طلال سلمان

اسقاط الدولة في ايدي الطائفية»الشرعية«!

خلال جلسة واحدة لمجلس الوزراء تهاوت »الدولة« بمؤسساتها الأم، وتبعثر أهل الحكم، وانشقّت السلطة على ذاتها حول أمور »فقهية« لا تعني الناس المثقلين بهموم حياتهم اليومية في كثير أو قليل،
اللهم إلا إذا اعتبرنا، ومن خلال ردة الفعل، أن السلطة المدنية التي تضيّق على الحريات السياسية قد وفرت فرصة ممتازة للمؤسسة الدينية للتضييق على الحريات الشخصية، ولاستدعاء مناخات محاكم التفتيش بتجديد الحديث عن المرتدين وعن الحرم الكنسي..
احتدم الخلاف المباغت والمبتدع وغير المبرّر حول موضوعات من خارج الجدول ومن خارج دائرة الاهتمام العام، وتفاقم داخل المجلس فتفجّر دويه في الشارع من قبل أن تنتهي الجلسة، طارحاً الصوت على »الاحتياطي الاستراتيجي«: الغرائز الطائفية.
أما مع انتهاء تلك الجلسة »التاريخية« التي افترض البعض أنها نقطة البداية في معركة إلغاء الطائفية السياسية، فكان المشهد استثنائياً: احتلت الحساسيات والغرائز الطائفية المسرح كله متسبِّبة في إلغاء السياسة.
وتقدمت المؤسسة الدينية وقد احتشد فيها »الممثلون الروحيون« لجميع الطوائف والمذاهب لتملأ الفراغ الذي استحدثه صراع أهل الحكم، خصوصا وأنهم قد استهلكوا في تأجيج الخلاف ثم في تبريره المؤسسات والرموز ذات الحصانة جميعها وفي طليعتها الدستور.
وها نحن بعد أسبوع من »الطلاق المدني« نعيش في ظل شلل كامل للمؤسسات الدستورية: مجلس الوزراء معطل في انتظار استسلام »أكثريته« أو استرضاء »أقليته« التي رفضت أن تعطَّل بعدما عجزت عن تعطيل القرار »المبدئي«، ومجلس النواب في إجازة مفتوحة، لا سيما وأن رئيسه ظهر في الصورة طرفاً في الإشكال، ورئيس الجمهورية يواصل على طريقة دون كيشوت معركته غير المفهومة وغير المبرّرة أقله في توقيتها على المؤسسة الدينية العاتية.
لقد جرَّحتها سهامه، فاستفزتها واستنفرت قواها جميعاً فهبّت للمواجهة الشاملة، وأمسكت بتلابيب »المجتمع المدني«، ولوت عنق الدولة، وزمجرت لترهب المواطن بإدانات مطلقة كالردة أو الحرم الكنسي لتخضعه آخذة إياه بجريرة حكّامه الذين لم يعرفوا كيف يسوسون الحكم فمكّنوها منه.. ومنهم!
احتلت بالعمائم والقلنسوات شاشات التلفزيون، وتصدرت صفحات الصحف، وصادرت حق الكلام عن الشأن العام، الاقتصاد والسياسة، القانون والدستور، مفيدة من فشل الحكم لتزكية منطقها، خصوصاً وأنها الآن موحّدة في مواجهة »علمانيين مزورين« يقفون على الحد بين الخروج من السياسة أو الخروج على الدين!
ضاع أساس الموضوع الذي يعتبره الناس وهمياً، وصرنا في مواجهة أزمة سياسية حادة تزيد من قسوة الأزمة الاقتصادية التي تكاد تشل البلاد وتؤجج من حدة الأزمة الاجتماعية التي لم يخفف منها مطاردة شبح »ثورة الجياع« إلى جرود »بلاد بعلبك«، لأن الواقع الذي أنبتها وغذّاها وبرّرها لم يختف باختفاء قيادتها السياسية، بل لعله قد بات أكثر قابلية للانفجار مما كان عليه في أي يوم.
