طلال سلمان

اضراب ضد <مجهول> في غياب دولة مجتمع

لم يسقط اللبنانيون في هاوية الجوع بعد… لكن نسبة محترمة منهم هي في الطريق إلى ما دون خط الفقر ، حسب التعابير المعتمدة دولياً!
ومن العبث الافتراض أنه بالإمكان حل هذه الأزمة الاجتماعية الخطيرة طالما استمرت الأزمة السياسية في التفاقم حتى لتكاد تذهب بالدولة ومؤسساتها.
وبغض النظر عن تبادل الاتهامات بين أهل السلطة وأهل المعارضة، فإن قمة الدولة تشكو حالة مزرية تتراوح بين الفراغ (كما الحال في رئاسة الجمهورية) أو العجز عن اتخاذ القرار (كما في الحكومة المطعون في شرعيتها وغير المؤهلة بوضعها الراهن لمعالجة مسائل بمثل خطورة الأحوال الاجتماعية الاقتصادية التي تعيشها البلاد) أو التباعد إلى حد التباغض وافتقاد الأكثرية القادرة على التشريع ومواجهة مسؤوليتها الوطنية من فوق الانقسام الذي يشل أو يعطل المجلس النيابي.
هل من المبالغة القول إن الدولة في لبنان في طريقها إلى الاندثار؟!
في هذه اللحظة، وإذا ما استثنينا المؤسسات الأمنية (الجيش خصوصاً الذي يقوم بحراسة الأمن الاجتماعي والذي يكاد ينهكه انتشاره كقوات فصل بين الأخوة الأعداء في الشوارع والساحات وعلى خطوط التماس المستحدثة)، فليس في الدولة مؤسسة واحدة تقوم بواجباتها المنصوص عليها في القوانين، أي بمهماتها الطبيعية في معالجة شؤون الوطن (وشعبه) وشجونه.
لذلك تبقى الاعتراضات والصرخات والتظلمات من سوء الأحوال، عموماً، ومن غلاء أسباب المعيشة خصوصاً، مواضيع للثرثرة أو للمناقشات كتابة أو شفاهة عبر شاشات الفضائيات، وبالكاد تتحول إلى دعاوى ضد مجهول…
لا حلول في غياب الدولة، بالرئاسة والحكومة والمجلس النيابي وسائر المؤسسات الإدارية والقضائية، فضلاً عن الأمنية.
والدولة تنتظر المبادرة العربية ، والمبادرة العربية تنتظر التوافق على صيغة الحكم الجديدة أو المجددة، والتي تقوم على أساس الشراكة التي كانت صعبة وتكاد تصير مستحيلة بين الموالاة والمعارضة..
والمبادرة العربية تنتظر المصالحات العربية، بين أهل الاعتدال و أهل الممانعة … ولكل أهل أهل..
أما الموظف في الدولة أو في القطاع الخاص، وأما العمال أو من تبقى منهم، وأما الأجراء والمياومون، فضلاً عن الفلاحين والمزارعين عموماً، فإنهم في مرتبة الأيتام، لا يهتم لأمرهم أحد، ولا تتقدم لنجدتهم أية جهة ترى نفسها مسؤولة وقادرة على ممارسة مسؤوليتها.
وأما القروض التي تلتهم بفوائدها بعض ما تبقى من الناتج الوطني فمتيسرة لكن الوفاء بالتزاماتها متعسر.
وأما الودائع التي سمعنا الوعود بها وجعلناها عناوين لصحفنا وقدمتها الشاشات تحت إشارة خبر عاجل فلما تصل… وحسب التصريحات الرسمية التي سمعناها، أمس، في واحد من المؤتمرات الاقتصادية، فإن الوديعة السعودية (مليار دولار) التي وعدت المملكة بتقديمها لم تصل بعد، كذلك فإن ثمة وعوداً من دول خليجية أخرى بمزيد من الودائع لم تنفذ.. علماً أن هذه الودائع تفيد في دعم الليرة وتثبيت سعر صرفها، ولكنها لا تدخل في دورة الإنتاج.
وليس مؤكداً أن هذه الوعود بوديعة كبرى ووديعة أصغر وثالثة أصغر من الأصغر، قد استخدمت أو سوف تستخدم كسلاح سياسي، وللضغط على قوى سياسية محددة، من أجل حل سياسي لا توافق عليه، لكن مجرد الحديث عن وديعة شكل استثماراً سياسياً، وإن ظل تأثيره أدنى من أن يفرض الحل المرغوب فيه.
