طلال سلمان

اصلاح عربيا »بالنصائح« اميركية

لا يحب »الصغار« النصائح، سواء أكانت أميركية أم إسرائيلية، ربما لأنهم يدركون بحدسهم أنها قاتلة لمستقبلهم، أو ربما لأنهم يحاولون استنقاذ حاضرهم بتجاوز الخوف بالشهادة.
أما »الكبار« فيسمعون ويصدعون وينفذون لأن عدم الالتزام قد يكلف عروشاً وممالك وامتيازات لأهل السلطان ليس من السهل التسليم بخسارتها.
ومع أن أهل القمة الا قلة قليلة متمردة بطبيعتها أو كرد فعل على ما تراه امتهاناً يفهمون أن »النصيحة« أمر، فيلتزمون، فإنهم لا يملكون، عادة، أن يمنعوا مشاغبات »الصغار« الذين قد تصل بهم القحة إلى تخريب كل شيء.
وهكذا فإن العمليتين الاستشهاديتين اللتين نفذهما، أمس، بعض »الصغار« من الفلسطينيين في غزة، ثم في قلب ناتانيا قرب تل أبيب، قد تكلفان »السلطة الفلسطينية« المزيد من التنازلات (!!) لتأكيد التزامها »بالنصائح« الأميركية التي يتولى جيش الاحتلال الإسرائيلي الإشراف على »تطبيقها« ولو كانت النتيجة الاختناق داخلها.
… وقد تخرّب هاتان العمليتان جهود لجنة المتابعة، أو لجنة المبادرة، وقد تزيد من اتساع شقة الخلاف بينهما حول مفهوم »النصائح« الأميركية و»ترجمتها« عربياً بحيث يمكن شرحها للعالم كعرض مفتوح لسلام يكاد يكون استسلاماً ومع ذلك يرفضه الإسرائيليون المتطرفون بمجموعهم.
ولعل هذا الخلاف هو الذي جعل اجتماع لجنة المتابعة في بيروت يتحول الى مسامرات ومنادمات ومشاورات ولا نتائج ولا خطة عمل لإعادة تقديم »النصائح« الأميركية (الإسرائيلية) إلى العالم وكأنها »صناعة عربية«.
* * *
حديث »النصائح« الأميركية لإصلاح أحوال العرب، بالجملة والمفرق، طويل، خصوصاً أنها قد تكاثرت وتعددت مجالات اهتمامها حتى شملت إضافة إلى السياسة الاقتصاد والمناهج المدرسية وكيفية تربية الأبقار وزيادة نسبة إدرارها الحليب الطازج، كما علّمنا السفير الأميركي في لبنان.
على أن النموذج الأكمل للتعامل اللبناني مع »النصائح« الأميركية قد يكون عبر استعادة سريعة لحكاية الهاتف الخلوي والجزء الثاني من مسلسل خصخصة هذا القطاع الحيوي والذي يدر ذهباً.
معروف أن »النصائح« بالخصخصة جاءت من مراجع أميركية، مباشرة أو عبر البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي… ولكن هذه »النصائح« التي سرعان ما اكتست ثياب التشريع القانوني قد ارتطمت، عند التطبيق، بواقع »الخصوصية« اللبنانية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن قائمة الذين جرى اللغط بأسمائهم أو مواقعهم تشمل رئاسة الجمهورية (عبر نجلي الرئيس إميل لحود وصهره)، ورئاسة الحكومة (عبر صهر الرئيس رفيق الحريري) ومجموعة من الوزراء (أولهم وزير المواصلات) وبعض كبار المتمولين، ومعظمهم تربط بينهم صلات القربى أو شبكة المصالح ولو عبر المنافسة.
اصطدمت »نصيحة« الخصخصة بواقع »الخصوصيات« فتحولت المسألة إلى فضيحة، سرعان ما اندرجت في سياق الحديث عن المتسببين في الانهيار الاقتصادي أو المسؤولين عنه وفاقمت في تشويه سمعة أهل السلطة، بل والطبقة الجديدة، التي دخلت السياسة من باب الأعمال والمشروعات الجديدة.
وكان أعظم الضحايا: الرقم، أي الرمز الأصلي للحقيقة، ومن ثم المصدر الفعلي لتوكيد النزاهة أو نفيها… وفي غيابه انساق الناس مع ميلهم الطبيعي إلى تصديق كل الاتهامات المتبادلة عن النهب المنظم، حتى لم يبق من بين الكبار بريء!
* * *
من لبنان إلى الأردن: فلقد حمل رئيس الحكومة الأردنية »النصائح الأميركية« إلى من وما تبقى من السلطة الفلسطينية حول ضرورة تلبية الشروط الإسرائيلية بضرورة القضاء على الفساد ومباشرة الإصلاح السياسي والاقتصادي والأمني والمالي والتربوي الخ..
الطريف أن حامل رسالة »النصائح« متهم في بلاده بالضلوع في الفساد والإفساد، والاتهامات أمام القضاء، منذ بعض الوقت، ووقائعها غزيرة ومتعددة المجالات…