فالكل يعرف أن المعركة التي عصفت بمجلس الوزراء، ثم بالبلاد، يوم الأربعاء الماضي، ليس موضوعها الأصلي الزواج المدني ومدى تطابقه مع أو خروجه على النص الديني، ولا موضوعها إلغاء الطائفية السياسية، بل هي معركة داخل مؤسسة الحكم، وحول موقع أطرافه فيها، وحول العهد المقبل وحصة كل منهم فيه، إن هو أقبل فعلاً ولم يعلق في شرك التمديد، مرة أخرى.
بل لعل التمديد بين أسباب التفجير المقصود، حتى وإن انتهى الأمر بتبديد الأمل فيه.
فأما الزواج المدني فآخر مدخل يمكن اعتماده لإلغاء الطائفية السياسية،
وطريف أن يهرب مَن يريد إلغاء منطوق طائفته في الزواج إلى قبرص أو تركيا، وهو أمر بحت شخصي، ثم يرتدي شجاعة مستعارة فجأة ليقصد الطائفية في أعتى حصونها أي في قلب النظام السياسي الذي يضفي عليه شرعيته ليهدمه على رؤوس مَن فيه، وكلهم شريك له فيه ومستفيد مثله منه.
إن الزواج المدني، هو نتيجة لإلغاء الطائفية السياسية وليس بأي حال مقدمة لها أو واجهة صدام.
حتى في المجتمعات الغربية وتلك التي أتمت الفصل بين الدين والدولة، لم يكن الزواج المدني عنواناً سياسياً، في أي يوم، بل نتيجة لتحولات جذرية في المجتمع الأهلي، بدلت في مفاهيمه ومنظومة قيمه ونظرته إلى الكنيسة كمؤسسة، وإلى الدولة كمرجعية وحيدة وكراعية لشؤونه عامة وكناظمة للعقد الاجتماعي وكمصدر لحقوقه كفرد تؤمّنه وتحميه وتصونه من مؤسسات ما قبل الدولة (الإقطاع، الكنيسة، القبيلة، العائلة، العشيرة الخ).
فكيف في بلد كلبنان ما تزال الدولة فيه »قيد التأسيس«،
ثم أن مجتمعه المدني الذي دمّرته الحرب الأهلية تعرض وما زال يتعرض لحرب شرسة تخوضها السلطة ضده، بذريعة حمايته من قصوره كونه لمّا يبلغ سن الرشد.
لا اعتراف بالمواطن كمواطن ولا حقوق طبيعية له،
وكيف يستقيم الأمر في بلد يفتقر إلى الدولة كمؤسسة جامعة، وإلى »مواطن« له فيها حقوق الإنسان بذاته لا بطائفته أو بمذهبه أو عبر المعتمد الشرعي لهذه الطائفة أو تلك..
* * *
يشتد الجدل حول التوقيت: هل كان مناسباً لطرح مسائل حساسة كمثل مشروع قانون الزواج المدني الاختياري، واستطراداً إطلاق مسيرة إلغاء الطائفية السياسية برسالة من رئيس الجمهورية عشية انتهاء ولايته الممدَّدة، إلى رئيس المجلس النيابي الذي لا يحتاج تكليفاً، يدعوه فيها إلى المباشرة بتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية..
لماذا اليوم وليس من قبل؟! ولماذا مباغتة ومن فوق رؤوس الجميع وليس بعد إعداد واستعداد ودراسة تمتد من التشريع العام إلى حقوق الفرد؟!
الحقيقة التي يجب أن تُقال إن التوقيت قد تأخر سنوات طويلة، وربما عقوداً عديدة، فالمؤقت (المادة 95 من الدستور) صار قاعدة للعمل السياسي في لبنان، منذ قيام الدولة وحتى اليوم.. إذ ان السياسيين عموماً يؤججون الحساسيات الطائفية فيصيرون زعماء وحكّاماً، ومن مواقعهم في السلطة يواصلون رعاية الطائفية كاستثمار مجز، تارة بتسعير الاختلاف وطوراً بإشهار التوافق (بين أغراضهم ومصالحهم) وكأنه تدعيم للوحدة الوطنية.
