إنجاز سياسي كبير يحتاجه لبنان بقدر ما تحتاجه سوريا، وذلك بالمضي قدماً في تصحيح العلاقة في اتجاه »النموذج« المطموح إليه، مفيداً من »المدد الحيوي« الذي قدمته إليه دمشق بقرارها البسيط عسكرياً، والاستثنائي بقدرته على الاستقطاب سياسياً.
إن كل الأطراف بصدد »إعادة انتشار« واسعة الآن.
والمهم ألا تضيع الفرصة، فيستعيد الحكم بعض الرصيد الذي أهدرته التجارب الفاشلة، وذلك بالمبادرة إلى توسيع آفاق الحوار وإعادة تجميع القوى لحماية الوضع الداخلي من الانهيار تحت ضغط اليأس والمخاوف من التفكك والاشتباكات الطائفية فضلاً عن المصاعب الاقتصادية، وفوق ذلك كله ومعه صراعات الرؤساء فوق المركب المثقوب القعر.
يمكن أن يكون القرار العسكري السوري البسيط فرصة لولادة جديدة لهذا العهد الذي أنهكته المعارك الكثيرة والشرسة التي دخلها بالرغبة أو بالاستدراج.

Exit mobile version