وقد سقطت في ميدان المواجهة غير المتكافئة السيدة الوحيدة التي كانت فازت بمقعد نيابي في دورة سابقة، توجان الفيصل، التي كانت إضافة نوعية، في المضمون وليس في الشكل فقط، إلى الحياة السياسية ودور المرأة في المجتمع العربي بنشاطها وحيويتها وثقافتها، بمعزل عن »اتهامها« بالتطرف أو باللجوء إلى التهييج الجماهيري.
} بالمقابل، فلسطينياً، أوفد رئيس السلطة أحد أبرز الرموز المتهمة بالفساد والإفساد في »ديوانه« إلى واشنطن لكي يطمئنها إلى أن عملية الإصلاح قد انطلقت أو سوف تنطلق قريباً وبزخم وبشفافية مطلقة!
في الطريق، توقف موفد الإصلاح الرئاسي ليطمئن حكومة شارون بشخص شمعون بيريز إلى أنه »يفضل الجحيم مع السلام على الجنة مع الحرب«.
} أما في مصر فكلما اشتد الضغط الشعبي على الحكم لاتخاذ موقف اعتراضي على ما يجري في فلسطين، وتبدّى أن النظام قد يضعف فيستجيب، ولو جزئياً، وتهيباً، تصاعدت حدة الانتقادات الأميركية، وتمّ التشهير برجاله وفُضحت بعض عمليات النهب المنظم… فإذا ما عاد فالتزم »بالنصائح« تمّ التسهيل لعقد مؤتمر للدول المانحة، ولوّح له بمساعدات توقف انهيار العملة، وترجئ تفجر الأزمة الاقتصادية الخانقة… و»السياحة« سلاح فعال جداً في السياسة، وقد استخدم بفعالية خلال الشهور القليلة الماضية.
} وأما مع السعودية فقد تحولت تفجيرات 11 أيلول إلى سيف مصلت على المملكة، نظاماً وأسرة حاكمة ومناهج دراسة وأسلوب حياة يمتد إلى حق المرأة في قيادة السيارات، وتوجب عليها أن تقدم سلسلة من التنازلات عمّا كان بين »المحرمات«، لا سيما ما يتصل بفلسطين والقدس والأقصى، فضلاً عن أنها كانت تتحاشى أن تظهر في صورة المتنازل وتفضل الاحتماء بشعار: »مع الفلسطينيين ولو أخطأوا«.
في البدء كانت الحملة التشهيرية، ثم توالت »النصائح« حتى استقرت على صيغة »المبادرة«.
وكان على »المبادرة« حتى بعد تبنيها في قمة بيروت أن تتجمد حتى يحقق شارون أهداف حملته العسكرية »لتنظيف« الضفة الغربية من رجال الانتفاضة، مقاومين ومنظمين، ومن مشاريع الاستشهاديين ومن السلاح ومن الكادرات المؤهلة لمواصلة النضال.. ولو سلمياً.
وحين جاء الموعد المرتجى والتقى ولي العهد السعودي الرئيس الأميركي في مزرعته، كانت حرب شارون قد حققت معظم أغراضها، وكانت القيادة الفلسطينية المحاصرة والمعزولة عن العالم، في أدنى درجات الضعف. لذلك فقد فضل الأمير عبد الله الإفادة من الوقت في شرح القضية للرئيس الكوني الجاهل بأصلها وتداعياتها، فأثار عاطفته، فكان أن أمر بالإفراج عن »الرئيس الأسير« وعن السيد المسيح الرهينة في كنيسة مهده، بشروط اتخذت كالعادة طابع »النصائح«، أبرزها »إدانة الإرهاب« والتعهد »بالإصلاح« السياسي والإداري والأمني!
دائما »النصائح« ومعها »وإلا«…
أما »المبادرة« فكان عيبها الجوهري أنها ليس لها »وإلا«…
وجاء الأمير »بالنصائح« إلى شرم الشيخ، »لينصح« بضرورة قبولها بوصفها عرضاً لا يمكن رفضه. وكانت نسخاً أخرى، معدلة، قد أبلغت إلى الملك المغربي، ثم إلى الملك الأردني مباشرة، في حين جرى تعميمها بوسائل مختلفة على الدول المعنية الأخرى، كل باللهجة التي يفهمها: من الإنذار باجتياح مقرر لكن توقيته مفتوح، إلى التهديد بالحصار إلى التلويح بالتشهير السياسي بالدول الراعية للإرهاب.
* * *
»النصائح«: في لقاءات اليومين الفائتين للجنة المتابعة في بيروت، كان »حملتها« ودعاتها هم الأعلى صوتاً في التبشير بالمؤتمر الدولي، أي النسخة المطورة من اقتراح شارون »المؤتمر الإقليمي«، بوصفه »أمر عمليات« لا بد من إنجازه خلال شهرين على الأقل وثلاثة على الأكثر.
إنه عصر التحكم، بل الحكم عن بُعد، »بالنصائح« التي يمكن أن تتحول إلى »مبادرات« أو إلى »مؤتمرات« يفرض فيها »الأقوى« قانونه مباشراً مرحلة أخرى يتجاوز فيها الحق التاريخي وبديهيات العدالة المدّعمة بقرارات الشرعية الدولية.
و»النصائح« إسرائيلية المضمون دائماً، وسواء أكانت اللغة التي تقدم بها أميركية أم عربية.

Exit mobile version