لقد أطلت سنونو الإضرابات مع توقف المعلمين في المدارس
الرسمية والخاصة كافة، ومعهم الأساتذة والمدرسون في الجامعة اللبنانية، أمس، عن العمل اليومي، تاركين ما يقارب مليون طالب وتلميذ في منازلهم… وهو إضراب أول يبشر بربيع اجتماعي ساخن في ظل أفق سياسي مقفل.
ولسوف تلحق بإضرابهم إضرابات أخرى في قطاعات إنتاجية مختلفة تشكو تناقص الدخل، وتضيق بالعمالة التي باتت الآن زائدة عن حاجتها، قياساً إلى العائد، وتفكر بالتالي بإنقاص أعداد موظفيها وعمالها حتى تستطيع الصمود، مجرد الصمود، ولو بالحد الأدنى من القدرة على مواصلة الإنتاج.
وثمة مؤسسات إنتاجية، ومكاتب هندسية، ومكاتب محامين، ومئات من الأطباء المميزين والمنتجين في قطاعات مختلفة، انتقلوا بموظفيهم إلى أقطار الخليج، تاركين في بيروت من يرد على الهاتف فيعطي العنوان الجديد لمن تبقى من الزبائن ، هذا فضلاً عن آلاف بل عشرات آلاف الشباب المؤهلين الذين ضاق بهم وطنهم فهربوا إلى حيث تتزاحم الشركات والمصارف والمؤسسات على استخدامهم بشروط تصير أدنى كلما تزايدت أعداد الباحثين عن فرصة عمل.
مع ذلك فإن السلطة كما قوى المعارضة تحاول توظيف هذه الأزمة الاجتماعية الخطيرة في الصراع السياسي الذي غدا حله مستعصياً حتى على القمم العربية، لأن أصحاب الحل والربط بعيدون جغرافياً، ومرتاحون اقتصادياً، وأصحاب خطط ومشاريع تحمل عناوين جذابة كالشرق الأوسط الجديد أو الشرق الأوسط الكبير، أو الفوضى البنّاءة، باعتبارها مصانع إنتاج للديموقراطية ولتعليمنا كيفية بنائها وتعزيزها في مجتمعاتنا المتخلفة، ومن باب المساعدة الإنسانية والنخوة والشهامة فقط لا غير.
لقد ذهبت أيام كانت النقابات مؤسسات جدية تعبر وتحمل هموم فئات اجتماعية وإنتاجية مؤثرة، وتسندها أحزاب وقوى سياسية ذات تمثيل شعبي حقيقي، بما يمكنها من فرض القضية الاجتماعية على حكومات تخاف من المحاسبة، ومن الشارع، فتلبي المطالب الحيوية ولو كارهة…
لقد صار الشارع شوارع، وانشقت الأحزاب التي كانت تحمل رايات المطالب على أسس تتجاوز بالحاجة العقائد، يسارية أو يمينية، وكادت تبتلعها الطوائف والمذاهب، كما ابتلعت العديد من مؤسسات السلطة، فضلاً عن المعارضة التي أصابتها العدوى.
لقد تهاوت الدولة…
وها هو المجتمع يتفسخ وتعود أطرافه إلى مكوناتها البدائية. صارت النقابات أرض صراع بين الطوائف والمذاهب. وضاعت القضية الاجتماعية في غياهب هذا الصراع الذي قد يقود إلى الحرب الأهلية، لكنه بالتأكيد لا يقود إلى العدالة الاجتماعية.. ولا خاصة إلى تجديد الدولة.
ولا حل إلا باستعادة الدولة والعودة إليها…
وهذا طموح عظيم يتجاوز المبادرة العربية، حتى لو تبنتها القمة، إذ لا يقدر عليه إلا اللبنانيون متى حزموا أمرهم وقرروا أن يكونوا شعباً واحداً في دولة واحدة.
ولسوف يستمر تدهور الأوضاع حتى ينتبه اللبنانيون، سواء أكانوا في صفوف الموالاة أم المعارضة، أنه لا مستقبل لهم بلا دولة، فيعودوا إلى التلاقي من أجل إعادة بنائها أو تجديدها لتكون ملاذهم.
.. وفي انتظار ذلك اليوم، لا حل لأية مسألة.. إلا بالترقيع الذي لا ينفع إلا في تعظيم شأن الفضيحة الوطنية.
الدولة هي الأساس…
من تراه يهتم لأمر الدولة؟ ذلك هو السؤال!

Exit mobile version