ولو أن الحكم كان ينوي فعلاً إلغاء الطائفية السياسية لكان تصرف بشجاعة وحزم أمره فقرّر في أمور كثيرة تطلق قوى المجتمع المدني وتمكّنها من لعب دورها الطبيعي، في إنعاش الحياة السياسية وتجديدها بأفق وطني،
بداهة كان حسم الجدل البيزنطي حول قانون الانتخاب، وأنجز قانوناً يحقق الحد الأدنى من شروط الوحدة الوطنية، ويهدم الفواصل الطائفية والمذهبية بين المواطنين في مختلف مناطقهم المتلاصقة حتى التماهي..
وكان سمح بإجراء الانتخابات البلدية مفسحاً في المجال أمام أجيال جديدة لدخول ميدان العمل العام، مجدداً بذلك الدم في خلايا المجتمع وممكّناً الناس من ممارسة دور الرقيب على السلطة، تشريعية وتنفيذية،
ولكان امتنع عن تفتيت الحركة النقابية وشطبها كقوة مؤثرة ومعبّرة عن مصالح الفئات الشعبية.
ولكان أوقف سياسة إضعاف الجامعة الوطنية بالتفريع والتمزيق وحرمانها من الإمكانات المادية، ومحاربة المستوى الأكاديمي بالمحاصصة الطائفية والمذهبية، ثم بالترخيص لمجموعة من الجامعات ذات الهويات الدينية أو المذهبية تأتي رديفاً للجامعات الأجنبية، فتحاصر الجامعة الوطنية وتقزمها وتكشف »يتمها« وجناحها المهيض..
ولكان عزّز التعليم الرسمي، فلم يقدِّم عليه التعليم الخاص، وهو في كتلته الأساسية في يد المؤسسات الطائفية والمذهبية أو يدور في فلكها، ويندرج في خانة المحاصصة الطائفية،
ولكان أوقف سياسة التقاسم التي أنعشت وكرّست المذهبية وجعلتها أقوى مما كانت خلال الحرب.
ولكان حمى الإدارة من فسادها الداخلي المحمي بفساد أهل السياسة وقد تحصنوا وحصنوا الفاسدين بتميمة المذهبية أو الطائفية..
ذلك كله كان مطلوباً ومنتظراً ومتوقعاً قبل سنوات وليس قبل أسبوع،
وهو لم يتأخر بالمصادفة قطعاً بل لأن الوضع الطائفي هو منطلق قيادات البلاد، يستولدها فتدين له بوجودها ثم تحميه وتغذيه لتبقى، وتعيد إنتاجه مجدداً ليضمن استمرارها. ولأنه تأخر فقد ضعفت المؤسسة الجامعة وعلى رأسها الدولة ومؤسساتها،
وهكذا لم تؤد الانتخابات النيابية وفق قانون متخلف إلى إضعاف الطائفية بل إلى تعزيز المذهبية وضرب دور المواطن وقدرته على التأثير،
وعبر مجمل الممارسات، كانت الوحدة تتعزز بين الطائفيين في حين تتبعثر صفوف القائلين بمشروع الدولة أو الحالمين بقيامها لعلها تؤمنهم أو تأخذ بيدهم لينالوا حقوقهم كمواطنين.
وفي لحظة الانقسام الكامل بين أطراف السلطة، والتي تعكس انقساماً حاداً بين اللبنانيين، بدا وكأن المؤسسة الدينية هي فقط المتماسكة والموحّدة والمنتصرة والمرشحة لأن تتحوّل إلى مرجعية أولى، وربما وحيدة، في البلاد… وربما إلى قيادة سياسية،
لقد شكلت هذه المرجعية، في السنوات الماضية، ما يشبه قيادة ظل للمعارضة ولكنها الآن تتقدم إلى موقع »حكومة الظل« فتمنع وتمنح وتحرم وتحلّل وتجيز وتلغي من موقع يبدو وكأنه فوق الدولة وصاحب حق بالوصاية عليها عبر وصايته على الحكم.
* * *
لم يكن ما جرى صاعقة في سماء صافية.
لقد افترض بعض الحكم أنه يوجه ضربة إلى الطائفية السياسية،
لكن الضربة طاشت وأخطأت هدفها، وها نحن نعاني من ارتدادها على الحكم.. والأهم على الشعب.
