طلال سلمان

اصدقاء واشنطن في لبنان

يجب أن نعترف للرئيس رفيق الحريري انه قد منحنا، بغير ان يقصد، الفرصة لنكتشف كم في بلادنا من العباقرة في الشأن الاقتصادي!
قبل عشرين سنة تقريباً وحين أطل الرئيس سليم الحص على دنيا السياسة من موقع استاذ الاقتصاد، اعتبره السياسيون »طارئاً« أو مجرد »زائر غريب« تتوجب الافادة منه »كخبير اجنبي« يعيد تنظيم الدورة الاقتصادية ثم ينصرف تاركاً اللعبة لاهلها مكتفياً بتكريمه بلقب »دولة الرئيس« والاشادة بكفاءاته العديدة وابرزها زهده في الحكم وتوكيد ايمانه بالاختصاص وضرورة »ترك الخبز للخباز ولو اكل نصفه«!
لم ينجح سليم الحص في »افساد« الحياة السياسية، وان فرض تطعيم لغة السياسيين ولو مؤقتاً بتعابير لم تكن مألوفة لديهم حول مخططات الانماء المتوازن والمبرمج وضرورة المواءمة بين الموارد ووجوه الانفاق ومواجهة التضخم والتنبه للشأن الاجتماعي واتساع الفوارق بين الذين يحصلون وبغير وجه حق على اكثر مما يستحقون وبين الذين يتعبون كثيراً فلا يعطون الا اقل مما يستحقون ومما يقيم اودهم للاستمرار في العطاء..
أما رفيق الحريري، الذي أتى في ظروف مختلفة تفرضه كضرورة، خصوصاً وقد تراجعت السياسة، بمفهومها التقليدي، لحساب الاقتصاد، فقد نجح في ان يدخل تعديلا جذرياً على قاموس العاملين في الحقل السياسي مانحاً ايانا الفرصة لنكتشف كم هم عباقرة ايضاً في شؤون المال والانتاج، مصارف وزراعة وتجارة استثماراً ومضاربة واقتناصاً للسوانح واغتناماً لهبوب الريح بما تشتهي سفنهم!
لقد بات تقليداً يومياً ان »يدلق« هؤلاء علينا تصريحاتهم القديمة لغتها وقد تزيت بزي جديد يغلب فيه »الاقتصادي«، بالمعنى المبتذل، على »السياسي« وهو في الغالب الاعم كان (وما زال وسيبقى؟!) مبتذلا.
لا احزاب في البلد ولا تنظيمات شعبية، اي لا مؤسسات سياسية فاعلة وقادرة، بما في ذلك مجلس النواب، اذن فليطرح كل سياسي نفسه على انه البديل من الجميع، المؤهل والجاهز لاجتراح المعجزات الاقتصادية بعبقريته السياسية والتغلب على المستحيل السياسي بعبقريته الاقتصادية.
»إنه عصر المال ورجال الاعمال«،
حسنا، من قال انهم خارجه؟!
»انه عصر اندحار العقائد، واخطرها الاشتراكية، وسيادة منطق السوق«،
حسناً، من قال انهم كانوا اشتراكيين؟! وانهم خرجوا من السوق او عليه في اي يوم؟! (يستحسن هنا ادراج تصريحاتهم القديمة حول المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفياتي ونفاقهم لليساريين عموما وللانظمة العربية الآخذة بالمنحى الاشتراكي في خانة العلاقات العامة والتقية وشراء الوقت ريثما يجيء النظام العالمي الجديد بقيادة الحليف العظيم: الولايات المتحدة الاميركية)!
وهم مدينون للرئيس الحريري مرتين:
1 انه اعطاهم الفرصة لكي يصيروا اكثر انسجاما مع انفسهم فلا يقولون غير ما يعتقدون بينما هم يفعلون غير ما يقولون..
2 انه منحهم اللحظة الذهبية التي طالما انتظروها ليعبروا عن مواقفهم السياسية بصراحة ووضوح وقد تخلصوا من شبح الخوف الذي كان يفرض عليهم الخرس او الهمهمة بكلام حمّال أوجه، من باب التقية.
الآن، وقد نجح الرئيس الحريري في تحقيق انجاز تاريخي مثل »مؤتمر اصدقاء لبنان« في واشنطن فإنه قد سمح لمجموعهم ان يؤكد نفسه مرتين:
الاولى بأن يعلنوا بأنهم كانوا وما زالوا (وسيبقون) »اصدقاء واشنطن في لبنان«، وانهم يثقون بأنها تغفر لهم انهم احيانا قد قصدوها عبر محطة اخرى، او انهم امتنعوا عن زيارتها درءاً للشبهات وحماية لمصالحها في المنطقة وهم اخطر هذه المصالح!
الثانية بأنهم وإن لم يكونوا خبراء في كيفية زيادة الدخل القومي ورفع معدلات النمو وانقاص نسبة التضخم، فإنهم من أعظم الناس خبرة في تحويل المال العام الى ثروات خاصة (ويدخل في هذا المجال اعفاء القطاع العام من مهام التاجر التي لا يتقنها وتركها لأحفاد الفينيقيين ممن طبقت شهرتهم التجارية الآفاق)..
ومردودة على مروجيها تلك الذريعة السخيفة التي تأخذ عليهم انهم لم يهدروا الكثير من وقتهم الثمين في دراسة النظريات الاقتصادية المعاصرة. فالوقت هو رأسمال، اي استثمار، وهو أغلى من ان يضيع على مقاعد تعلم ما يعرفونه هم بالبداهة..
للمثال فقط يمكن الاستشهاد بنظرية الخصخصة ونجاحهم المذهل ليس في فهمها فقط بل وفي تطبيقها بسرعة قياسية،
انها اولا، امر عمليات اميركي… فهل يدرّس مثل هذا الفهم القياسي في سرعته في جامعات؟! ثم انها واضحة جدا لا يمكن اكتسابها بل تولد مع الانسان وتقوم على معادلة بسيطة: كل ما أستطيع وضع اليد عليه فهو يخصني وحدي، وما لا تصل إليه يدي فليخرب تمهيدا لأن يخصخص فأخصخص منه ما لا يسبقني الى خصخصته غيري من أهل الخاصة…
فهل يحتاج مثل هذا الأمر الى دروس خصوصية او تخصص في معاهد متخصصة في الخصخصة او التخصيص؟!
ونخشى ان يكون كثير من هؤلاء قد تفوقوا على أستاذهم الرئيس رفيق الحريري فسبقوه ثم التفوا عليه يحاولون »خصخصته« بحيث ينال كل منهم نصيبه الخاص منه!

Exit mobile version