إن الحكم في أزمة، بل هو على حافة الخطر،
أما المؤسسة الدينية فتشهد ازدهاراً وانتعاشاً لم تعرفه في أي يوم،
ولن تنجح »المعارضة من قلب الحكم« في إحداث انقلاب سياسي في البلاد،
وليس من حق أي »رئيس« أن ينتقل فجأة إلى موقع المعارض الأول، بينما هو قد تمتع وما يزال يتمتع بنِعَم الحكم ومنافعه.
كما أن اللجوء إلى الشارع لن يقوي مؤسسة الحكم، بل سيكرّس انقسامها وضعفها، وسيكون المواطن في حقوقه السياسية العامة كما في حريته الشخصية هو المتضرر الأول،
ومع التقدير لشجاعة الرئيس الياس الهراوي، التي لا تحتاج إلى أدلة أو براهين جديدة، فإن اختياره للموضوع والتوقيت والمناخ لم تكن جميعاً ملائمة، بغض النظر عن عدد »الأصوات« التي نالها مشروعه للزواج المدني الاختياري، أو عن مبرراته ومسوغاته القانونية والاجتماعية، وهي بمجملها وجيهة، لكنها تحتاج إلى إعداد أفضل وزمن آخر.
المهم الآن أن يستعاد الشارع، وألا يترك للتطرف الديني والمذهبي، حتى لو تلطى خلف المرجعيات الشرعية للطوائف جميعاً،
المهم أن تستعيد الدولة موقعها وهيبتها، وأن تتوقف معاول أهل الحكم عن تهديمها بمنطق »إذا مُتَّ عطشاناً فلا نزل القطر«.
والمهم الآن أن تُسحب الشعارات والمثل والأهداف والطموحات الشعبية من سوق المزايدات الطائفية والمذهبية حتى لا تعهر أو تجهض أو يتم اغتيالها علناً وفي الشارع بوصفها ارتداداً أو خروجاً على الدين: يستوي في ذلك إلغاء الطائفية السياسية أو حتى الزواج المدني.
إن أقصى الطموح الآن أن تظل الطريق مفتوحة نحو هدف سام كإلغاء الطائفية السياسية، ولو بعد حين، ومن بعدها وفي ظل سيادة الدولة والقانون ومناخ الحرية يمكن تحقيق مطلب جدي كالزواج المدني..
فإذا لم يكن هذا الطاقم القائم بالحكم قادراً على إنجاز مثل هذه المهمة، التي يقول البعض إنها قد تلغيه، فلا أقل من أن يتركها لمن يقدر عليها، ولو بعد جيل أو جيلين..
اللهم إلا إذا كان الهدف التعطيل المطلق لإلغاء النظام الطائفي، اليوم وغداً.
* * *
من غير المقبول أن ينشغل الناس جميعاً بمثل هذا العبث المؤذي بينما إسرائيل تشغل الدنيا بمطالبها من لبنان ومن المجتمع الدولي لكي »يسحب تأثيراته« منها من دون أن تنسحب منه.
لا يمكن القبول بأن ينصرف الحكم عن بذل الجهود لتحرير أرضه، بينما أمين عام الأمم المتحدة يتحرك في قلب المناورة الإسرائيلية، لينهمك في ما يقسم المواطنين ولا يوحدهم، بل وفي ما قد يلغي دورهم الوطني الفعال وأبرز عناوينه المقاومة الباسلة للاحتلال، ليعيدهم مجرد رعايا خاضعين للإرهاب في دينهم وفي دنياهم.
لا بد من أن يوقف الحكم هذه الحرب على الدولة والمواطن،
لا بد أن يتوقف الحكم عن ضرب المؤسسات والمجتمع الأهلي.
لا بد من استعادة الشارع وعدم التخلي عنه للمؤسسة الدينية تتحكّم فيه وتقوده ضد تطلعات المواطنين وحرياتهم.
لا بد من وقف »حرب الرؤساء«،
فلا هكذا يتم التمديد، ولا بهذا الأسلوب تزيد مكانة المجلس النيابي ولا بهذه الطريقة يتم تبديل الحكومة،
لقد كنا نعيش في ظل حالة تصريف أعمال،
وها نحن ننتقل لنعيش في حالة تعطيل آمال..
إنها البطالة السياسية!
هل مقدَّر علينا ألا ينتهي أي عهد إلا وقد انتهت معه الدولة؟!

Exit mobile version